تصدر “اتفاق السلام” المبدئي بين السودان وإسرائيل، الذي أعلن عنه من مقر البيت الأبيض يوم الجمعة الماضية، عناوين الصحف المحلية والعالمية، وذلك بعد أسابيع من النفي الرسمي السوداني. وما بين التنديد بالتطبيع والإشادة بـ”ظل السلام” المخيم على المنطقة، تطرح التساؤلات حول مكاسب هذا التطبيع وفوائده للبلدين، بل وللأطراف الفاعلة والمتناحرة فيهما.
وأعلن الرئيس ألأمريكي، دونالد ترامب، مساء الجمعة أمام صحفيين في البيت الأبيض، أن السودان وافق على أن يكون رابع الدولة العربية التي تتخذ خطوة تطبيع العلاقات مع إسرائيل خلال الأسابيع المنقضية.
وبالتزامن مع إدانة الفصائل الفلسطينية إعلان التطبيع السوداني الإسرائيلي، واصفة اياه بـ”طعنة في الظهر“، أوضح وزير الخارجية السوداني المكلف عمر قمر الدين، أن “ما تم يوم الجمعة 23 أكتوبر مع إسرائيل هو اتفاق حول التطبيع وليس تطبيعًا. مضيفًا أن الموافقة على التطبيع “سيتم اتخاذ قرار بشأنها بعد اكتمال المؤسسات الدستورية بتكوين المجلس التشريعي”.
روح الثورة
وتأكيدًا علي تصريحات وزير الخارجية السوداني، ذكَّرت صحيفة “الجارديان” البريطانية قراءها بأنه لا يمكن للإعلان التي روج له دونالد ترامب أن يمضي قُدمًا دون موافقة مجلس تشريعي لا يزال غير موجود.
وأعلنت قوى الحرية والتغيير “قحت” المشاركة في الحكومة المدنية معارضتها للقرار، وكذا فعلت لجان المقاومة في الأحياء والولايات السودانية. وورفض حزب الأمة القومي ثاني أكبر الأحزاب السودانية الاتفاق على لسان رئيسه الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني الأسبق، وأمينه العام “الواثق البرير” الذي اعتبر أن “ربط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بشرط التطبيع مع إسرائيل، هو ابتزاز سياسي”. وواصل: “حق التطبيع يجب أن يترك لحكومة ديمقراطية مفوضة لها شرعية اتخاذ القرار باسم الشعب”.
وبحسب المراقبين: هناك انقسام عميق بين القادة العسكريين، والحكومة المدنية الانتقالية السودانية حول مدى سرعة إقامة علاقات مع إسرائيل، فالبادي أن الجنرلات العسكريين أكثر حماسًا لكسب التأييد ألأمريكي من القيادات المدنية، بحسب “الجارديان”.
في الأشهر الأخيرة، ربط البيت الأبيض أيضًا إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو مطلب رفضه المسؤولون السودانيون في البداية، ثم وافقوا عليه لإتمام الصفقة، خاصة مع تصاعد الأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان.
المواطن السوداني.. رابح؟
يعاني السودانيون منذ عهد “الإنقاذ” الذي قاده عمر البشير عقب انقلابه العسكري في 30 يونيو 1989 من احتراب اهلي ومذابح اجتماعية وأزمات اقتصادية ممتدة ومتراكبة، جعلت المراقبين يرون في اتفاق التطبيع السوداني الإسرائيلي وما يترتب عليه من نتائج سياسية طوق انقاذ اقتصادي للسودان ومواطنيه.
ظهر قبل توقيع الاتفاق أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر تضع التطبيع مع إسرائيل شرطًا لخلاص السودان من الحصار الاقتصادي المفروض عليه بسبب العقوبات ووضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وخلال الأشهر السابقة، ومع اقتراب موعد توقيع “اتفاق السلام” الإماراتي الإسرائيلي، بدأت الوعود العربية تصل إلى المجلس العسكري ثم الحكومة المدنية في الخرطوم. ممنية بمعونات واستثمارات واسعة النطاق تنتظر السودان، إذا ما وافق على التطبيع ووُفِّق في إزاحة اسمه عن قائمة الإرهاب.
وقد يساهم رفع السودان من قوائم ألارهاب في موافقة واشنطن علي طلبات السودان للحصول على المساعدة من صندوق النقد والبنك الدوليين. وستبدأ الشركات الأمريكية في ممارسة الاعمال التجارية في البلاد.
ووفق بيان للبيت الأبيض، فإن الولايات المتحدة والسودان اتفقا على بدء علاقات اقتصادية وتجارية يمكن أن تساعد السودان على إنعاش الاقتصاد. كما تعهدت واشنطن بتقديم عشرات الملايين من الدولارات لدعم اقتصاد السودان الذي يعاني من تضخم سنوي تجاوز الـ 200٪، ووصلت فيه معدلات البطالة إلى 24٪، وارتفع سعر الدولار الواحد ليتجاوز حاجز المائتي جنيه سوداني.
وقد أثرت الفترة الطويلة التي استغرقها اتخاذ قرار أمريكي برفع اسم السودان من القوائم الإرهاب على قدرة السودان على الحصول على قروض دولية، قدرها رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك في سبتمبر 2019 بأنها بلغت 10 مليارات دولار.
ومن هنا، يظهر أن الفائدة الأكبر التي قد تعود على المواطن السوداني هو تحريك مياه الاقتصاد الراكدة عبر الاستثمارات وفتح النظام المصرفي. إلى جانب الوعود بتوصيل وتوطين التكنولوجيا الصناعية والزراعية الممنوعة على السودان بموجب العقوبات، خاصة مع التلميحات الإسرائيلية بتعاون اقتصادي متعدد المجالات مع السودان لاسيما في المجال الزراعي، الذي تتمتع إسرائيل بقاعدة بحث وتطوير مميزة فيه بالمقارنة بباقي دول الشرق الأوسط. ولكن هل ستصل تلك الفوائد للمواطن السوداني فعلا؟
يقول تيودور مورفي، مدير قسم أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية يشكك في أمانة الوعود التي تلقتها السودان، وقال لراديو ألمانيا: “لا تبحث الشركات بالضرورة عن أسواق مليئة بالمغامرة في بلدان في طور التحول.
في دراسة بعنوان “التبعات الاقتصادية لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل” يدفع ديفيد آفيل الباحث في الجامعة العبرية بأن مصر حققت استفادة اقتصادية كبيرة من سلامها مع إسرائيل إلا أن هذه الاستفادة تتصل بتوفير مصر تكلفة الحروب والإنفاق العسكري عليها بالأساس، كما استفادت مصر بوضع يدها على الموارد الطبيعية الموجودة في أ{ض سيناء بعد استردادها، وفي المرتبة الثالثة جاءت التجارة بين الدولتين. وهو أمر غير وارد التحقق في حالة السودان التي لم تحدث مواجهات مباشرة بينها وبين دولة الاحتلال. أما الجانب الذي حقق استفادة اقتصادية حقيقية من السلام المصري الإسرائيلي، فهو إسرائيل التي وفرت كثيرًا في نفقات الدفاع ووصول حصيلة صادراتها السلعية إلى مصر لحوالي 1.5 مليار دولار، بينما انحصرت صادرات مصر إلأيها في بعض البترول والغاز، وهو ما رصدته دراسة صادرة عن مركز توني بلير للتغيير في 2018.
العسكريين.. مكاسب في الممانعة والتطبيع
وبعيدًا عن النواحي الاقتصادية، قادت القيادات العسكرية في المجلس السيادي السوداني الحاكم التوجه نحو التطبيع رغم المعارضة القوية للمكون المدني والحكومة المدنية، كما تكشف شهادات متواترة بعضها من داخل المجلس السيادي نفسه.
تصدرت القيادات العسكرية في السودان قائمة المستفيدين من وراء التطبيع، إذ يتوقعون أن يعرقل الاتفاق أي ملاحقة دولية لهم كمتورطين في المذابح والانتهاكات التي وقعت في عهد همر البشير أو حتى بعد إزاحته. فضلاً عن توطيد مكانتهم داخل السلطة بمساندة إماراتية – مصرية، وكسب زخم دولي واقليمي، قد يمكنهم من الاحتفاظ بالسلطة في الفترة المقبلة، بحسب المراقبين. ليكونوا هم أكبر الكاسبين سواء في عهد البشير الذي ارتكبوا خلاله المذابح وصعدوا في درجات الجيش والثروة، أو عقب الثورة التي يتلقون مساندة عربية قوية للالتفاف عليها والبقاء في الحكم بعدها.
ترامب.. الطريق للكرسي يمر بالسودان
إضافة إلى السودان وإسرائيل، يمكن أن يظهر اتفاق التطبيع قبل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية بأنه انتصار للسياسة الخارجية للرئيس الأمريكي الذييواجه أزمة شعبية قبل أيام من خوضه الانتخابات الرئاسية.
وبحسب “الجارديان”، فإن اتفاق السلام دليل على النفوذ الذي ما زالت تمارسه الولايات المتحدة في شرق أفريقيا، اذ تحركت واشنطن لاستعادة العلاقات مع السودان بشكل تدريجي خلال السنوات الاخيرة ، لكنها أصرت على تسوية المطالبات العالقة، وعلى رأسها التطبيع، قبل شطب الأخيرة من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
إلا أن الكاتب ألأمريكي، ديفيد إغناطيوس، بصحيفة “واشنطن بوست” يري ان الرابح الاكبر من اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، وآخرها السودان، هو إسرائيل وليس الولايات المتحدة. فهذه الاتفاقات المتتالية تدفع للخروج من عزلتها في المنطقة وتوسيع رقعة نفوذها.
منافع إسرائيل
وذكرت صحيفة “تايم أوف إسرائيل”، الصادرة بالإنجليزية، أن اتفاق السلام سيعزز أمن إسرائيل وينهي عزلة السودان الطويلة عن العالم، وسيفتح فرصا جديدة للتجارة والتعليم والبحث والتعاون والصداقة لكلا الشعبين.
من جانبه، قال رئيس الوزراء ألإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، إن اتفاقات السلام مع الإمارات والبحرين والسودان حتى الآن “جيدة للأمن والقلب والجيب”. مضيفًا أن مزيدا من الدول العربية ستلحق بركب التطبيع، بحسب “بي بي سي” البريطانية.
وأشار “نتنياهو” إلى إن التقارب مع الخرطوم، سيفتح منافع للإسرائيليين، الذين يعبرون المحيط الأطلسي، متابعًا/ “نحن ألان نطير غربا، فوق السودان، وفقا لاتفاقات عقدناها حتى قبل أن نعلن التطبيع، وفوق تشاد، التي أقمنا معها أيضا علاقات، إلى البرازيل وأمريكا الجنوبية”.
وفي تقرير لها حول مكاسب الجانبين رجحت هيئة الإذاعة البريطانية أنه “بجانب اقامتها علاقات أمنية ودبلوماسية مع السودان، ستطلع تل أبيب على نشاطات تعتبرها إرهابيية أو معادية لها في مناطق متاخمة للسودان، مثل تشاد ومالي والنيجر، كما أن إسرائيل تنظر للفائدة الأكبر من الناحية ألاستراتيجية، وهي إبعاد السودان تماما عن الحلف الإيراني”.
كما يمهد الاتفاق لإعادة جزء من المتسللين السودانيين الذين يعيشون حاليا في إسرائيل، بعد الحصول على ضمانات أنه لن يتم التنكيل بهم بعد عودتهم.
وسمح السودان، في الأشهر الأخيرة، بمرور رحلات جوية إلى إسرائيل فوق أجوائه، هذا الأمر سيساهم في تخفيض فترة الرحلات إلى دول أفريقية مثل إثيوبيا وجنوب أفريقيا، وأيضا إلى أمريكا اللاتينية.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن السودان تمثل سوقًا جديدة عطشى للمنتجات لإسرائيلية، ما سيساعد الإسرائيليين في تصدير أنواع مختلفة من البضائع خاصة في مجالات التكنولوجيا والخدمات الناقصة التي يمكن لإسرائيل أن توفرها بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي هناك، بحسب تقرير وزارة ألاستخبارات ألإسرائيلية.
ووصفت الخرطوم في فترة من الفترات بعاصمة اللاءات الثلاث، حينما استضافت قمة عربية في 1967 أقرت مبادئ وشعارات رددتها كثير من الأجيال العربية: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل.