الاتهامات بهدم المجتمع وتشويه صورة البلاد أو الوصم بتعبيرات من نوعية “النسوية غير المسئولة”، عادة ما يتم توجيهها لكثير من الناشطات في أي حراك نسوي يرفض نوعًا أو آخر من العنف أو الظلم ضد النساء.
ورغم وجود بعض اللبس عند البعض، وأيضًا نزعة راديكالية عند البعض الآخر إلا أن الحقيقة الأساسية هي أن الغالبية يدركون جيدًا الفرق بين رفض السلطة المجتمعية على أجساد النساء وبين رفض المجتمع نفسه.
فالهدف من العمل العام النسوي، هو بالأساس تطوير وخدمة هذا المجتمع ووقف انتهاك النساء، وهو ما سيعود بالنفع على البشرية كلها نساء ورجالاً.
تطور المجتمعات البشرية أنتج الذكورية لكنه أيضًا، وبعد وعي النساء بمعركتهن أنتج النسوية، والمعركة الآن هي نشر مزيد من الوعي النسوي في المجتمعات المختلفة، وليس رفض تلك المجتمعات والانفصال عنها.
فالمجتمع ليس وحدة واحدة متناسقة، المجموعات النسوية تركيبات مجتمعية، والأسر الداعمة للنساء وحدات مجتمعية وجماعات الصديقات الداعمات وحدات مجتمعية.
وهي مكونات ضرورية لدعم النساء وبالتالي لا يمكن معاداتها، وإلا سنكون كالخلايا السرطانية التي تهاجم الجسد بدلاً من مهاجمة المرض.
الغالب في البيئات الاجتماعية المختلفة هو ظلم النساء وقهرهن، والمعركة مع تلك البيئات ليست إعلانًا للحرب عليها ولكن على “ظلمها للنساء” والفارق كبير جدًا بين الاثنين .
فتغيير المجتمعات، يستلزم رفض السلوكيات المعادية للنساء دون تجاوز هذا الرفض إلى كل المجتمع والانعزال عنه.
فالعزلة لن تنتج مجتمعًا جديدًا ولكنّها ستتيح للقيم الذكورية الاستمرار والتفشي، لأن من يحاولن مواجهتها يخرجن طواعية وبشكل تام عن الحياة المشتركة بدلاً من بذل الجهد لتغييرها.
الانعزال عن جزء من المجتمع ممكن لكن رفض كل مكونات المجتمع هو الجنون بعينه، فالتغيير لا يأتي إلا من خلال تغيير الوعي الجمعي وخلق مناخ اجتماعي وثقافي يقبل التغيير ويرفض السلوكيات الذكورة المتوارثة.
هو عملية بناء نسق علاقات جديد بين النساء والرجال، وهو ما لا يمكن أن تحدث بمعزل عن المجتمع.
السلطة الذكورية نشأت عبر تاريخ من احتكار المعرفة وتشكيل العقول وخلق تصور عن العالم الاجتماعي يصلح فقط، لتكريس الهيمنة الذكورية واستعباد النساء.
ومن هنا، يأتي دور النسوية في توفير معرفة جديدة عن وضعية النساء، والفئات المضطهَدة من وجهة نظر خارج سلطة الفئات المهيمِنة (الذكورية).
تلك المعرفة لن تنتشر في الفراغ ولكن ستنتشر في المجتمعات، والرفض الكامل للمجتمعات وازدرائها لن ينتج عنه أبدًا نشر الوعي والمعرفة الجديدين.
فالنسوية، في أحد تعريفاتها هي «مجموعة من التصورات الفكرية والفلسفية التي تسعى لفهم جذور وأسباب التفرقة بين الرجال والنساء، وذلك بهدف تحسين أوضاع النساء وزيادة فرصهن في كافة المجالات. النسوية ليست فقط أفكار نظرية وتصورات فكرية مؤسسة من الفراغ، بل تقوم على حقائق وإحصائيات حول أوضاع النساء في العالم، وترصد التمييز الواقع عليهن سواء من حيث توزيع الثروة أو المناصب أو الفرص، وأحيانًا حتى احتياجات الحياة الأساسية من مأكل وتعليم ومسكن وغيره. النسوية هي إذًا وعي مؤسَّس على حقائق مادية، وليست مجرد هوية».
أي أنها تهدف لعدالة حقيقية ومساواة وفرص متكافئة بين النساء والرجال من أجل مجتمع أكثر تطورًا وتقدمًا.
وهنا ينبغي التأكيد على أن الذكورية لا تلقي بآثارها السلبية على النساء فقط، ولكن على الرجال أيضًا فهي تفرض عليهم نسقًا للحياة يحملهم بأعباء إضافية، لإثبات جدارتهم بـ”الرجولة” وتمكنهم النسوية من التخفف من تلك الأعباء.
ففي كتابه “الهيمنة الذكورية”، أوضح عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو» أن «للامتياز الذكوري كلفة كبيرة يدفع ثمنها الرجال أيضًا، بدءًا بالتوتر الناجم عن تكثيف كل الجهود لممارستها والحرص عليها، سواءً ببذل جهد خاص في الممارسة الجنسية أو بتعاطي مواد مهيجة، أو في الخوف الوسواسي من العجز الجنسي».
ذلك الثمن، قد يشمل أيضًا تكليف الرجال بدفع مهور وتأثيث شقة الزوجية والإنفاق على الأسرة -على الأقل نظريًا.
كما تضعهم المنظومة الذكورية تحت ضغط كونهم مسؤولين عن نساء العائلة وعن أخلاقهن وسلوكياتهن، وهو ما يمكن للنسوية تفاديه لأنها تعتمد على مساواة حقيقية في المجالين العام والخاص ويكون على المرأة أيضًا أن تشارك في تكلفة الحياة المشتركة، وأن تتحمل المسؤولية منفردة عن سلوكياتها الشخصية.
الوعي النسوي لا يمكن فصله عن المجتمع ولا يمكن له الانتشار في الهواء، فهو كما تقول الدكتورة هالة كمال، في كتابها: “سؤال وجواب حول النوع والنسوية”: يشير إلى إدراك النساء لوضعهن الثانوي في المجتمع باعتباره وضعًا ظالمًا مفروضًا عليهن في السياق الأبوي السائد.
ولا يقف الوعي النسوي عند مرحلة الإدراك والرفض، وإنما يتجاوز ذلك إلى مرحلة الفعل الإيجابي المتمثل في التضامن والتحالف مع النساء اللاتي يشاركهن هذا الإدراك.
والسعي لتغيير الواقع الظالم بطرح رؤية بديلة أساسها العدل والعمل على تحقيقها. وهو تعريف بالتالي يوضح أساس الحراك النسوي المستند إلى الفكر والفعل، ويبلور مفهوم العمل النسوي باعتباره عملاً سياسيًا ساعيًا لإحداث تغيير على أرض الواقع.
هنا تكمن المعضلة الحقيقية التي تواجه الحركات النسوية المصرية – والعربية عمومًا- وهي الانفصال عن الكثير من مكونات المجتمع وبقائها في كثير من الأحيان كحركات نخبوية لا تتواصل مع المهمشات والفقيرات ممن يعانين قهرًا مضاعفًا.
هذا الانفصال الذي تراجع بعد الحراك الثوري في يناير 2011 وخلال السنوات التالية لكنه عاد ليتجذر مرة أخرى مع الإغلاق السياسي للمجال العام على الجميع نساء ورجالا.
وبالتالي فالسؤال الذي يجب البحث عن إجابة سريعة له، هو: كيف يمكن العمل على الأرض رغم كل المعوقات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادي سعيًا لتغيير حقيقي في المجتمع؟.