لم تتكون ملايين المباني والوحدات السكنية المخالفة في مصر بين يوم وليلة، ولكنّها مجرد مرآة شارحة لمشكلات مزمنة تتعلق بفساد الأجهزة المحلية، وغياب التخطيط الاجتماعي، والاقتصادي، وتجاهل مشكلات الزراعة المصرية، وانخفاض العائد منها.
على فرع النيل بمدينة بنها، ظهرت خلال السنوات الثلاث الماضية، عشرات الأبراج المتراصة، التي لا تزال في طور التشطيب، والتي تجاوز بعضها الـ16 طابقًا.
يتكرر الأمر ذاته على شريط السكك الحديدية بطول محافظة القليوبية، الذي كانت الأراضي الزراعية تحيطه من الجانبين قبل 5 سنوات فقط، وتحول حاليًا إلى مجموعة من العقارات لا تقل عن ١٠ طوابق، تتخللها مباني دميمة بالطوب الأبيض، وأحواش خالية باعها ملاكها لمشترين، كانوا يأملون في تحويلها لوحدات سكنية.
ووفقًا للإحصاءات الرسميّة، يبلغ عدد المباني المخالفة بمصر بالكامل نحو 2.8 مليون مبنى بما يمثل قرابة الـ20 مليون وحدة سكنية، لكنّ بعض الخبراء يرفعون الرقم إلى ٣ ملايين وحدة، بعد حدوث موجة جديدة للبناء المخالف، خلال أزمة كورونا لا تقل عن 300 ألف مبنى مخالف، لانشغال الحكومة بمواجهة الوباء.
تتوزع المخالفات حاليًا بين البناء دون ترخيص بنحو مليون و764 ألفًا و838 حالة، وبناء دون ترخيص وأدوار مخالفة بنحو 396 ألفًا و87 حالة، وتغيير الاستخدام من سكني إلى تجاري أو إداري، ومخالفة شروط الترخيص 114 ألفًا و921 حالة، ومخالفة خط التنظيم (الاعتداء على الشارع)، 45 ألفًا و313 حالة.
تورط المحليات
في محافظة الغربية، ظلت أراضي طرح النهر الملاصقة للترع الكبيرة والخاضعة لوزارة الموارد المائية والري سوقًا نشطة للغاية، بفضل المحليات التي كانت تحصل على عمولات، مقابل ترك الملاك يشيدون وحدات سكنية وقاعات للأفراح، ومخازن من طوابق متعددة لشركات الأعلاف، وحتى مزارع غير مرخصة.
لم تكتف الأجهزة المحلية بغض الطرف، بل وصل بها الحال إلى التورط في المخالفة ذاتها، مثل: عمدة قرية السنطة في الغربية، الذي كان أو من خالف قرارات الحكومية وبنى معرضًا للسيراميك على مساحة ٢٠٠ متر، وفوقه 3 أدوار سكنية، ولم تحرر محضر ضده، رغم وقوع البناء على طريقين رئيسيين، يمر عليهما عشرات الآلاف يوميًا.
تمثل المحليات نقطة خلاف رئيسية بين الحكومة والمنتفعين بالوحدات المخالفة في ملف التصالح، حاليًا، فالأجهزة المحلية تعيد اللعبة ذاتها بالحصول على رشاوى مالية تقدر بنحو ٨ آلاف جنيه، من أجل إصدار تقارير تفيد صلاحية البناء للتصالح، لتصبح كالمنشار الذي استفاد من المخالفة، وقت وقوعها، وأعاد الاستفادة منها وقت التصالح عليها.
وحدد القانون 9 إجراءات للتقدم للتصالح، وهى: تقديم الطلب، وفقًا للحي أو الجهاز التابعة له الوحدة المخالفة، ثم سداد قيمة رسم الفحص، ودراسة الطلبات لإصدار قرار بالقبول أو التصالح، وحال قبوله تدفع مقابل التصالح، ويحدد حسب المنطقة وسعر المتر فيها، وتبدأ قيم التصالح من 50 وحتى 2000 جنيه للمتر.
وتحصل اللجان المشكلة للتصالح سواء من إدارات الأحياء والمحليات على نسبة من حصيلة الغرامات، وفقًا للمادة الثامنة من قانون التصالح التي تنص على حصول أعضاء تلك اللجان على “نسبة لا تزيد عن 1% من إجمالي المبالغ المحصلة”، ورغم تغليظه القانون العقوبة لكنّها فتحت الباب على مصراعيه على أنماط جديدة من العمولات.
خطر قومي
ترى الحكومة أن المخالفات تمثل خطرًا على الأمن الغذائي لمصر، فالأمر لا يتوقف على مبنى مخالف، بل في نمط المخالفة ذاتها، فكثير من المخالفين يبنون وسط قطعة الأرض، ويبورون مساحات واسعة أمام وخلف المبنى، قد تصل أحيانا إلى ١٥ قيراطًا (القيراط يعادل ١٧٥ مترًا).
سكان الريف ذاتهم بدأوا يشعرون بتلك التداعيات على نمط حياتهم، مثل: أماني محمد، معلمة الابتدائي القاطنة بإحدى قرى محافظة الغربية، التي تقول إن السوق الأسبوعية للقرية، التي يفترض أن مهنتها الرئيسية الزراعة، تشهد ندرة في أصناف تقليدية من الخضراوات التي كان الأهالي يزرعون كميات كبيرة منها، والتي تفد من وادي النطرون، على بُعد عشرات الكيلو مترات.
تضيف “أماني” أن أراضي طرح النهر في القري التي كان الاهالي يستأجرونها من وزارة الموارد المائية والري مصدر الخضراوات الورقية، فمساحتها الضيقة التي لا تتجاوز عرضا 5 أمتار بطول الترع وفرع النيل، جعلتها صالحة لنوعيات من الخضر، ومع تبويرها اختلت سوق القرية.
وتتابع: ” لك أن تتخيل أن قرية ضاربة في الريف تستهلك حاليًا ألبانًا وأجبانًا معلبة مثلها مثل المدن لتناقص مساحات الأراضي وتبويرها”.
تتركز المخالفات حاليًا بمحافظات زراعية الإنتاجية، مثل: الشرقية، والغربية، والبحيرة، وكل منها كان متخصصًا في نوعيات معينة من الإنتاج لأغراض الاستهلاك المحلي والتصدير، وتؤكد التقارير الرسمية أن إجمالي الأراضي الزراعية التي تم تبويرها تعادل 400 ألف فدان.
وتحتل الشرقية، حاليًا، المرتبة الأولى في المخالفات بكل فئاتها، سواء بناء دون ترخيص وعددها نحو الـ156 ألفًا، أو أدوار مخالفة تبلغ نحو الـ20 ألفًا، فضلاً عن مخالفة شروط الترخيص8039، وتعدّي خط التنظيم 1906، ومخالفات أخرى عددها قرابة الـ13 ألف، بينما تحتل البحيرة المركز الثاني بنحو 32 ألف مخالفة.
تتصدر الشرقية إنتاج العديد من المحاصيل الاستراتيجية بمصر فهي الأولى في إنتاج القمح، والذرة، والبقوليات، وتساهم في إنتاح بعض النباتات الطبية والعطرية، والفاكهة، لأغراض الاستهلاك المحلي، مثل: الأعناب.
ويصف البعض البحيرة بأنها سلة غذاء مصر فالقطاع الزراعى يسيطر على نحو 61% من إجمالى مساحتها برقعة زراعية تقدر بنحو 15 ألف فدان، وتتصدر المحافظات في تصدير الخرشوف، والموالح، كما تأتي في مراتب متقدمة في إنتاح بنجر السكر، والقطن، والأرز.
ويقول الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي، إن الإحصاءات الرسميّة تقدر مساحة الأراضي التي تم تبويرها نحو 400 ألف فدان، لكنه يميل لتقديرات الخبراء الذين يرفعون الرقم إلى مليون فدان خلال الـ40 عامًا الماضية، في ظل عدم دقة بعض الإحصاءات الرسميّة.
وتبلغ رقعة مصر الزراعية حاليًا 9.4 مليون فدان؛ منها 3.3 مليون فدان أراضٍ جديدة، وتبلغ تكلفة الفدان الواحد في الصحراء من 150 ألف جنيه إلى 200 ألف جنيه.
ويقول “صيام” إن الفدان في أراضي الوادي والدلتا يساوي 5 أفدنة فى المناطق المستصحلة من حيث السعر، والإنتاج، كما أنها أعلى بكثير في الخصوبة، وأدت موجات التبوير المستمرة في تحول مصر لدولة تستورد 55% من منتجاتها الغذائية، وحدوث فجوات في الغذاء، وتحولها لأكبر المستوردين في سلع أساسية، مثل: القمح.
بلغة الأرقام، يقدر الخبراء قيمة الأراضي التي تم تبويرها بنحو تريليون جنيه، لكن البعض يعادلها بكمية المحاصيل التي كان يمكن زراعتها فيها، ويؤكد أنها كانت كافية لسد فجوة استيراد القمح بشكل كامل.
تحذير حكومي
تقول الحكومة، إنّها لن تسمح بالبناء على متر زراعي واحد، باعتبار أن المشكلة تهدد الأجيال القادمة، لكن سكان الريف يعترضون على تلك النقطة تحديدًا، على اعتبار أنهم لن يتركون أراضيهم الزراعية، ويذهبون للسكن بالمدن الجديدة، دون أن يملكوا عملاً هناك، وبعضهم يقول إن “الدولة تريد فلاحًا لا ينجب”.
يحمل المزارعون في محافظة، مثل: الغربية الحكومة المسؤولية، فمحافظتهم تقع حبيسة بين فرعي النيل دون ظهير صحراوي، ويتحدثون عن مجاملة لمحافظة المنوفية التي تم اقتطاع مدينة السادات التي كانت جزءًا من محافظة البحيرة، لكي يكون لديها ظهير في التسعينيات وعدم التفكير فيهم.
قبل سنوات، قدمت مجموعة من النواب مقترحات للحكومة بضم وادي النطرون للغربية لمنحها مساحة صحراوية للتوسع فيها سكنيًا وزراعيًا، لكن المشروع تم ودأه لأسباب غير معروفة، وتسبب الأمر في موجة من البناء من العشوائيي بالقرى المتاخمة لمدن المحافظة خاصة عاصمتها طنطا كمكان للتوسع، في ظل ارتفاع سعر المتر داخل الأخيرة ليتراوح بين ٨ و١٥ ألفًا.
ويعزو البعض مشكلة البناء في الريف المصري إلى العادات المتجذرة بضرورة بقاء الأبناء مهما كبروا بجانب أسرهم، في بيت واحد ورفضهم شراء قطع في المساحات التي دخلت الكردون، لكن المشكلة تتداخل فيها أيضًا تغيرات الاقتصادية التي دخلت الريف منذ السبعينيات.
يقول عبدالهادي بدر، مزارع، إنه اضطر لتبوير مساحة من أرضه لصالح بناء بيت للزواج، بعدما عجز عن شراء ١٠٠ متر في الأراضي التي دخلت الحيّز العمراني لقريته، فالملاك لا يبيعون أراضيهم ويحتفظون بها للمستقبل في ظل ارتفاع سعرها المستمر، أو يغالون في ثمنها، حتى بات الريف يبيع الأرض بالمتر، وليس القيراط للمرة الأولى.
تخضع الأحوزة في القرى، حاليًا لنوع من الاحتكار من قبل أصحابها، الذين أوصلوا الأسعار لمستويات خيالية إلى ربع مليون جنيه للقيراط، في ظل وجود إنهم على شراء مساحات واسعة، من قبل أبناء القرى العاملين في الخارج.
يضرب “بدر” المثل بأحد العائدين من الإمارات من أبناء قريته الذي جنى ثرورة من العمل بمجال تسويق العقارات هناك، وعاد قبل أشهر واشترى ٧ قطع مباني في أماكن متفرقة بقرابة المليوني ونصف المليون جنيه.
استعداد للرحيل
تبدو الحلول المنطقية في عرف الكثير من الأهالي في سياسة طبقها حسب الله الكفراوي، وزير الإسكان الأسبق، في عدم زيادة أسعار المتر، لأغراض السكن، أو القيراط لأغراض الاستصلاح الزراعي في المناطق الصحراوية البعيدة عن رقمين- 99 جنيهًا.
يقول محمد سليمان، خريج كلية الزراعة، إنه فكر في الرحيل مع أسرته إلى سيناء للاستفادة من مشروع لمحافظة شمال سيناء بتوفير منزل على مساحة 175 مترًا مربعًا (منهم 120 مترًا مربعًا مسقوفًا والباقي فضاء لاستغلاله فى أية أنشطة إضافية)، ومساحة 10 أفدنة، و9 صوبة زراعية، و10 خلايا نحلية، لكنه فوجئ باشتراطات مالية صعبة وبندًا ينص على ضرورة حصوله على حيازة زراعية سابقة.
يضيف “سليمان” أن الدولة إذا كانت جادة في وقف البناء المخالف ونقل الكثافة السكانية بعيدًا عن الوادي والدلتا فعليها توفير أراضي بأسعار مخفضة للغاية للمزارعين، مع الحفاظ على الخدمات الكاملة من رعاية صحية وكهرباء وشبكة طرق، ومراكز خدمات أمنية حتى تدب فيها الحياة المتكاملة.
مشكلة مزمنة
ويقول ، إن البناء العشوائي يمثل تراكمًا لفساد تجاوز النصف قرن، واستفاد من إحجام الحكومات السابقة عن وضع مخططات واضحة للمدن، إنتاج تكتلات سكنية في مناطق غير مخططة.
يقول خالد عبدالعزيز، عضو لجنة الإسكان بمجلس النواب، إن العقارات العشوائية امتدت لتشمل جميع المدن المصرية، باستثناء أربعة منها، بعدما انتشرت في ٢٢٦ من أصل ٢٣٤ ووصلت نسبة العشوائية من المبانى إلى 40%، وامتد الأمر إلى 32 ألف قرية، أضحت كل منها بجوارها عزب وكفور، تولدت من القرى الأساسية بشكل عشوائى.
وتتفاقم المشكلة في المدن التي اختفت المساحات الزراعية المتاخمة لها، تمامًا أو أصبحت وسط الكتلة السكنية ما يحول دون زراعتها مجددًا، لاستحالة وصول المياه إليها، ما يعني إضافتها عاجلاً أو آجلاً للرقعة العمرانية.