مع الزيارة التي استمرت ثلاثة أيام لرئيس المجلس السيادي السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان للإمارات، بدأ السودان أولى الخطوات الرسمية لتطبيع علاقاته مع اسرائيل برعاية أمريكية – إماراتية، حيث بدأت مفاوضات قانونية وعسكرية وسياسية لتمهيد دخول الخرطوم إلى قائمة العواصم العربية التي تطبع علاقتها مع تل أبيب.
يأتي هذا رغم استمرار الخلاف واحتدام الجدل في الداخل السوداني على أهمية وإمكانية اتخاذ هذه الخطوة في التوقيت الحالي، الذي لا تزال فيه المؤسسات السودانية الحاكمة في المرحلة الانتقالية، دون تفويض أو موافقة شعبية لاتخاذ أي قرارات مصيرية قد تؤثر في حاضر أو مستقبل البلاد.
زيارة “البرهان” للإمارات والتي بدأها في 20 سيبتمبر، مع وفد قانوني برئاسة وزير العدل السوداني، نصر الدين عبد الباري وعدد من الخبراء والمختصين في قضايا التفاوض، التقى خلالها وفدًا أمريكيًا، حيث حملت أجندة اللقاء عددًا من القضايا الرئيسية شملت مطالب للسودان مقابل التطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل، وعلى رأسها رفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودعم الفترة الانتقالية، والإعفاء من الديون الأمريكية، وحث بقية الدول الصديقة على اتخاذ خطوات جادة لإعفاء السودان من ديونه.
وكان موقع أكسيوس الأمريكي قد كشف عن ممثلي الوفد الأمريكي المفاوض مع السودان في الإمارات حيث شمل مدير شؤون الخليج في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض ميجيل كوريا، والذي كان قد شارك في صياغة الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي، إضافة إلى مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، المسؤول عن المحادثات مع تل أبيب، وهو ما يؤكد التوقعات بحسم ملف التطبيع من إسرائيل قريبًا، حيث أكد الموقع الأمريكي أن إزالة الخرطوم من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، قضية مرتبطة بشكل غير مباشر بصفقة التطبيع.
لدى عودته للسودان صباح الأربعاء، قال الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي في بيان صحفي، إن المباحثات مع الأمريكيين، اتسمت بالجدية والصراحة، حيث ناقشت عددًا من القضايا ذات الاهتمام المشترك وعلى رأسها قضية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والقيود الأخرى التي تفرضها الولايات المتحدة على المواطنين السودانيين مثل حرمان السودانيين من المشاركة في قرعة (اللوتري) وقانون سلام دارفور وغيرها.
ولم يذكر بيان المجلس السيادي الانتقالي الحديث مباشرة على صفقة التطبيع مع إسرائيل مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب لكنه أكد المفاوضات شملت بحث مستقبل السلام العربي – الإسرائيلي، الذي يؤدي إلى استقرار المنطقة ويحفظ حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وفقًا لرؤية حل الدولتين، والدور الذي ينتظر أن يلعبه السودان في سبيل تحقيق هذا السلام.
مغريات مالية
كواليس المفاوضات كشفت عن معلومات تتعلق بمساعدات وعروض مالية مغرية على السودان، حيث تردد الحديث من مصادر دبلوماسية سودانية عن مساعدات أمريكية تبلغ 5 مليارات دولار للخرطوم، تتضمن مساعدات مالية مباشرة لدعم الاقتصاد السوداني، ومساعدات عينية في صورة مشروعات للتعاون وسلع وتسهيلات أخرى.
وأكدت المصادر إيجابية جولة المفاوضات التي تمت في الإمارات، حيث أعربت عن حالة من التفاؤل بشأن جدية الجانب الأمريكي هذه المرة من الوفاء بوعوده في اتخاذ إجراء فعلي برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب التي فرض عليه منذ عام 1993، وهو ما يعكسه الخطاب الرسمي لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، للكونجرس الأمريكي في هذا الشأن، ومطالبته بتمرير قانون الحصانات السيادية.
رغم المساعدات المغرية إلا أن المصادر أكدت استمرار طلب الجانب الأمريكي من السودان بدفع كافة المبالغ المستحقة في قضايا التعويضات لأسر الضحايا الأمريكيين في حادثي تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودارسلام في 1998، وحادث تفجير المدمرة الأمريكية “كول” قرب شواطئ اليمن في عام 2000 والمقدرة بـ 335 مليون دولار أمريكي.
يذكر أن الطلبات السودانية إلى جانب الرفع من قائمة الدول الراعية للإرهاب، الحصول على شحنات غذائية بقيمة 1.2 مليار دولار، بالإضافة الى 2 مليار دولار في شكل منح أو قرض لمدة 25 عامًا للحكومة، مع الالتزام بتقديم مساعدات اقتصادية من الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة مقابل التطبيع مع إسرائيل.
خلاف بين “السيادي” و”الحكومة”
تعزز الخلاف بين الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، والمجلس السيادي الحاكم منذ لقاء رئيسه الفريق عبد الفتاح البرهان، برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في أوغندا في فبراير الماضي، دون علم الحكومة، حيث أعلنت قوى الحرية والتغيير وهي الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية وقتها أن هذا اللقاء أمر مخل ويلقى بظلال سلبية على الوضع السياسي بالبلاد مشددة على تمسكها بالوثيقة الدستورية التي نصت على أن العلاقات الخارجية اختصاص أصيل للسلطة التنفيذية وتدخل المجلس السيادي في هذا الأمر تجاوز كبير.
ورغم تداول معلومات مؤكدة من الحكومة الانتقالية السودانية عبر وسائل إعلام سودانية، بمشاركة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك مع رئيس مجلس السيادة في المفاوضات التي جرت مع الوفد الأمريكي في الإمارات مطلع الأسبوع الجاري، إلا أنه في اللحظات الأخيرة كان القرار بعدم مشاركة “حمدوك” في المفاوضات والاكتفاء بتمثيل وزير العدل في الوفد السوداني ممثلاً عن السلطة التنفيذية، حيث تم تداول تصريحات منسوبة لرئيس الوزراء، أكد فيها أن الحكومة غير مُخولة باتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية- في إشارة إلى التطبيع مع إسرائيل.
ومع تأكيد البيان الصحفي للمجلس السيادي الانتقالي على عرض نتائج المباحثات على أجهزة الحكم الانتقالي لمناقشتها والوصول الي رؤية مشتركة حولها تحقق مصالح وتطلعات الشعب السوداني، إلا أن الحكومة الانتقالية لا تزال ترفض بشكل كبير الدخول في أي مسارات لتمرير اتفاق يقضي بالسلام مع إسرائيل.
موقف ثابت
وقال المتحدث باسم الحكومة الانتقالية السودانية، ووزير الإعلام، فيصل محمد صالح في تصريحات صحفية الإثنين الماضي، “إن موقف بلاده ثابت حيال التطبيع مع إسرائيل، حيث إن الحكومة ليس لديها تفويض لاتخاذ قرار في مثل هذه الأمور، وهي من مهام حكومة منتخبة، وما زلنا عند ذات الموقف، ولم نتراجع عنه”، مؤكداً “أن الوفد الوزاري المرافق لرئيس مجلس السيادة الانتقالي للإمارات لا يحمل تفويضًا لمناقشة التطبيع مع إسرائيل، لكنه فقط مخول ببحث رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مع فريق الإدارة الأمريكية، حيث يبحث وزير العدل الجوانب القضائية والقانونية التي حكمت بموجبها المحاكم الأمريكية في قضايا السودان”، مدللاً على حديثه بعدم مشاركة وزير الخارجية المنوط به بحث الملفات المتعلقة بالعلاقات الخارجية.
ومع استمرار تخوفات ورفض الحكومة الانتقالية من الشروع في أي خطوات جدية لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل على غرار ما حدث مع الإمارات والبحرين، إلا أن المجلس السيادي برئاسة البرهان يرى بقوة أن التطبيع يساعد السودان في الخروج من الأزمة الاقتصادية والسياسية والعزلة الدولية التي طالما عانى منها خلال حكم “البشير” ذي الصبغة الإسلامية.