بينما تحل الذكرى التاسعة والثمانين لإعدام الزعيم والمجاهد الليبي عمر المختار، على يد الحكومة الإيطالية الفاشية، عقابًا على أعمال المقاومة التي قادها لعقود ضد الاحتلال الإيطالي لبلاده، تسعى إيطاليا وهي تصارع لتتعافى من أزمتها الاقتصادية الممتدة منذ سنوات، إلى السيطرة على ثروات “مستعمرتها القديمة” ليبيا، عبر شركة “إيني” عملاقة النفط الإيطالية.
وشركة “إيني” أو الوكالة الوطنية للمحروقات، هي شركة إيطالية ضخمة، تأسست في بداية خمسينيات القرن العشرين، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتعمل في مجال استكشاف واستخراج النفط والغاز في 85 دولة حول العالم، في أوروبا وروسيا وإيران، والعديد من الدول الآسيوية، وتقوم باستكشاف الغاز في منطقة شرق المتوسط في مصر وقبرص.
تطور أعمال “إيني” في ليبيا
تعمل “إيني” في ليبيا منذ عقود طويلة، في مجال استكشاف وإنتاج النفط والغاز، لكنها نشطت عقب الإطاحة بالرئيس معمر القذافي، بشكل واسع، محاولة السيطرة على النصيب الأكبر من النفط والغاز، ولديها الآن في ليبيا 11 رخصة تعدين، و4 لتصاريح الاستكشاف و7 تصاريح إنتاج، في 6 مناطق ليبية في المناطق البحرية لمدينة طرابلس وفي المناطق الصحراوية.
كما أعلنت “إيني” عن مشاركتها الحكومة الليبية إنشاء وتطوير محطات للطاقة الشمسية ومزارع للرياح، وهو ما سيعطي بحسب مسؤولي “إيني” إجابة للطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية للسكان دون زيادة الاستهلاك المحلي من الغاز.
وخلال عام 2018، ارتبطت أنشطة تطوير “إيني” ببدء إنتاج المرحلة الثانية من مشروع آبار بحر السلام، مع بدء تشغيل 10 آبار بحرية جديدة واستكمال تطوير معالجة الغاز، من خلال شركة “مليتة” للنفط والغاز، وهي شركة مشتركة بين المؤسسة الوطنية الليبية للنفط وشركة “إيني”، وتدير الشركة عدد من الحقول النفطية في مناطق صحراوية بمختلف أنحاء ليبيا، إضافة لثلاث منصات بحرية، وخزان عائم، وشبكة خطوط أنابيب برية ممتدة آلاف الكيلو مترات، وعبر خط أنابيب بحري يضخ مجمع “مليتة” الغاز الطبيعي إلى الساحل الجنوبي لإيطاليا.
مليتة أكبر شركة نفطية في ليبيا، ويبلغ إنتاجها اليومي حوالي 600 ألف برميل نفـط مكافئ “نفط خام، غاز طبيعي، مكثفات غازية” إضافة إلى إنتاج حوالي 450 طن من عنصر الكبريت يوميًا.
وتعد الشركة المورد الرئيسي للغاز للسوق المحلي، والذي يستخدم بالكامل لتغذية محطات توليد الكهرباء في البلاد بقدرة توليد تتجاوز 3 جيجاوات.
تعقيدات السياسة الإيطالية في ليبيا
تمثل ليبيا بالنسبة لإيطاليا أهمية استراتيجية كبيرة أكثر مما تمثله لأي دولة أوروبية أخرى، فهي تبني أمال اقتصادية كبيرة على استثماراتها النفطية في “مستعمرتها القديمة” عبر شركة “إيني”، إضافة لموقعها القريب من إيطاليا والذي يجعل لأي اضطرابات داخلية أثر بالغ على الأمن القومي الإيطالي، وهي الحجة التي تتذرع بها إيطاليا لترسيخ أقدامها في الداخل الليبي.
هذه الأهمية المرتبطة بالمصالح الاستراتيجية لإيطاليا، جعلت موقف إيطاليا مما يحدث في الداخل الليبي، الأكثر تعقيدًا على الصعيد العالمي، فقد ساندت إيطاليا حكومة الوفاق الليبية، بوصفها الجهة الشرعية القادرة على منح تراخيص استكشاف إنتاج النفط والغاز في البلاد، لكنها كانت قلقة دومًا من تحالف حكومة الوفاق ورئيسها فايز السراج مع تركيا.
وهو التحالف الذي كان من شأنه أن يطيح بتوسعات إيطاليا وأحلام السيطرة على ثروات ليبيا من الغاز والنفط، إذا ما مالت الكفة لصالح أوردغان، فأوردغان له أطماع اقتصادية في ثروات ليبيا وشرق المتوسط لا تقل عن أي طرف آخر، لذا حاولت إيطاليا المحافظة على علاقاتها بالجنرال خليفة حفتر وبقادة الجيش الليبي.
صراع مع فرنسا وتنازل أمام ألمانيا
تتخوف إيطاليا دومًا من دور فرنسا الآخذ في التوسع في ليبيا وفي منطقة شرق المتوسط، سياسيًا من خلال الاشتباك الحي مع كافة الأحداث، واقتصاديًا من خلال توسيع نفوذ شركة “توتال” الفرنسية للنفط، وهو التوسع الذي سيضر بمصالح “إيني” في ليبيا ويقلص من سيطرتها على قطاع النفط والغاز في البلاد، لصالح فرنسا.
وضع إيطاليا المعقد من المسألة الليبية، تم ترجمته في العديد من المواقف والسياسات، التي ربما تبدوا متناقضة، فبينما تتمتع إيطاليا بنفوذ اقتصادي كبير في ليبيا تحاول زيادته يومًا بعد آخر، اضطرت لقبول دور سياسي محدود قياسًا بمصالحها الاقتصادية، مقابل تعاظم دور ألمانيا عقب اجتماع برلين يناير الماضي، إذا رأت أن ألمانيا هي القوى القادرة على ردع كافة أطراف النزاع في المنطقة، وتجنب جر الصراع الليبي لمواجهات عسكرية واسعة، من شأنها أن تجعل من الداخل الليبي، والحدود الليبية، ساحات للاقتتال، فهي ترى أن هذا السيناريو سيقضي على مصالحها ونفوذها في ليبيا.
مسك العصا من المنتصف
اتبعت إيطاليا طوال الوقت سياسة مسك العصا من المنتصف، مع محاولات جر النزاع الليبي على الأرضية السياسية، فحاول جوزيبي كونتي، رئيس الوزراء الإيطالي عقد لقاء للحوار بين حفتر وفايز السرَّاج في العاصمة روما في شهر يناير من العام الحالي، لكن السرَّاج قابل المحاولة بالرفض ناعتًا حفتر بأنه مجرم حرب، لكنه التقى بهما في اجتماعين منفصلين.
قبلها بنحو شهر وفي نهاية العام الماضي 2019، التقى وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، خلال زيارة هي الأولى له لليبيا، بمجموعة من وزراء حكومة الوفاق في طرابلس، قبل أن يتجه شرقًا للقاء “حفتر” في بنغازي، ثم التقى بعقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي، في طبرق.
أزمة الاقتصاد الإيطالي
بلغ الدين العام في إيطاليا في شهر يوليو من العام 2020، نحو 2.5 تريليون يورو، بنسبة 135% من الناتج المحلي، وبزيادة بنحو 5% عن العام الماضي، وهو أعلى معدل دين في إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو تراجع جديد شهده الاقتصاد الإيطالي مدفوعًا بأزمة “كورونا” في ظل ازدياد معدلات البطالة، وانحدار شرائح اجتماعية جديدة تحت خط الفقر (١2% تحت خط الفقر)، مع استمرار عجز الموازنة الذي منعها من تخفيف سياسات التقشف التي فرضتها منذ سنوات، رغم الوعود المتكررة بتخفيض الضرائب على الشرائح الأقل دخلًا.
لكن تصريحًا منسوبًا لوزير المالية والاقتصاد الإيطالي روبرتو جوالتيري، مطلع سبتمبر الحالي، أشار إلى تعافي كبير في اقتصاد البلاد، حيث توقع توسعًا بأكثر من 9.5% في الإنتاج هذا العام.
هذا التوسع الذي يتحدث عنه “جوالتيري” منتشيًا ليس إلا خطوة في تقليل حجم الانكماش ولا يعبر عن نقلة حقيقية للأمام في طريق تحقيق نمو في الاقتصاد الإيطالي، حيث أكد جوالتيري، نفسه في تصريح تالي غالبًا كان يقصد منه تصحيح أي فهم خاطئ عن تقدم الاقتصاد الإيطالي، أن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض بأكثر من 8% هذا العام، وليس 11% كما كانت تشير التوقعات، واصفًا الوضع بأنه أفضل بكثير مما كان متوقع.
“إيني” طوق النجاة للاقتصاد الإيطالي
التوسع الاقتصادي لإيطاليا في ليبيا مسألة حيوية بالنسبة لنمو الاقتصاد الإيطالي خلال السنوات المقبلة، وهو بمثابة طوق نجاة للخروج من أزمة اقتصادية تحاصر ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، منذ سنوات طويلة.
لا يبدو أن إيطاليا تمتلك إمكانيات ونفوذ سياسي كتلك الذي تمتلكه ألمانيا أو حتى فرنسا ولكنها تعتمد بشكل أساسي على نفوذ شركة “إيني”، داخل الأراضي الليبية، حيث تقوم “إيني” بسياسات تغلغل داخل القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، فهي تجلس مع جميع الأطراف وتقدم مساعدات عينية ومادية، وتدخل في حل أزمات الكهرباء والمياه والصحة وغيرها.
كما تلتقي دومًا بقيادات عشائرية ليبية، يقول محللون إن “إيني” تقدم لهم مساعدات مالية لمساندتها في توسيع نفوذها الاقتصادي في ليبيا، هذه المساندة اتضحت عندما اقتحمت قوات تابعة لحكومة الوفاق مجمع مليتة للنفط والغاز وعطلت ضخ الغاز الوارد من حقلي الفيل والشرارة إلى إيطاليا، (في اليوم التالي لتوقيع إيطاليا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع اليونان)، حيث تدخل المجلس البلدي في مدينة زوارة وعدد من أعيان المنطقة ونجحوا في تسوية المسألة وتم استئناف ضخ الغاز لإيطاليا.
هكذا نرى أن شركة “إيني” عملاقة النفط والغاز الإيطالية، بنفوذها الاقتصادي والاجتماعي الممتد داخل ليبيا، هي بوابة إيطاليا للسيطرة على ثروات ليبيا، والعودة لنهب “مستعمرتها القديمة”.