مؤكدًة مبدأ “أن ترى ببصيرتك قبل أن ترى ببصرك”، تخرج النماذج المكافحة من المكفوفين، لتثبت إنجازاتها أن الفارق الوحيد بين البشر هو الإرادة، يتحدون الصعاب معتمدين على إعمال باقي حواسهم تعويضًا عن فقد بصرهم، غير مبالين بالقيود التي يحاول البعض تكبيلهم بها.
“معلم، طبيب بيطري، مرشد سياحي، محاسب”.. وظائف تبوأها مكفوفون، تحدوا كل من حاول إحباطهم، متخذين من ثقة ذويهم بهم نقطة للانطلاق.
معلم وحرفي
طويل القامة، ذو بشرة سمراء، له ملامح مصرية بامتياز، تتبين “الطيبة” بين ثناياها بمجرد رؤيتها، دائم الابتسام والشكر، في الـ 43 من عمره، قضى منها 33 عامًا معتمدًا على بصيرته، مستخدمًا عصاه لتهديه السبيل، إنه سامح محمد، معلم لغة عربية وصانع أدوات منزلية.
معلم اللغة العربية لا يعرف معنى كلمة “مستحيل”، فقد بصره في الـ 10 من العمر، وحُرم الكثير من الأنشطة التي لطالما أحبها وأتقنها، وكان ذلك نتيجة لإصابة عينيه بـ “مياه بيضاء” وهو في المهد.
أجرى عملية جراحية في عامه الأول، ونجحت، لكن لاحظ بعد ذلك تراجع نظره حتى فقده، وعلى الرغم من التحديات التي واجهته، إلا أنه أكمل دراسته في مدرسة المكفوفين بشبرا، حتى حصل على الدرجات النهائية خلال سنوات تعليمه.
التحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتفوق خلال سنوات دراسته، عمل بعد ذلك في إحدى الشركات العالمية بمجال الرعاية اليومية، ثم انتقل لمساعدة الصغار من المكفوفين بعمله في جمعية خيرية بتدريسه اللغة العربية.
تعلم الطباعة بطريقة “برايل” لتوفير كتب تعليمية للمكفوفين، وكذا احترف صناعة الأدوات المنزلية من البامبو، كما خصص جزءًا من وقته لتدريس اللغة العربية للمحتاجين بمنطقته تخفيفًا عنهم أعباء الدروس الخصوصية.
“يُقدر عدد المكفوفين في مصر بنحو 3.5 مليون شخص، منهم نحو 37 ألف شخص في مراحل التعليم المختلفة”.
تساعد 1500 كفيف سنويًا
سيدة في عقدها الثالث، استطاعت تحويل المحنة التي تعرضت لها إلى منحة، بتخصيص وقتها لمساعدة المكفوفين، إنها جميلة محمد متولي، عاشت لعقدين في ظلام تام، بعد تراجع بصرها خلال صغرها، ثم فقدانه لاحقًا.
بادرت إلى تعلم طريقة “برايل”، وعملت في جمعيات مساعدة المكفوفين، وتطورت خلال سلمها الوظيفي حتى تقلدت منصب مديرة فرع جمعية خاصة بمساعدة ذوي الإعاقة في شبرا.
تزوجت وأنجبت طفلة وتركت العمل داخل الجمعية، لكنها فوجئت بتوافد المكفوفين على منزلها لمساعدتهم، لتعدل عن قرارها وتؤسس جمعية لرعايتهم خاصة بها، ووفرت لغير القادرين من الأطفال أخصائيين لتعليمهم “برايل”.
كما طبعت كتبًا خاصة لهم في جمعيتها، ليدرسوا من خلالها، وحولت الحواسيب من عادية لناطقة لتمكنهم من التعامل معها، وكذلك تجهز غير القادرات من العرائس من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتجري عمليات جراحية للأطفال.
أول محاسب كفيف في العالم
“إنما العجز هو عجز الإرادة”.. جملة يرددها المحاسب محمد سيد الشعراوي، الذي تخرج من شعبة المحاسبة بكلية التجارة عام 2001، أصيب بداء السكري وفقد بصره إثر مضاعفاته في عام 2004، وتسبب ذلك في إصابته باكتئاب حاد.
لكنه اقتنع بعد ذلك أنه لن تكون نهاية الحياة، فدرب نفسه على جهاز “اللاب توب” الخاص به، واستخدمه عن طريق مساعدة البرنامج الناطق، وعمل به محاسبًا في إحدى الشركات.
استطاع إثبات نفسه، وذاع صيته، وتمكن من إعداد تقارير دقيقة، دون أن يُقصر في عمله، أو يجعل من فقده للبصر سببًا يتحجج به كلما ضاق الأمر، وأعاد للشركة أموالًا كبيرة مهدرة، وتولى منصب مدير الحسابات.
أسس بعدها جمعية ليعطي من خلالها “كورسات” محاسبة للأصحاء والمكفوفين، ويدربهم على البرامج المختلفة، ونال لقب أول محاسب كفيف في العالم من الصحف والجرائد، محلية وعالمية، كما يحاول إنشاء نقابة لذوي الإعاقة، الذين يبلغ عددهم 15 مليون شخص.
حين يرشد الكفيف المبصر
هنا، حيث تتبدل الأدوار ويرشد الكفيف المبصر، داخل المتحف المصري، في وجود مرشد سياحي كفيف، يدعى أحمد نجيب، الذي يقف أمام القطع الأثرية ويستفيض شارحًا تاريخها، إما لسياح مبصرين، أو للمكفوفين من الأطفال والكبار.
تثير فكرة المرشد السياحي الكفيف إعجاب الأطفال، ويتمنوا أن يحذوا طريقه، لم يكن يعلم “نجيب” أنه سيفقد بصره في صغره، حيث كان يتمنى أن يصبح مؤرخًا كبيرًا لحبه تاريخ مصر.
أصيبت عينه بضمور بعد ذلك، وحاول علاجه لكنه تسبب في إصابته بالعمى، لكنه لم يتخلى عن حلمه، وأكمل دراسته ملتحقًا بقسم الإرشاد السياحي في كلية الآداب بجامعة عين شمس.
نحت “نجيب” نماذج مماثلة للقطع الأثرية الكبيرة، وبرع في ذلك، وفي عام 2002، عندما عرض على المسؤولين بالمجلس الأعلى للآثار والمتحف المصري فكرة المرشد السياحي الكفيف، تحفزوا لها وبادروا بتدريبه هو وصديق له على لمس القطع الأثرية الحقيقية.
“نجيب” أكد على أنه لا يلمس القطع الأثرية التي تتعارض مع عوامل التعرية، وهناك بعض التماثيل عليها شرح بطريقة “برايل”، كما أنه يحفظ المكان في المتحف عن ظهر قلب، وظل يتفحصه ويحاول أن يسطره في ذاكرته لمدة شهر قبل أن يبدأ في عمله.
اللمس لتخفيف أوجاع الحيوانات
في مركز طامية بمحافظة الفيوم، يعيش الدكتور موسى أحمد، طبيب بيطري كفيف، فقد بصره عقب تخرجه من الكلية، يثق به الأهالي، معتبرين نجاحه معجزة.
يعتمد الطبيب الشاب على حاسة اللمس وسماعته الطبية في تشخيص أمراض الحيوانات، وفقًا لما قاله الدكتور والإعلامي عبد الباسط عزب كامل، والذي اشتغل بوظيفة رئيس للمركز العربي للإعلام المتخصص لذوي الإعاقة محاولًا دعمهم حول العالم، يعتمد على مساعدة من حوله في تحديد درجة الحرارة أو مستوى الدواء داخل الحقن، لكنه يمارس عمله بكل سهولة.
صراع صعب
الدكتور فتحي الشرقاوي، أستاذ علم النفس، أكد على أن صراع المكفوفين للنجاح ليس سهلًا، حيث تغلب عليهم مشاعر العزلة بسبب عدم رغبتهم في تدخل الآخرين في حياتهم لمساعدتهم، ومنهم من يظل هكذا طوال حياته.
وأكد على أن الكفيف يحتاج إلى دعم حتى يعزز ثقته بنفسه، خاصة وأن حالته تختلف تمامًا عمن يُبصر، لذا على الأهل والمحيطين دفعهم للأمان، وإقناعهم بأنهم قادرون باختلافهم، وأن تلك النظرة التي توجه لهم هي المتسببة في تكوين صورتهم عن أنفسهم.