باحثان فرنسيان مرموقان يعرفهما القاصي والداني في فرنسا، وخارجها أيضا، وتحديداً كل من يعمل في مجال البحث الأكاديمي في الأصولية الإسلامية.
جيلز كيبيل وأوليفر روا. الاثنان أكاديميان فرنسيان لا يحتاجان إلى تعريف.
عمل كلاهما ضمن تقاليد علم الاجتماع الفرنسي حول ظاهرة التطرف، وتاريخهما المهني حافل بقوائم من كتب بحثية حول الموضوع، إلى جانب سنوات من الخبرة على أرض الواقع في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وضواحي باريس.
وكان الاثنان زميلين وصديقين على مدار حياتهما المهنية. لكن تلك الصداقة انتهت فجأة بخلاف علني تبعثرت تفاصيلُه على صفحات الجرائد الفرنسية والدولية.
حدث ذلك تحديدا عام 2015، في وقتٍ ارتفع فيه صيت دولة “داعش”، والجرائم التي ارتكبتها في سوريا والعراق وخارجهما.
حدث ذلك تحديداً بعد العمليات الإرهابية التي روعت المدنيين والمدنيات في فرنسا في نفس العام.
وخلافهما كان حول السؤال، ما هو سبب نجاح “داعش” في تجنيد مواطنين ومواطنات فرنسيين وفرنسيات من خلفيات مهاجرة في ارتكاب جرائم إرهابية؟.
بكلمات بسيطة، اختلف الاثنان على العوامل الدافعة لموجة العنف التي عايشتها فرنسا.
“تطرف هؤلاء الشباب والشابات هو عملية يسعون ويسعين من خلالها إلى إعادة بناء هوية مفقودة في عالم يبدو لهم ولهن مُعاديًا ومربكًا”
هل يمكن أن يُعزى ذلك إلى تطرف طرأ على الإسلام نفسه، أي تفسيرات دينية شقت طريقها إلى المجتمعات المغلقة في الضواحي الفرنسية بأغلبيتها الفرنسية من أصول مغاربية؟ أم أن الظاهرة تتعلق بأسلمة التطرف؟ أي أننا نتعامل مع شباب تائه يبحث عن سبب للتمرد ويجده في داعش؟
درس الاثنان ظاهرة التطرف، وتحديداً في صورته الإسلامية، من خلال وصف سياقها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الشامل.
وحدد كلاهما الضواحي الفرنسية، الجيتوهات المهمشة، المختلة وظيفياً، على أنها الحاضنة التي يتقولب فيها الجيل الثاني والثالث من المهاجرين والمهاجرات على رؤى شمولية جهادية.
واتفق الاثنان على أن تطرف هؤلاء الشباب والشابات هو عملية يسعون ويسعين من خلالها إلى إعادة بناء هوية مفقودة في عالم يبدو لهم ولهن مُعاديًا ومربكًا، لكنهما اختلفا حول كيفية حدوث هذا التطرف وفي أي سياق.
وعندما اختلفا، اختلفا بقوة، وتسرب خلافهما من الأوساط الأكاديمية ليتم نشره علنًا على منصات الصحف.
حدث هذا الخلاف تحديداً بعد هجمات باريس في نوفمبر 2015، وهي سلسلة هجمات إرهابية منسقة شملت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات قُتل فيها 130 شخصاً مدنياً.
بعدها نشر روا، الذي يُدرس في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا بإيطاليا، مقالَ رأي في الرابع والعشرين من نوفمبر 2015 في صحيفة لوموند بعنوان “الجهادية ثورة عدمية وجيلية”.
عبر فيها عن رأيه أن المسلمين الفرنسيين الشباب الذين ارتكبوا هذه الفظائع “فعلوا ذلك ليس لأنهم مسلمين، بل لأنهم شباب صغير في السن”.
وعلى حد رؤيته يبحث شباب فرنسا المسلم المتطرف الذي جنده داعش إلى قضية يضع عليها بصمة ثورته الشخصية الملطخة بالدماء.
ولذا فبالنسبة له، فإن التهديد الحقيقي لفرنسا وبقية الدول الغربية ليست داعش، “التي ستختفي عاجلاً أم أجلاً مثل السراب”، بل “ردود الفعل العدمية الثورية لشريحة معينة من الشباب الغرباء”.
إنهم متمردون يبحثون عن قضية، وبالتالي فإن ما تواجهه فرنسا وبقية الدول الغربية “ليس تطرّف الإسلام، بل أسلمة التطرف”.
جاء رد السيد كيبيل، الأستاذ في معهد الدراسات السياسية المرموق في باريس (ساينس-بو)، بعد عدة أشهر.
أجاب الحجة بالحجة في مقال نُشر في جريدة ليبراسيون في 14 مارس 2016، بعنوان “الملك عارٍ”، أي أن الملك يقف عارياً، وكان العنوان هجوماً واضحاً على روا، الذي يعني اسمه “الملك”.
بلغة قوية، اقترح كيبيل أن يقوم روا أولاً بزيارة الضواحي التي خرج منها هؤلاء الإرهابيون – والتي تحولت إلى بؤر حاضنة للسلفية الإسلامية المتطرفة.
وانتقد خطاب روا الذي شبهه بتحليل بعض المتخصصين الأمريكيين، الذين لا يجيدون العربية لا قراءة ولا كتابة، وقرروا دون دراسة ميدانية أو تمحيص، أن هذه الأعمال الإرهابية ما هي إلا نتاج انفصال الشباب المسلم عن مجتمعاتهم المهيمنة.
المدرسة الفكرية التي يمثلها روا ترى أن مقاتلي داعش لا يختلفون عن أعضاء الألوية الحمراء العسكرية اليسارية المتطرفة في إيطاليا أو فصيل الجيش الأحمر اليساري المسلح في ألمانيا الغربية خلال فترة السبعينيات:
“نفس التمرد، نفس القطيعة، ونفس العنف”.
أما كيبيل فيرى أن هذا الحديث مجرد هراء. بالنسبة له، فإن استخدام مصطلح “التطرف” يعني “غياب التحليل”.
ويُصر على أن روا لم يسمع الكلمات الفعلية التي نطق بها الدعاة السلفيون في الضواحي الفرنسية المعزولة، مثلما فشل في قراءة التغريدات والمنشورات التي كانوا يبثونها.
وهو يصر على أنه يجب التعامل مع السلفية الوهابية وبؤرها على محمل الجد – حتى لو أدى ذلك إلى اتهامات بالإسلاموفوبيا.
وأضاف، في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز، في يوليو 2016،”إذا كنت تريد أن تفهم فعلهم، عليك أن تفهم خلفيتهم. عليك أن تفهم المنابع الفكرية للسلفية”.
أليس غريباً أن نرى مفكرين بهذا الحجم يتجادلان بهذا الشكل؟
فرغم الاستقطاب الشديد بين موقفيهما، أنا على قناعة أن التضاد بينهما مبالغ فيه بشكل كبير.
في الواقع، الصورة والمشهد يكتملان بهما الاثنان.
رؤيتهما تكملان بعضهما البعض.
يود روا أن يُّركز صانعو القرار في فرنسا على سلوك وشخصيات الجهاديين الإرهابيين الذين ارتكبوا هذه الفظائع. أي على الأفراد الغرباء في مجتمعهم.
أما كيبل، وفي الوقت الذي لا يختلف فيه على أهمية بُعد الاغتراب، فإنه يصر على توسيع نطاق الرؤية والنظر إلى الجذور الأيديولوجية/ الدينية التي تؤدي إلى تطرف هؤلاء الشباب، أي السلفية وهياكلها وأدواتها الدينية.
“علينا توسيع نطاق البحث إلى المستوى الدولي أي الإسلام الجهادي العابر للحدود الوطنية”
بالنسبة له، فإن المذابح التي ارُتكبت في فرنسا وبلجيكا هي تعبير عن تطرف إسلامي تبلور على مدى عقود، وتفاقم في المجتمعات المسلمة المنفصلة، في الجيتوهات القائمة اليوم والتي تسيطر عليها الهياكل السلفية.
بعبارة أخرى، يسعى روا إلى التركيز على الدوافع والمحفزات الفردية الشخصية المحلية، بينما يُفضل كيبل توسيع نطاق البحث إلى المستوى الدولي، أي الإسلام الجهادي العابر للحدود الوطنية الذي يتغذى على هذه الدوافع المحلية.
روا يريد أن يطرح قضية حساسة بطريقة “غير محرجة”، politically correct ، بينما يصر كيبيل على الخوض في جوهرها، حتى لو كان ذلك من شأنه أن يثير حفيظة وحساسية بعض الأكاديميين الليبراليين واليساريين في الغرب.[1]
أظن عزيزي القارئ عزيزتي القارئة أنكما تعرفان الآن سبب كتابتي عن هذا الجدل الذي يعود تاريخه إلى عام 2015. أردته أن يكون تمهيدا لتعليق سأكتبه على خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ألقاه يوم الجمعة الثاني من أكتوبر في ليه موروه بضواحي باريس.
ماكرون قال إن على فرنسا “التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية” الساعية إلى “إقامة نظام مواز” و”إنكار الجمهورية”.
وأضاف خلال عرضه لخطة عمل حول “النزعات الانفصالية” وبالخصوص النزعة الإسلاموية المتطرفة، إن الإسلام “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم” وذلك “بسبب تجاذب تيارات داخلها”.
أثار الخطاب غضباً كبيراً، وردود فعل أكبر.
وقامت القيامة ولم تقعد.
ورغم تفهمي لغضب البعض، لعل مناقشة ما قاله ماكرون في ظل الواقع الفرنسي هو السبيل الأفضل للحديث عنه. ولذا أدعوكما للقائي في مقالي القادم بعد أسبوعين.
وإلى ذلك الحين أسألكما أن تنظرا من حولكما وتطرحا السؤال على نفسيكما ومن حولكما: “هل يعاني الإسلام من أزمة؟ أم لا؟”.
فكرا وتدبرا، وكونا مع الصدق صحبة.
[1] هذا المقال مقتطع من الفصل الرابع لكتاب المؤلفة بعنوان “المشكلة مع الإسلام السياسي” والذي تم نشره باللغة الألمانية عام 2018 وسينشر بالإنجليزية في فبراير 2021:
عنوان الكتاب بالألمانية
Der Alltägliche Islamismus, München, Random House Deutschland, 2018, 280p.