تشغل العلاقات المصرية- الأفريقية حيزا كبيرا من مناقشات واهتمامات الباحثين المتخصصين، بدرجة تكاد تماثل اهتمام صناع القرار في هذا الملف، نظرا لقيمة القارة بالنسبة لنا جغرافيا وسياسيا وتنمويا، من جانب، وحتمية استعادة دورنا الرائد في أفريقيا بعد أربعة عقود عجاف، من جانب آخر.
من أجل هذه الأسباب خرج كتاب “مصر وأفريقيا.. قضايا وتفاعل” الصادر عن الجامعة البريطانية في مصر ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وهو نتاج ندوة كبيرة عقدت في يناير 2019 بالجامعة البريطانية، شارك فيها مسئولون وأكاديميون ودبلوماسيون وإعلاميون، لبحث كافة جوانب العلاقات المصرية- الأفريقية، وأوجه التعاون في المستقبل.
الندوة تزامنت مع رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي في الفترة من 2018 حتى فبراير 2020، ما عكس حجم الجهد المصري المبذول في هذا الملف بدءا من 2013 لتغيير الصورة الذهنية لدى الأفارقة عن مصر، بعد عقود عجاف تغيرت فيها بوصلة مصر من أفريقيا إلى أوروبا بدءا من السبعينيات حتى بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
ويشمل الكتاب كلمات وتوصيات عدد من المسؤولين في ملفات الخارجية والإعلام والري، إلى جانب توصيات عدد من الباحثين في ملفات مختلفة، دارت فلكها حول كيفية استعادة الريادة المصرية وتعظيم العلاقات الثنائية مع بعض دول القارة، والتوسع في إنشاء المكاتب والهيئات الإعلامية على غرار ما حدث في حقبتي الخمسينات والستينيات اللتين شهدتا اهتماما خاصا بالعمق الأفريقي من قبل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
التوجه المصري في أفريقيا
لا يرتبط الاهتمام المصري بالعلاقات مع أفريقيا برئاستها للاتحاد الأفريقي، كونه توجه حقيقي ليس له علاقة بالاتحاد، ويشغل اهتمام جميع مؤسسات الدولة، حسبما يوضح السفير خالد عمارة، مساعد وزير الخارجية ومدير إدارة المنظمات والتجمعات الأفريقية.
وذكر عمارة أن مصر تدفع بقوة في مشروع الاندماج الاقتصادي والتجاري والمجتمعي داخل القارة، وأي مشروعات كبيرة تحقق هذا الاندماج، من أهمها اتفاقية مشروع منطقة التجارة الحرة الأفريقية القارية التي وقعها أكثر من50 دولة حتى الآن.
وتشجع الحكومة الأدوار غير الرسمية المرتبطة بالقطاع الخاص لاستثمار الفرص المتاحة في القارة، خصوصا في مشروعات البنية التحتية والمشروعات المتوسطة والصغيرة، وهو ما يحظى باهتمام من القيادة السياسية، وفقا لعمارة.
ويؤكد عمارة أن وزارة الخارجية تهتم بالتوصيات التي تصدر عن المجتمع الفكري والأكاديمي المصري، الذي يراه شريكا حقيقيا في رسم السياسة وتحريك الأمور بالنسبة للتوجه المصري المتزايد نحو القارة الأفريقية والعمل مع أشقائنا في القارة لتحقيق الأهداف المشتركة التي تنشدها القارة من خلال أجندة 2063.
أجندة 2063.. أفريقيا التي نريدها
الكتاب استعرض باستفاضة مكاسب مصر من أجندة أفريقيا 2063 التي أقرها الاتحاد الأفريقي في عام 2015، وكيفية الاستفادة بالمحاور الأساسية في الخطة الطموحة التي تستهدف تنمية القارة وإنهاء الخلاقات بها.
وأولويات الأجندة هي العمل من أجل خلق أفريقيا تنعم بالازدهار على أساس النمو الشامل والتنمية المستدامة، وإقامة قارة تتكامل دولها وقدراتها وتتوحد أهدافها على أساس المثل العليا للوحدة الأفريقية الشاملة ورؤية النهضة الأفريقية الركيزة الأساسية لهذه الخطة الطموحة التي ينشدها الأفارقة الذين عانوا من الحروب والاستعمار والفقر والأمراض.
وتتضمن وضع خارطة طريق ورؤية قارية تهدف إلى تحقيق الانطلاقة المرجوة لأفريقيا من خلال عدد من البرامج منها ما يخص التنمية في مجالات الزراعة والصناعة والتوظيف وتمكين الشباب والمرأة والاستفادة من الثروات وتعكسها الإرادة الأفريقية لكى تنعم القارة بالسلم والأمن وتكون ذات هوية ثقافية قوية وتراث وقيم وأخلاقيات مشتركة، تقود شعوبها للتنمية بإطلاق الطاقات الكامنة للمرأة والشباب، ولكي تصبح أفريقيا لاعبا وشريكا عالميا قويا نافذ الإرادة على المستوى الدولي.
الصورة المصرية في الذهنية الأفريقية
يفرد الكتاب مساحة لأدوات استعادة مصر لصورتها الإيجابية في القارة السمراء، والمؤسسة بشكل أساسي على فترة النصال الأفريقي المشترك لمحاربة الاستعمار، والحصول على الاستقلال الوطني في زمن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وسردت الدكتورة أماني الطويل، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مُحررة الكتاب، في ورقتها البحثية “الصورة المصرية في أفريقيا.. أدوات التطوير وفرص التأثير” ملامح السياسة الخارجية في التعامل مع الملف الأفريقي، إذ تغيرت أولويات السياسات المصرية منذ عام ،2013 وأعطت القاهرة وزنا كبيرا لعلاقتها لأفريقيا.
وبدا الانخراط المصري على المستوى الرسمي في العلاقات الأفريقية مؤسسا على استراتيجية واضحة المعالم أفضت في النهاية إلى دخول مصر ترويكا رئاسة الاتحاد الأفريقي من 2018 إلى 2020.
ترصد الطويل جذور توتر علاقة مصر بدول أفريقيا التي بدأت مع تحولات الرئيس الراحل أنور السادات في التحالف مع الغربوتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل والولايات المتحدة، ما انعكس بشكل مباشر على طبيعة الاهتمام المصري بالقضايا الأفريقية، خصوصا أن الدول قد تحررت من الاستعمار الكولونيالي التقليد، وباتت تمارس سياستها الوطنية طبقا لألوياتها الخاصة.
وأعطت محاولة اغتيال الرئيس السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 سببا إضافية لتتباعد القاهرة أكثر وأكثر عن القارة الأفريقية، خصوصا أن هذه الصورة قد تعرضت لتشوه كبير نتيجة الاجتماع المعلن الذي جرى في رئاسة الجمهورية زمن الرئيس الراحل محمد مرسي، وجرى توظيفه من جانب أثيوبيا ضد مصر على نوح واسع.
أما على المستوى الشعبي، تبلورت صورة سلبية لدى المصريين عن الأفارقة بسبب الانحيازات الجديدة وبالمثل لوحظ أن المصريين يدركون حاليا ذاتهم في الإطارين الفرعوني والإسلامي، فيما تغيب نسبيا المكونات العربية أو الأفريقية في هذه الهوية بسبب محتوى المناهج التعليمية الذي أهمل هذه المكونات بتأثير واضح من التيارات السلفية والإخوانية، كما تغلب المحتوى الترفيهي المسطح على مسارات الفضائيات العربية والمصرية، فباتت الأجيال الجديدة تعيش فجوة معرفية مع جوارها الأفريقي وقضاياه التي هي بالأساس جوهر قضايا المصري الذاتية ومصالحه الواقعية.
أدوات تحسين الصورة الذهنية المصرية في أفريقيا
تستعرض الطويل الأدوات التي اعتمدت عليها مصر في تحسين صورتها الذهنية لدى القارة السمراء، من بينها انخراط مصر في تحسين حالة البنية التحتية التنموية في أفريقيا، من خلال شركة المقاولون العرب ومشاركة أحد رجال الاعمال المصريين في تمويل بناء سد ستيجلر جورج بتنزانيا.
وبرز أيبضا دورة الأكاديمية الوطنية للتدريب، المنبثة عن البرنامج الرئاسي للشباب، حيث تهتم بإدماج الشباب الأفارقة في أنشطته بالقاهرة، فضلا عن الاهتمام بالمكون الأفريقي في مؤتمرات الشباب التابعة لرئاسة الجمهورية.
لكن الطويل ترى أن هذه الوسائل لازالت محصورة في العاصمة المصرية، بينما تتطلب عملية تطوير وتحسين الصورة المصرية في الذهنية الأفريقية الوجود والانتشار على الأراضي الأفريقية، خصوصا في أوقات الأزمات.
وخلصت مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى ضرورة تفعيل دور الفاعل غير الرسمي للقيام بأدوار أساسية لتطوير الصورة المصرية في الذهنية الأفريقية، وابتكار مجالات للتعاون المشترك، خصوصا في القضايا التنموية، ومحاولة خلق الذهنية الأفريقية المشتركة للتفاعل مع هذه القضايا من منظور متقارب، بهدف الدعم وتقليل حجم التحديات امام صانع القرار المصري في المجال الأفريقي.
غير أن تفعيل دور مراكز التفكير والأبحاث والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والتشبيك بينها على المستويين المصري والإقليمي بات هدفا مطلوبا بإلحاح، ليس في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال فحسب، بال في مجالات صنع القرار السياسي الاستراتيجي على المستوى الأفريقي.
الهوية الأفريقية في الرسالة الإعلامية
إعادة صياغة الاستراتيجية الإعلامية المصرية التي ترسخ هوية مصر الأفريقية وتعزز الانتماء لدول القارة، كان جزءا من المقترحات البارزة في المحور الخاص بالرسالة الإعلامية التي يشوبها كثير من السلبيات في تغطيتنا للملف الأفريقي.
وشملت التوصيات الإعلامية إطلاق قناة فضائية مصرية خاصة بأفريقيا على أن تبث بلغات أفريقية مختلفة تراعي الذوق والثقافة الأفريقية، وكذلك التوسع في المناهج الأكاديمية الخاصة بالإعلام الأفريقي بكليات الإعلام، بهدف خلق جيل جديد من الإعلاميين المصريين المهتمين بالشأن الأفريقي.
وتضمنت إنتاج أفلام وثائقية توضح هوية مصر الأفريقية، يمكن من خلالها النفاذ إلى الذهنية الأفريقية، إلى جانب تصحيح المقولات الخاطئة لدى المواطن الأفريقي عن العرب، خاصة قضايا ازدراء الأفريقي، وتجارة العبيد، وتعريب أفريقيا.