أعادت واقعة فتاة الدقهلية، التي حازت على اهتمام الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الماضية، أزمة إثبات النسب ومعاناة أصحابها للمشهد مرة أخرى، ورغم أن الأحداث لم تنطوي على جديد، إلا أن المعاناة في كل حادثة أو واقعة واحدة.
وتُقدر الإحصائيات أعداد مجهولي النسب بمصر ما بين قرابة 13 لـ 15 ألف طفل، وذلك دون احتساب الأعداد المنضوية منهم تحت لواء أطفال الشوارع وغير المثبتين لدى الدولة.
وقبل نحو ثلاثة أشهر، كانت أمل محمد عبد الحميد “فتاة الدقلهية” قد خرجت لتفضح جريمة اغتصابها قبل حفل زفافها بأسبوع علي يد أحد الشباب في قرية ميت إنشا، حيث أصبحت بين ليلة وضحاها أم لطفلة بدون نسب.
وقبل أيام نجحت مباحث أجا بمحافظة الدقهلية، في ضبط الطالب المتهم باغتصابها، وذلك عقب إثبات نسب طفلتها الذي ظهر إيجابيًا بعد صدور تحليل الـ”دي ان ايه”.
أزمة نسب
“بين بكاء متواصل وانتظار بلا نهاية”، لا تزال آلاف قضايا إثبات النسب معلقة بين دهاليز المحاكم، حيث تستمر في أغلب الأوقات لسنوات، حيث أمهات يأملن في إثبات شرعية أطفالهن، خوفًا من حياة بلا هوية أو لقب، ورجال يصرون على المراوغة والإنكار.
وبلغ عدد قضايا إثبات النسب المنظورة في المحاكم المصرية بحوالي 15 ألف قضية، ولا يوجد إحصاء يوضح كم من هذه القضايا نتيجة زواج عرفي، أو رسمي، أو علاقة غير زوجية.
وبحسب المختصين، يثبت الطفل نسبه من خلال “الفراش” حتى لو كان نتيجة زواج عرفي أو علاقة غير شرعية، حيث تكون المحاكم المصرية في أغلب قضايا النسب لصالح الطفل.
ويُقصد بإثبات النسب بالفراش، العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة بشرط إمكانية ولادة المرأة من زوجها وانقضاء مدة الحمل.
وتبدأ إجراءات إثبات نسب الأطفال بتقديم طلب رفع دعوى “إثبات نسب”، لمكتب التسوية بمحكمة الأسرة، إذا لم يتم الفصل في المشكلة وديًا، أمام الخبيرين النفسي والاجتماعي بمكتب التسوية، يتم التقدم بطلب آخر لإقامة دعوى قضائية أمام نفس المحكمة، مع إرفاق عقد الزواج للطرفين إن كان موجودًا، ثم إحالة الأطفال إلى اللجنة الطبية لتقدير أعمارهم، وفى حالة عدم إقرار المدعى عليه بادعاء المدعية وإنكار النسب، يتم إحالة الأطفال إلى لجنة طبية بمصلحة الطب الشرعي، لفحص الحامض النووي.
وفي حالة حصول التصادق بين الطرفين على الزوجية والدخول وبنوتهما للأطفال، أو جاء تقرير مصلحة الطب الشرعي، بتطابق الحامض النووي مع الأب، فتكون الفقرة الحكمية كالآتي “الحكم بثبوت نسب الولد إلى والده المدعى عليه من فراش الزوجية للمدعية وكونه “نوع الطفل” و”ديانة الطفل”، و”حالته الاجتماعية”، ومن مواليد “يوم – شهر – سنة”، ويتم ذكر دائرة الأحوال المدنية التي ينتمي إليها والده.
ويتفق علماء النفس والاجتماع على أن هناك عدة أسباب لإنكار الآباء لأطفالهم منها: الفقر وعدم الرغبة في الإنفاق عليهم، أو منع حصولهم على حقوقهم الشرعية في الميراث في حالة إنجاب الإناث، أو إنجاب الأطفال من زواج عرفي وعدم تحمل المسئولية .
ووفقًا للمادة 99 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والمادة 17 من القانون 1 لسنة 2000، عدم سماع دعاوى طلب إثبات الزواج العرفي أو طلب النفقة أو الميراث عند إنكار الطرف الآخر، بالرغم من اعتداد المشرع بالزواج العرفي في بعض آثاره، ومنها طلب التطليق.
رأي الشرع
وإثبات النسب عن طريق الفراش مجمع عليه بين الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم: “الولد للفراش”.
وردًا على سؤال “هل يجوز نسب الابن من الزنا؟” أكدت دار الإفتاء المصرية، أن الفقهاء اتفقوا على أن ولد الزنا يثبت نسبه من أمه التي ولدته؛ دون الزاني الذي نتج عنه علاقته بالأم هذا المولود.
وأضافت أن الأبوة والنسبة لأب علاقة شرعية تثبت بالزواج وكذلك بوطء الشبهة، بينما الأمومة علاقة طبيعة، تختلف عن الأبوة، لذا فلا تثبت أبوة الزاني لمن تَخَلَّق مِن ماء زناه.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه واله وسلم: “الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ” متفق عليه؛ فيُفهم منه أن الولد ينسب للزوج الذي ولد على فراشه، وبذلك يـثبت وصف الأبوة له شرعًا.
وأوضحت آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، أن رسول عليه السلام هو من أسس أول لبنة في مواثيق الطفل في التاريخ البشري، وهو إقرار حق مجهولي النسب عن طريق “القائف”، حيث أن إثبات نسب الطفل حق له.
ويعني “القائف” هو استدلال نسب الطفل بدراسة الملامح والصفات والمشتركة مع الوالدين.
ولفتت “نصير” إلى أنه في حال عدم الاستدلال على والد الطفل كان يتم منح الطفل اسما ثلاثيًا لا يتشابه مع أحد.
وقد ذهب الحنفية إلى أن القيافة لا يلحق بها النسب، لأنها ضرب من الظن والتخمين بينما ذهب جمهور العلماء بالأخذ بها لدلالة السنة والآثار عليها.
وتنص المادة (7) من اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر1989، وبدأ تطبيقها في سبتمبر 1990، وانضمت مصر إليها في 24/5/1990، قبل دخولها حيز التنفيذ بأشهر قليلة، على أن يسجل الطفل بعد ولادته فورًا ويكون له الحق منذ ولادته في الاسم والجنسية، ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
كما تنص المادة (15) من قانون الطفل المصري رقم 126 لسنة 2008 على أن “الأشخاص المكلفين بالتبليغ عن الولادة هم والد الطفل إذا كان حاضرا، ووالدة الطفل شريطة إثبات العلاقة الزوجية على النحو الذي تبينه اللائحة التنفيذية، ومديرو المستشفيات والمؤسسات العقارية ودور الحجر الصحي وغيرها من الأماكن التي تقع فيها الإدارات، والعمدة أو الشيخ في حالة الزواج المثبت.
بينما يجيز قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 دون الزام، استخدام تحليل البصمة الوراثية، وكذلك تسهيل استخراج شهادة الميلاد للطفل، فبعد أن كان لا يسمح للمرأة باستخراج شهادة ميلاد لطفلها في الحالات الطبيعية (الزواج الرسمي) وكان يسمح بذلك فقط للأب أو الجد أو العم.
لكن منذ عام 2008، أصبح من حق المرأة وفق قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون 126 لسنة 2008 استخراج شهادة ميلاد لطفلها لكن باسم والدها أو اسم يختاره السجل المدني لحين الفصل في قضية النسب.
البصمة الوراثية
ويجوز استخدام الوسائل العلمية المشروعة لإثبات النسب، ومنها “البصمة الوراثية”، هي الصفات الوراثية التي تنتقل من الأصول إلى الفروع ومن شأنها تحديد شخصية كل فرد عن طريق تحليل جزء من الحمض النووي، الذي يحتوي عليها خلايا الجسد.
وللدور التي لعبته “البصمة الوراثية” في مسائل إثبات النسب، قامت بعض التشريعات بتكريس تقنية البصمة الوراثية في قوانينها، ومنها مصر.
ووضع الفقهاء والأطباء المختصون شروطًا لإجراء البصمة الوراثية، أبرزها ألا يتم التحليل إلا بإذن من الجهة المختصة، وأن تكون المختبرات تابعة للدولة، أو تحت إشرافها.
و هناك معايير تثبت النسب دون اللجوء إلى سحب عينات البصمة الوراثية، وهى إذا أقر الأب نفسه ببنوة الطفل ويجب أن يكون عاقلًا وراشدًا وألا يكذب، لكن للأم أن تعترض وتنفى النسب عنه، ويتم إثبات النسب عن طريق وسيلتين، هما إثبات النسب بالفراش والإشهاد الرسمي.
من جانبه، أشار أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن أطفال مصر، إلى أن هناك بعض الإجراءات والروتين التي يجب القضاء عليه حتى لا تتزاحم قضايا النسب بين أورقة المحاكم، وما يترتب عليه من كوراث اجتماعية، موضحًا أن مكاتب الصحة تخالف القوانين والمواثيق الدولية باشتراطها وجود الأب مع الأم أو بطاقته الشخصية لاستخراج شهادة ميلاد، إذ ينص قانون الطفل السابق ذكره، بأن على الدولة التكفل بحماية الطفولة والأمومة ورعايتهم من كافة النواحي.
ولفت “مصيلحي” إلى أن هناك بعض القصور في التشريعات والقوانين يجب تعديلها والنظر اليها بعين الرحمة، وهو دور يقع على عاتق مجلس النواب والمشرعين بالبلاد.
أضرار جسيمة
وأكد حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن أزمات إثبات النسب وشيوعها في الآونة الأخيرة “خطر” يهدد المجتمع بلا شك، فهو عبء على الأجهزة والمؤسسات المختصة، حيث إننا نساهم في نشأة جيل حاقد على المجتمع ومؤسساته.
وبعيدًا عن المجتمع، تحدثت نهي النجار، الأخصائية النفسية، عن الأضرار الجسيمة التي تولد في نفسية الطفل، حيث يعاني أطفال في فترة إثبات النسب أو في بعض الأحيان العيش بلا هوية من مشاكل نفسية واضطرابات سلوكية صعبة، منها التمرد وإيذاء الآخرين وانخفاض في تقدير الذات، وقد ينقلب الأمر في أحيان أخرى لمشاكل عضوية كالصداع المزمن.
ولفتت “النجار” إلى أن أنسب وقت لإبلاغ الطفل بأزمة النسب ما بين سن الـ 2 لـ 6، فاذ تم تأخر ابلاغ الطفل ووصلنا لمرحلة المراهقة أو ما بعدها، يتسبب ذلك في تربية أشخاص غير أسوياء نفسيًا، ولديهم اضطرابات في النضج والشخصية أيضًا، كما أنه يصبح شخصًا مضادًا وضارًا بالمجتمع.
مشاهير في مرمى النيران
ولا تقتصر أزمات النسب والقضايا على الأشخاص العاديين، فكثير من المشاهير تعرضوا لهذا الأمر، آخرهم ادعاء زوج الفنانة هالة صدقي، بأنها ليست أم أبنائه، مطالبًا باجراء تحليل “دي انه ايه”.
وظهر زوج الفنانة في مقطع فيديو، زاعمًا أنه تأكد مؤخرًا من أن الفنانة هالة صدقي استعانت ببويضات امرأة أخرى دون الرجوع إليه، مضيفا: “بستنجد بالنائب العام لأن أنا مقهور، وبطالبها بإجراء تحليل دي انه ايه وبصمة صوت لإثبات نسب أولادنا”
ولم تكن هذه الحالة الأولى من نوعها في الوسط الفني، فمنذ عام 2014 بدأ النزاع القضائي بين أحمد عز وزينة بعد إنكار نسب توأمها إليه ونفي زواجه منها لتحرك زينة دعوى إثبات نسب.
وفي عام 2015، قضت المحكمة بإثبات نسب التوأم لوالدهما الفنان أحمد عز ولم تنتهي الأمور عند هذا الحد بل امتدت لنزاعات أخرى بسبب اجراءات نفقة الطفلين.
بينما “قضية أحمد الفيشاوي وهند الحناوي” فهي واحدة من أشهر قضايا النسب في الوسط الفني حيث ظلت القضية عامان في المحاكم أنكر الفيشاوي خلالها نسب ابنته ورفض إجراء تحليل DNA قبل اعترافه بنسب طفلته لينا من التي أنكر زواجه منها عرفيًا.
ولم تقف النزاعات القضائية عند هذا الحد بل امتدت لتشمل دعاوى نفقات لينا، ودعوى قضائية أخرى لإثبات نسب طفل لــ”الفيشاوي” يدعى تيتوس من سيدة ألمانية.