في القضايا المسكوت عنها والتي يرفض المجتمع الاعتراف بها، يصبح مجرد الحديث ونكأ الجرح شجاعة تستحق التقدير والدعم، فيسهم هذا البوح ولو بعد حين في خلق قضية رأي عام تدفع المجتمع للنظر إلى متناقضاته وإدراكها كخطوة أولى في طريق حل تلك المتناقضات وتطوير المجتمع.
لكن النقطة الأهم في تحويل حالة “البوح” إلى قضية رأي عام هو اختيار الحالة التي سيتم الحشد انطلاقًا منها، والأمر لا يخلو من مخاطر فالحالة التي يتم حشد الرأي العام من أجلها تؤثر جذريًا على رد الفعل المتوقع من المجتمع والذي قد يكون تعاطفًا وتفاعلًا يخدم القضية أو يؤخر المراجعة المجتمعية الحقيقية لها.
مارتن لوثر كينج مثال واضح على اختيار الحالة التي تخدم قضيته في الدفاع عن الحقوق المدنية والمساواة، ففي مارس عام 1955 رفضت فتاة من أصول إفريقية في الخامسة عشرة من عمرها ترك مقعدها في حافلة لرجل أبيض في مخالفة للقوانين العنصرية التي كان معمولًا بها في ذلك الوقت، وتم حبس الفتاة وبدأ التفكير في أن تكون كلوديت كولفين المراهقة الأمريكية إفريقية الأصل هي أيقونة معركة حشد رأي عام للنضال من أجل المساواة وتعديل القوانين.
تم اكتشاف أن المراهقة حامل خارج إطار الزواج، وهو ما دفع مارتن لوثر كينج لإعادة التفكير والتريث لأن المجتمع المتدين لن يقبل أن تكون أيقونة الدفاع عن حقوقه مراهقة مارست الجنس خارج إطار الزواج وحملت، وبالتالي لن يساند الحملة بالقدر الكافي وستخسر الحملة دعم قطاع من المتعاطفين مع المساواة في الحقوق المدنية بين البيض والسود.
في ديسمبر من العام نفسه، وجد مارتن لوثر كينج الأيقونة المناسبة للحملة في روزا باركس، امرأة في الثانية والأربعين من عمرها استقلت الحافلة بعد يوم عمل مرهق وجلست في المكان المخصص للملونين، وحين طلب منها السائق ترك مقعدها لأحد الرجال البيض الواقفين في الحافلة رفضت فتمت إدانتها وفق القانون المحلي، كانت باركس أيقونة حملة مقاطعة الحافلات العامة واستجاب لها الملونون والمتعاطفون معهم من البيض، واستمرت 382 يومًا من الذهاب للعمل سيرًا على الأقدام.
رغم أن التمييز والعنصرية كانا هما ذاتهما في الموقفين، ورفضهما ينبغي أن يكون قاطعًا في كليهما، إلا أن حالة كلوديت ما كانت لتصمد وتنجح في حشد دعم شعبي من الملونين والبيض لأكثر من عام.
الحال لا تنطبق على العنصرية فقط، ولكن تنطبق على كل القضايا التي تتطلب حشدًا جماهيريًا وخلق رأي عام لتأييدها، وبخاصة قضايا النساء والعنف.
في مصر ولسنوات طويلة، ظل التحرش الجنسي مسكوتًا عنه، والمجتمع يتعامل معه باعتباره أمرًا “اعتياديًا”، وكأنه جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، ملقيًا باللوم كاملًا على الفتيات والنساء، بعد نضال استمر سنوات طويلة تم بناء حالة رفض مجتمعي للتحرش، بينما لم ينته لوم الضحية بعد.
وفي حال مكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث (المعرف شعبيًا باسم الختان) بدأت المعركة منذ عقود ولازالت الجريمة مستمرة ولم يحدث رفض مجتمعي كبير لها.
بدايات الرفض الحقيقية في المعركتين كانت مع حالات مأساوية وكبيرة، فبالنسبة للتحرش والاعتداءات الجنسية كان لحوادث مثل “فتاة العتبة” وفتاة المعادي” أثر كبير في خلق صدمة للرأي العام، وكأنها مرآة ينظر فيها المجتمع إلى نفسه على حقيقتها، كما كان لأحداث الأربعاء الأسود والاعتداء الصارخ على الصحفية نوال علي وغيرها في مايو 2005 وقع الصدمة على قطاع من المصريين جعلهم يعيدون التفكير في رفض التحرش، بينما أثر على قطاع أوسع بنشر اعتقاد أن التحرش شيء اعتيادي بل وأحيانًا مدعوم من السلطة.
ذلك الوضع خلق أزمة حقيقية يشعر بها الجميع، سواء الرافضين للتحرش والداعمين لحقوق المرأة، أو الغالبية التي اعتادت على لوم الضحية وتردد دوما “ايه اللي وداها هناك”؟ كانت نوال علي وأحداث الأربعاء الأسود أيقونة معركة كبرى لحشد رأي عام إذن، واستمرت تتصاعد أحيانًا وتخفت أحيانًا حتى ما بعد يناير 2011، حين بدأت أول اعتداءات وتحرشات بالنساء في أول مسيرة بعد ثورة يناير في اليوم العالمي للمرأة، وتصاعد العنف في المجال العام ليصل إلى اعتداءات جنسية واغتصابات متكررة وجماعية في الميادين العامة بهدف إبعاد النساء عن المشاركة السياسية.
ومع تصاعد العنف ووحشيته استمر نضال النساء في مصر حتى انتهى إلى قانون لتجريم التحرش، ولا زالت معركة قانون موحد يجرم كافة أشكال العنف ضد المرأة في المجالين العام والخاص مستمرة، العلانية والصدمة في الحالتين ساعدتا مؤسسات المجتمع المدني على الوصول للإعلام وخلق رأي عام أكثر رفضًا للتحرش.
وفي حالة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، كانت واقعة الطفلة سهير الباتع (عام 2013) وميار موسى (عام 2016) نموذجين تم البناء عليهما لحشد قطاعات من الرأي العام لرفض ختان الإناث، في الحالة الأولى تمكنت مؤسسات المجتمع المدني من الحصول على حكم قضائي يدين الطبيب الذي تسبب في وفاة الطفلة رغم تبرئته على يد قاضي أول درجة.
واستمرت الجهود دون قضية كبيرة تلفت الانتباه حتى توفيت ميار موسى في مايو 2016 فأصبحت أيقونة جديدة لحشد الرأي العام مرة أخرى والنجاح في اتخاذ خطوات أوسع وأكبر من التي يحققها العمل المستمر الهادئ دون رأي عام، وفي نفس العام صدر تغليظ للعقوبات بنص المادة 242 مكرر من قانون العقوبات، ونصت أيضًا على تجريم الأهل الذين يقدمون على تشويه الأعضاء التناسلية لبناتهم.
المعارك التي لها بعد اجتماعي وثقافي يصعب حلها بمجرد قانون لكن ينبغي العمل على تغيير الرؤى والثقافة السائدة جنبًا إلى جنب مع التعديلات القانونية، الأمر الذي يجب الانتباه إليه جيدًا قبل اتخاذ قرار الدخول في معارك كبيرة تتعلق بحقوق مثل حرية الجسد ومواجهة الاغتصاب الزوجي وغيرها من القضايا التي لا يعترف المجتمع أساسًا بأنها جرائم واعتداءات تستوجب العقاب، الحل الأمثل هو عدم طرح القضايا للعلن والجدل والنقاش دون نموذج يمكن اعتباره “أيقونة” للقضية تراعي أصولية المجتمع وتلعب على جوانب أخرى من سماته لحشد مؤيدين جدد بدلا من خسارة بعض المؤيدين فقط لطريقة التعاطي مع القضية أو بسبب النموذج الذي تقدمه.
منذ أعوام قليلة، نجحت حملة “مي تو” بعد سنوات من إطلاقها في وضع قضايا مناهضة التحرش والاستغلال الجنسي على قائمة أولويات غالبية المؤسسات الدولية في مختلف القطاعات، لكنها أثارت في نفس الوقت مخاوف يجب التعامل معها ومعالجتها حتى لا ينفصل عن أصحاب القضية قطاع من مؤيديها، فأسلوب الحملة ترك انطباعًا لدى البعض بأننا أمام حالة مما يعرف بـ “عدالة الحشود”، وفيه يتحرك حشد من البشر ككيان واحد لا عقل له، من أجل اتهام شخص وإدانته وتنفيذ الحكم عليه في اللحظة نفسها.
الانتقاد أو التخوف قد لا يكون له تأثير كبير في الدول التي أصلت بالفعل لمنظومات قانونية تكفل العدالة وتتيح لمن يتم التشهير به دون قرائن قوية أن يرفع دعوى تعويض كما تتيح للضحايا اللجوء للقضاء مع إمكانية الاستمرار في الحياة دون وصم مجتمعي، لكن نفس الانتقاد قد يكون له تأثير كبير على مثل تلك الحملات في مصر وغيرها من الدول التي تسودها ثقافة أصولية ومحافظة تميل لوصم النساء ولومهن على أي جريمة ترتكب ضدهن.
وهنا يكون القول بأن التأييد الشعبي غير مهم وأن النساء لا يرغبن في دعم غير المؤمنات بحقوقهن كاملة محض مراهقة فكرية، فالتحدي الحقيقي هو كيفية إقناع قطاعات أكبر بالقضية النسوية، وتحييد قطاعات من الرافضين والمتشككين وليس خسارة قطاعات من المناصرين والداعمين، تلك الخسارة حدثت في أكثر من معركة وما نتج عنها دفع العديد من القطاعات بعيدًا عن الانخراط في المعارك النسوية عمومًا، كرد فعل على الآراء الأكثر راديكالية بين الصفوف النسوية التي ترفض الرجال في المطلق وتتبنى وجهة النظر التي تتعامل مع المعركة باعتبارها محض صراع بين النساء والرجال.
هذه الطريقة في التعاطي مع قضايا العنف الجنسي والقضايا النسوية عمومًا لن تُفيد أبدًا، لكنها في الواقع ستدفع المزيد من الدوائر المجتمعية إلى معسكر المواجهة مع حقوق النساء، وستنتهي بمزيد من التكريس للوضع القائم بدلًا من تحقيق تغيير اجتماعي راديكالي الذي تدعو إليه تلك الرؤية، التغيير سواء كان راديكاليًا أو تدريجيًا لن يحدث دون دعم مجتمعي وهو ما أدركه مارتن لوثر كينج، كما أدركته أيضًا روث بيدر جنسبرج القاضية بالمحكمة الأمريكية العليا التي رحلت عن عالمنا في 18 سبتمبر 2020 بعد نصف قرن من النضال، في أحد لقاءاتها مع مجموعة من النسويات الشابات قالت جنسبرج: “حاربن من أجل القضايا التي تؤمنّ بها ولكن بطريقة تحمل الآخرين على الانضمام لصفوفكن.”