رغم غياب البيانات عن حالات ارتفاع أو تراجع الانتحار في الدول العربية خلال عام 2020، في ظل تحفظ بعض وزارات الداخلية والصحة على إتاحتها، إلا أن متابعة التقارير الصادرة عن وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية، سواء الوطنية أو الدولية، تشير إلى تسجيل للحالات بشكل يكاد يكون متزامنًا بين الدول العربية.
دراسة مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، والتي حملت عنوان” لماذا تزايدت حالات الانتحار في المنطقة العربية عام 2020؟”، تشير إلى أنه لا يوجد عامل واحد صالح لتفسير حالات الانتحار في المنطقة العربية، وبصفة خاصة في لحظات الأزمة، بل تتعدد وتترابط فيما بينها، وقد لا يمكن الوصول للأسباب الحقيقية للانتحار فيما يطلق عليه عالم الاجتماع اميل دوركايم “الانتحار اللامعياري”، غير أن استمرار كوفيد-19 في صورة موجات جديدة، فضلاً عن مروحة الصراعات المسلحة سيعززان الضغوط التي تتعرض لها المجتمعات، إلى جانب عدم القدرة على استيعاب صدمات الضغوط المفاجئة مما يفرض الإحاطة بمختلف العوامل ومنها العامل النفسي، وإعادة النظر في منظومة الصحة النفسية لتقليل حدوث حالات الانتحار.
وتنوعت أشكال الانتحار في المنطقة العربية خلال عام 2020، ما بين الشنق (وهي الوسيلة الأكثر شيوعًا)، وإطلاق الأسلحة النارية على الرأس، والقفز من أعلى مباني السكن أو نافذة مستشفى، وفتح مواسير الغاز للتسرب إلى الشقة، والإلقاء بالنفس أمام القطار، وتناول مواد سامة مثل سم الفئران أو مبيد الحشرات، وتصيب حالات الانتحار جميع الفئات العمرية، وإن كانت نسبة الذكور أكبر من الإناث.
القابلية للانتحار
تشير الدراسة إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي ترتبط فيما بينها لتشكل ما يمكن تسميته بـ”القابلية للانتحار” في عدد من الدول العربية- على نحو ما تسجله جمعيات الطب النفسي في بعض الدول من اتصالات هاتفية تتلقاها يوميًا- واللجوء لتنفيذه في مرحلة لاحقة، وذلك كما يلي:
فزع كورونا
وتربط الدراسة بين حالات الانتحار وتفشي فيروس كوفيد-19 في أغلب الحالات بالدول العربية، لاسيما في ظل الأوضاع التي خلَّفها هذا الفيروس من حيث سرعة انتشاره واحتمالية الإصابة بدون أعراض واضحة له وتعقيدات اكتشاف لقاح للعلاج منه والالتزام بالتباعد الاجتماعي والحجر المنزلي للوقاية منه، على نحو ترك تأثيرات لا أول لها من آخر على الصحة النفسية للمواطنين في هذه الدولة أو تلك، فقد تزايدت حالات الانتحار في فترات الحجر الصحي في عدد من الدول العربية مثل المغرب والجزائر وسوريا.
ضغوط المعيشة
كما يرتبط الوضع الاقتصادي الضاغط، في أحد أبعاده الرئيسية، بتفشي فيروس كورونا، الذي أدى إلى إغلاق أو تراجع عدد من الشركات والمصانع، وتوقف بعض المشروعات، مما ينعكس بدوره على العمالة في هذا القطاع أو ذاك، والتي قد تتعرض للتسريح أو تراجع موارد الدخل، لاسيما في ظل عدم قدرتهم على تغيير واقعهم وعدم قدرة الحكومة على الاستجابة لمطالب القطاع الواسع من الرأي العام، وهو ما يعرف بتسييس الانتحار، خاصة بعد انتحار محمد البوعزيزي في تونس على نحو مهد لثورة شعبية غيرت من شكل المنطقة.
تزايدت حالات الانتحار، حيث تم تسجيل ثلاث حالات في يوم واحد، وفقاً لما ذكره موقع “سكاي نيوز عربية” بتاريخ 4 يوليو الماضي، فقد أقدم مواطن لبناني على الانتحار بطلق ناري في الرأس في شارع الحمرا المزدحم بالعاصمة بيروت، تاركاً رسالة كتب فيها: “أنا مش كافر.. الجوع كافر”، وهو ما يعكس تأزم الوضع الاقتصادي في لبنان بشكل لم تشهده منذ عقود.
ولم تكن حالة سوريا بعيدة عن هذا الإطار، حيث أعلن زاهر حجو، المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي التابعة لنظام الأسد في سوريا في 19 أبريل الماضي أن أعداد المنتحرين منذ 20 مارس وحتى 16 أبريل 2020، بلغت 13 حالة، وتوزعت على المحافظات التالية (دمشق 1، وريف دمشق 1، وطرطوس 1، والسويداء 2، وحلب 2، وحمص 3، وحماة 3)، وفقاً لما نقلته بعض المواقع الإلكترونية السورية.
ثم زادت الأعداد إلى 51 حالة حتى 15 مايو الماضي، من بينهم 36 ذكور و15 إناث، بحيث تركزت في حلب بـ9 حالات، ثم السويداء 7 حالات، ومثلها ريف دمشق، في حين سجلت العاصمة دمشق ومحافظتا حمص وحماة 6 حالات لكل منها، واللاذقية 5 حالات، وطرطوس 3 حالات، وحالتين في مناطق أخرى.
واستثنت الإحصائية محافظات دير الزور والرقة والحسكة وإدلب، بسبب خروجها عن سيطرة قوات الجيش النظامي السوري.
ويتمثل التفسير الرئيسي لانتشار حالات الانتحار في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري في تدهور الوضع الاقتصادي وبصفة خاصة الفقر والبطالة، فضلاً عن إرغام الشباب على الذهاب إلى جبهات القتال، إضافة إلى الضغوط النفسية التي تعاني منها الفتيات لفراق عوائل الأسرة سواء كان الأب أو الزوج أو الأخ.
مروحة الصراعات
يشير اتجاه رئيسي في الأدبيات إلى أن السلوك الانتحاري يقترن كثيرًا بالنزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة، أو الفقدان والشعور بالعزلة، كما أن معدلات الانتحار تتزايد بين الفئات المستضعفة التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين، ولا شك أن المنطقة العربية تمثل بيئة مُحفِّزة على الانتحار لاسيما في ظل دوران مروحة الصراعات على مدى عقد كامل من الزمن.
تبعات نفسية
قد يصل بعض الأشخاص، حسب اتجاهات عديدة، إلى الانتحار نتيجة المعاناة من أمراض نفسية، لأسباب مختلفة، ولعل الظروف الحادة التي مرت بها الدول العربية خلال العقد الماضي بشكل عام وعام 2020 بوجه خاص، أثرت بشكل يمكن ملاحظته على الصحة النفسية للمجتمعات العربية في ظل ثورات شعبية وصراعات مسلحة وعمليات إرهابية وأمراض وبائية في توقيتات متلاحقة، بل إن بعداً واحداً مما سبق قد يكون كفيلاً بتهيئة الفرد لأن يكون مشروع “منتحر”.
وأشارت بعض التحليلات إلى أن السبب الذي أدى إلى انتحار أحد أساتذة الجامعة المغاربة في يوليو الماضي هو “أزمة نفسية حادة” ناتجة عن الالتزام بالحجر الصحي بسبب انتشار كوفيد-19.
وهنا، تجدر الإشارة إلى وجود نقص أو عدم وعي بالصحة النفسية في غالبية المجتمعات العربية، حيث تقع في مكانة متأخرة لدى أولويات الحكومات المتعاقبة، مما يجعل لدى بعض الأفراد القابلية للانتحار في لحظة ما.
صدمات مفاجئة
ربما يكون من الأسباب التي تؤدي إلى تزايد معدلات الانتحار في الدول العربية التعرض لصدمات مفاجئة، على نحو ما تكشفه واقعة إقدام مطيع عطية صاحب محل صرافة في سوريا في مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي على الانتحار حزناً بعدما خسر ما يقرب من 400 ألف دولار خلال يوم واحد، بسبب تدهور وتقلب سعر الليرة وخاصة في يونيو الماضي، بحيث قام بشراء مبلغ كبير من المال عندما كان سعر الدولار الواحد بـ2200 ليرة، ليرتفع السعر بعدها إلى 3800 ليرة. ومع قيامه ببيع المبلغ مرة ثانية، تعرض لخسارة فادحة.
فقد تناول مادة سامة معروفة لدى العامة باسم (حب الغاز)، أدت إلى وفاته مباشرة.
وهنا تجدر الإشارة إلى تراجع قيمة الليرة السورية أمام بقية العملات الأجنبية في ظل الأزمة الاقتصادية مع تطبيق قانون العقوبات الأمريكية “قيصر”، على نحو قد يتكرر مع أفراد آخرين، علاوة على ذلك، قد يكون الانتحار مدفوعاً بأسباب عاطفية على نحو ما تشير إليه وقائع متعددة في ظل سياقات متنوعة في دول عربية مختلفة، فضلاً عن فقدان الوالدين أو أحدهما بصورة مبكرة.