يظل الماضي حاضرًا فينا ومؤثرًا في أشكال المستقبل التي نبتغيها، يحاورنا أحيانًا، ويهاجمنا ويفسد أحلامنا أحيانًا أخرى، ويطاردنا في كل الأحيان، ويبقى دائمًا فاعلًا فينا، يطرح علينا حلولًا جاهزة، لا نبذل فيها جهدًا، ولا نتحمل فيها عنتًا، ومن ثم تصبح حلولًا شديدة الإغراء، بالغة الأمان بالنسبة لمن يستهويه الماضي (الذي عادة ما يبدو عظيمًا ومجيدًا)، وبالنسبة لمن يرغب في إبقاء الوضع على ما هو عليه، ويخشى تداعيات التجديد، فيلجأ للماضي طالبًا فيه السكون والاستقرار، ويفضله عن الحلول التي لم يتم تجريبها، والتي قد تأتيه بما لا يعرفه من قبل، أو قد تزحزح مكانته التي أنشأها عبر سنوات مستندًا على ما يفرضه الماضي من قيم وما يفرزه من أشكال حياتية، وتظل من ثم الأسباب وراء كل أزمات الواقع الراهنة عدم قدرة المجتمع (أفراد ومؤسسات) على تنفيذ توصيات وحلول الماضي كما ينبغي.
إن التأريخ للعقل والتباس آلياته يجعلنا نعي ذاتنا ومن ثم يطرح السؤال نفسه علينا، هل يمكن لنا التفكير بمعزل عن هذه الآليات التي أحيانًا ما يستخدمها العقل في لحظات سهونا أو بطريقة تكاد تكون لا واعية، وإعماله بطريقة مناسبة بعيدًا عن أخطائه وأوهامه التاريخية، فلا يمكن لنا التخلي عن/أو إزاحة هذا المنتج الإنساني على مر التاريخ البشري الموغل في القدم بل يمكننا الوعي به.
ومن ثم فإن تأملنا لطرائق التفكير والذي قد يبدو عدائيًا أو يميل لإدانتها أحيانًا، لا يعني بأي حال قبولنا لإزاحة العقل جانبًا، بل لعله يعني التقدم بحذر، والإيمان بأن أولئك المزودين بإيمان “مفرط” بأفكارهم لا يمكنهم إحراز تقدم نحو كشف ما، بل إنهم معرضون لخطر الدخول في طور الجمود.
يتبنى (العقل) آليات تفكير تنتمي لزمن التكوين الأول، عندما كان الإنسان في طوره البدائي، كان يرغب دائمًا في تثبيت اللحظة الآنية، فالعالم يبدو وكأنه حلم يفلت من التعين، بأسلوب يدعو إلى التوتر، ويضع العقل في قلق دائم، وحين يصل إلى نقطة اليأس، يتعين الحلم بكثافة غامضة، مريبة، فيرتد العقل على ذاته فاحصًا، فتستغلق عليه الأفكار، وتتلألأ الأشياء من جديد، وتعيده الدهشة إلى نقطة البدء، التي تعني في اللحظة نفسها ” سيلان الصيرورة ” فيتمنى وضع مشهد ما من الصيرورة في متناول يده، ليتعرف عليه ويدرك مغزاه.
وربما نجحت طرائق التفكير هذه في إنتاج معارف متنوعة، تطورت عبر الزمان والمكان، كان سعيها الأول هو محاولات للتفاعل مع هذا الواقع الخطر الذي يحيط به، فالطبيعة لم تكن دائمًا أما حنونًا، بل أحيانًا ما كانت قسوتها ترغمه على فعل أشياء تبدو مستحيلة، مثلما دفعت مخيلته تمتلئ بمخاوف لا حصر لها، فالإنسان البدائي (الذي يتلبسنا أحيانًا)، من خلال نظرته “الحيوية” للطبيعة” يضع نسقًا أوليًا للتواصل مع العالم، عبر إضفائه الحياة على كل مفرداته، حيث يقدم ما هو “مادة” على ما هو “فكر”، وما هو “آني” على ما هو ” آت”، فالوجود يتبدى بكثافة في اللحظة الآنية، دون غيرها من اللحظات، حيث الحضور المادي أكثر كثافة من الحضور المجرد، وغياب المدلول يجعل التواصل مع العالم أكثر يسرًا من التواصل مع “الذات”، فيرى الإنسان ذاته بوصفه مفردة ضمن مفردات الطبيعة، فيتأسس الوعي بالعالم، وينشغل الإنسان به، وفي هذه اللحظة يصبح الحديث عن العالم فوضويًا، يختلط فيه العلم بالخرافة، والخرافة بالمنطق، وجميعهم يغلف بغلاف ديني مقدس، وعندها يطرح السؤال نفسه من جديد، وتشتد الأزمة المعرفية، وتختلط الأوراق، ويقف العقل حائرًا لا يلوي على شيء.
وربما تكون اللحظة الفاصلة فيما يتعلق بهذا المفهوم ــــــ الحقيقة ــــــ هي تلك (اللحظة) التي أعلن فيها (أينشتاين) نظريته في النسبية، ففي الوقت الذي سيطر فيه (نيوتن) على القرن التاسع عشر بقوانينه عن (الحتمية)، وعن (المادة/الكتلة)، والتي أدت بدورها لتأثيرات فكرية على مضمون ما طرحه المفكرون والفلاسفة، بل وعلماء الاجتماع والاقتصاد أيضًا، فأصبحت الأحاديث في العلوم الإنسانية تشي باعتبارات )يقينية( عبر قوانين تبدو (صارمة) مثلها مثل قوانين نيوتن الفيزيائية، وبدت الحال وكأنه (نهاية التاريخ)، وبدا العصر وكأنه عصر انتصار العلم (العقل( – إذ تمكن العلم من تفسير ووضع القوانين لكافة الظواهر التي كانت تبدو مربكة في منظومة العلم الفيزيائي ما قبل نيوتن – وعلى العلوم الإنسانية أن تلحق بركبها إذا أرادت أن يتم الاعتراف بها بوصفها (علما).
وبينما الحال على هذا النحو، أتت بدايات القرن العشرين بوصفها حقبة تعبر عن تشكك علمي في التيار الحتمي/اليقيني الذي أطلقته قوانين نيوتن، إذ أن نظرية النسبية لحظة طرحها قد حسمت هذه المسألة لصالح نسبية المعارف ومن ثم نسبية (الحقيقة)، وهو الأمر الذي استدعى مراجعات كبيرة على كافة المستويات العلمية والإنسانية، حيث لم يعد الوصول لليقين مطلبًا علميًا أو فكريًا يسعى إليه أحدهم، ولم يعد مفهوم (الحقيقة) يشكل جزءًا من المنظومة المعرفية التي تنظم رؤية الإنسان للعالم، فالتغيرات التي طرأت على منظومة المعرفة الإنسانية، والمراجعات التي تمت، قد أدت إلى تغييرات جذرية في بنية (العقل الإنساني) ــــ أقصد هنا طرائق التفكير ــــ إذ لم يعد هناك أحاديث عن حتمية أو مادة/كتلة، بل أصبح الحديث عن مسارات نظنها هكذا، وعن المادة/الطاقة، وعن موقف مكاني زماني يجعلنا نرى المشهد من جانب من الجوانب، وعن تغيرات وتبدلات قد تطيح بمنظومتنا المعرفية في أية لحظة، لصالح (تفسيرات) معرفية جديدة تبدو أكثر إقناعًا ومنهجية، وأصبح هذا الوضع هو الوضع السائد على المستوى العلمي.
نستطيع إذن أن نتوصل إلى مجموعة من النتائج عندما نمتلك ما نظن أنه (الحقيقة)، فإذا كنت تظن أن الحقيقة في عالم آخر غير عالمنا، يمكنك أن تنظٌــم علاقات بينية بين العالمين، وترى في كل منهما منظومة الحقيقة، وإذا كنت تتصور أنك تمتلك بعضًا/جزءًا من الحقيقة ستتمكن أيضًا من تقديم مفهوم متكامل للعالم، مثلما يمكنك فعل هذا إذا تركت التصورات العقلية جانبًا، وذهبت نحو النتائج العملية المباشرة، وفي كل الأحوال يسعى الإنسان إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي من شأنها أن تمنحه تصورًا/تفسيرًا متكاملًا للعالم، ويقوم العقل الإنساني باستكمال هذه المنظومة ذاتيًا وفق ما يمكن أن يدركه بوصفه مجموعة التصورات المبدئية حول (الله ـــــ العالم ــــ الإنسان) ومن ثم يبني الإنسان منظومته الخاصة، فلا أحد ينكر أن هناك أفكار مجردة ينبغي أن نعي بها عندما نتوسل طريقا إلى المعرفة، وهذه الأفكار لا يمكننا أن نرى لها تمثلات عينية، أو تعبيرات مادية في الواقع، مثلا عندما نتحدث عن (الحق ـــــ الخير ــــــ الجمال ـــــ الحب ـــــ الحرية …إلخ) فنحن لا نستطيع أن نضع، أو نتخيل هذه الأفكار في جسد مادي ما، مثلما نستطيع أن نفعل هذا، عندما نتحدث عن شيء مثل (الحصان ـــــ الماء ــــ كوكب الأرض ـــــــ النار ــــ الذرة … إلخ )، فبينما ندرك الأولى عن طريق (العقل) ندرك الثانية عن طريق (الحواس)، وربما عن طريق امتداداتها مثل الميكروسكوب أو التليسكوب أو غيرها من الأدوات المعينة للحواس، ونستطيع أن نصدق، أو نكذب الشخص عندما يتحدث عن الثانية، بينما لا يمكننا أن نتهم أحدهم بالكذب، أو ننعت أحدهم بالصادق، عندما يدلي بدلوه في الأولى.
وم هنا يمكن ببساطة اكتشاف أن لكل منا تفسيراته الخاصة، والتي يمكننا أن نطلق عليها (الحقيقة)، غير عابئين بتصورات الآخرين حول المفهوم ذاته، وعادة ما نكون مستندين في حكمنا هذا إلى مجموعة من العناصر المعرفية المنهجية، والمقدمات والمصادرات المعرفية، التي تجعلنا نزهو بقدراتنا على اكتشاف واستنباط (الحقيقة)، وكلنا ثقة في ما توصلنا إليه، ويقوم كل منا بفعل مماثل أو مشابه، يجعل التساؤل حول أي من هذه التصورات/التفسيرات يمثل مفهوم (الحقيقة) مصدرا للإزعاج بالنسبة للبعض منا، وخاصة هؤلاء الذين يظنون أن (هناك) تقبع (الحقيقة)، وأنهم بمساعدة بعض النصوص التي يرونها (مقدسة)، أو قطعية، أو عابرة للزمان والمكان، قد تمكنوا من الوصول إليها، ومن ثم تصبح (الفرق الأخرى) ـــــــ التي تظن بنفس الثقة أنها تمتلك الحقيقة ـــــــ (مخطئة)، وينبغي على الفئة التي تمتلك (الحقيقة) إما هدايتها للطريق الحق، أو مقاتلتها حتى تعود إلى صوابها.
في واقع الأمر أن الاختلافات المنهجية والمعرفية في رؤية العالم، والتي أنتجها الإنسان على مر عصوره لم تنته، بل تتواجد جنبًا إلى جنب في كل المجتمعات الإنسانية، وأحيانًا ما تتصارع، حيث تمثل هذه الرؤى القاعدة المعرفية/المنطقية، التي تتيح لثقافة ما أن تُقنع مؤيديها بجدوى استمرارها، ولا تكمن المشكلة في وجود تصورات متباينة للعالم أيًا كانت هذه التصورات، بقدر ما تكمن في أساليبنا في التعامل معها، ففي الوقت الذي تتطور فيه العلومُ الطبيعيةُ والإنسانية، وتزداد قدرة الفرد على التعامل مع الطبيعة، لا تقدم هذه العلوم الإجابات النهائية عن بعض الأسئلة التي طرحها الإنسان منذ وجوده وحتى هذه الحظة الراهنة، وإن كان يراها البعض أسئلة لا يمكن الإجابة عليها، يقدم البعض (إجابات)، ومن ثم فالانتصار لإجابة ما لا يمثل جوهر المشكلة المجتمعية، بينما تكمن المشكلة في رغبة البعض في تسييد (رؤية) ما بوصفها تمثل (الحقيقة).