قضى خالد محمد – طالب الإعدادية- أيام الإجازة الطويلة في انتظار المدرسة بصبر قارب النفاذ. فمنذ توقف الدراسة في مارس الماضي بقرار من مجلس الوزراء للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، تمر الأيام على خالد صعبة وثقيلة. طالب الدمج الذي يعاني من إعاقة ذهنية بسيطة، مثلت له مدرسته مساحة لكسب الأصدقاء والتواصل الذي يفتقر إليه في حياته العادية البعيدة عن مقاعد الدراسة.
يقول خالد* لـ”مصر 360″: “عندما تواجدت في المنزل خلال الفترة الماضية اشتقت لأصدقائي. أحب المدرسة وأردت أن أذهب لأراهم”. يعلق والده محمد سلامة الجعفري: “ابني يعاني من إعاقة ذهنية بسيطة. هناك بعض الأمور يصعب عليه استيعابها، لكنه يحاول ويجتهد طوال الوقت حتى يتعلم. اكتشفنا إصابته انا ووالدته عندما كان في الصف الثالث الابتدائي، وولاحظنا أنه لا يستطيع تحصيل المعلومات بشكل طبيعي، فبدأنا في اتخاذ إجراءات إلحاقه بمدرسة دمج، حتى لا يشعر بالتمييز ويندمج مع أقرانه ويعيش حياة طبيعية”.
يبلغ خالد من العمر 14 عامًا، ويرتاد إحدى مدارس الدمج الإعدادية في مسقط رأسه في دمياط. خاض والداه رحلة مرهقة من الإجراءات البيروقراطية والطبية حتى يتسنى لهما إلحاق نجلهما بهذه المدرسة الحكومية. يعلق الأب: “وكأنه لا يكفي أولياء الأمور ما يعانوه هم وأبناءهم”، لكنها فرصة لم يكن له أن يفوتها لأن “بقاء الناس الي زي ابني في المدارس مع الأولاد الطبيعيين فرصة لدمجهم في المجتمع وتحسين قدراتهم الدراسية”.
خلال سنوات الدراسة لاحظ والدا محمد ما يصفانه بـ”إهمال المدرسين لطلاب الدمج” بالإضافة إلى صعوبة المناهج. لكن تحسن المهارات الذاتية والاجتماعية لخالد، وازدياد ثقته بنفسه نتيجة اختلاطه بزملائه كان مشجعًا على الاستمرار في مدارس الدمج وعدم الانتقال لمدارس ذوي الاحتياجات الخاصة. لهذا يرى والد خالد أن: “فكرة ذهاب طالب الدمج يومين فقط في الأسبوع كارثية، وستعود بالسلب عليه. ونظام التعلم عن بعد لا يتناسب معه، لأن الأساس في فكرة الدمج هو بقاؤه وسط أقرانه من الطلبة الطبيعيين ليتعلم منهم. وبحضوره يومين فقط تقل تلك الفرصة. كما أنه يحتاج للشرح بطريقة أكثر تبسيطًا، وهذا غير متوفر في الدروس التعليمية الأونلاين أو على القنوات التعليمية الجديدة التي أطلقتها الوزارة”.
وطالب الأب وزير التربية والتعليم، الدكتور طارق شوقي بتخصيص ساعات في القنوات التعليمية لشرح الدروس لطلبة الدمج بطريقة مبسطة مع زيادة عدد أيام حضورهم في المدرسة.
الطريق إلى الدمج
وسَّع القرار الوزاري رقم ٤٢ لسنة ٢٠١٥ من منصة الدمج، بالسماح بقبول الطلاب الذين يعانون من إعاقات بسيطة في مدارس التعليم العام، لتصبح جميع المدارس “دامجة” بما فيها مدارس الفرصة الثانية.
ونصت المادة على أنه “من حق التلميذ الذي تنطبق عليه الشروط أن يتم دمجه في أقرب مدرسة لمحل إقامته، على أن يكون سن الالتحاق بالصف الأول الابتدائي بمدارس الدمج من 6 لـ 9 سنوات وفقًا لقانون التعليم العام. ويتم قبول الطالب الكفيف وضعيف البصر، ومريض الشلل الدماغي – أحد أنواع الإعاقات الحركية- باستثناء الحالات الشديدة والحادة. وتتضمن الإعاقات الذهنية المنصوص على قبول أصحابها كطلبة دمج: سمات التوحد، متلازمة داون، الإعاقة الذهنية البسيطة، وبطء التعلم”.
ويخوض أولياء الأمور رحلة طويلة للحصول على تصريح لقبول أبنائهم في المدارس كطلبة دمج، إذ يستلزم الالتحاق الحصول على خطاب من المديرية التعليمية يخاطب مستشفى التأمين الصحي بالمنطقة لإجراء اختبار الذكاء على مقياس “ستانفورد”، وإذا حصل الطفل على نسبة تتراوح بين 65٪ إلى 75٪ يُقبَل بالمدرسة، وإلا يحال إلى مدارس التربية الفكرية.
وبعد حصول الطالب على شهادة مختومة يتقدم بها للقوموسيون الطبي في مستشفيات وزارة الصحة لتأكيد القرار، ثم تلحقه الإدارة التعليمية بأقرب مدارس الدمج لمحل إقامته المعتمد. وترسل الإدارة “لجنة دمج” لإعطاء دورات تربية خاصة للمدرسين بالمدارس التي يلتحق بها طلبة الدمج بعد تقسيمهم لمجموعات لتأهيلهم للتعامل مع طلبة الدمج.
يخوض أولياء الأمور هذه الرحلة البيروقراطية الطويلة أملا في استفادة أبنائهم من الوجود في أجواء المدرسة مع الطلاب غير المصابين بالإعاقات، وأثر ذلك على تحسين قدراتهم ومهاراتهم الذاتية والدراسية.
استراتيجية بديلة
ويرى أخصائيون تربويون تحدثت إليهم “مصر 360″ أن قرار وزير التربية والتعليم بالاعتماد شبه الكلي على التعلم عن بعد لم يضع طلبة الدمج في الحسبان، وأنه يُردي من حالتهم المرضية ويفاقم مشاكلهم.
دكتور تامر مصطفى، أخصائي التربية الخاصة وتنمية المهارات يقول لـ”مصر 360” إن طريقة التعليم عن بُعد التي اعتمدتها وزارة التربية والتعليم تفرض قضاء الطلاب أوقات وساعات طويلة أمام أجهزة الكمبيوتر والتابلت للتعلم والاستيعاب. وهو ما يمثل مشكلة حقيقية لطلبة الدمج من ذوي الإعاقات الذهنية، سواء كانوا من طلبة متلازمة داون أو من يعانون من بطء وصعوبات التعلم، فهذه الفئة لا يجب أن تتعامل مع الأجهزة الإلكترونية إلا بحساب، لأثرها السلبي البالغ على حالتهم المرضية.
وأضاف أخصائي التربية الخاصة وتنمية المهارات أنه يمنع عليهم في بعض الأحيان التعرض للهواتف وشاشات التلفزيون والحواسب الآلية، “فكيف يجلس أولئك الطلبة أمام شاشات التلفزيون لمتابعة الدروس، بالإضافة إلى أنهم لا ينتبهون في أغلب الأحيان ويحتاجون لمن يراقبهم ويجذب انتباههم ليتأكد من استفادتهم، فكيف سيحدث ذلك أمام التلفزيون؟”. وأكد أن عدم احتكاك طالب الدمج بأقرانه يقلل ثقته بنفسه، كما يقلل من مهاراته المكتسبة ممن حوله، ما يعني كارثة سيتعرض لها الطلبة تنذر بحدوث تخلف عقلي بنقص مستويات الذكاء لكثير منهم.
ما يخشاه الخبير التربوي رصده والد الطفل أحمد يوسف، أحد سكان محافظة الأسكندرية. التحق أحمد بإحدى مدارس الدمج طالبًا بالمرحلة الابتدائية لمعاناته من صعوبات التعلم.
يقول والده: “حالة ابني الذهنية تتدهور بشكل يومي مع ابتعاده عن أقرانه واعتماده على الشاشات في تلقي الدروس، وذلك سيتسبب في تراجع مستوى ذكائه وإصابته بتخلف عقلي يستحيل إيجاد علاج له. فقد أصبح لا يستفيد من المدرسة، ولا يختلط بالطلبة بشكل دائم، بالإضافة إلى عدم توافر مجموعات تقوية لطلبة الدمج، وكذا قنوات تعليمية أو دروس مبسطة”.
دكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي يقول إن دمج ذوي الإعاقة من الأطفال، داخل المدارس يحسن من سلوكهم، كما أنهم يتعلمون من أقرانهم مهارات جديدة بشكل يومي، ويحسن ذلك نفسيتهم، ويمكنهم من اكتساب مهارات اجتماعية جديدة. فالعزلة تتسبب في تدهور حالتهم. ويرى فرويز أن قرار التعلم عن بعد بدلًا أسقط تأثير المدرسة التي كانت تزيد من ثقتهم بالنفس وتضغي عليهم شعورًا بأنهم مؤثرين في المجتمع، ما سيتسبب في تدهور حالتهم النفسية والعقلية.
أمنية حسن، ولية أمر طالبة دمج تدعى “لانا” في الصف الخامس الابتدائي، تقول إن ابنتها تعاني من التوحد وتحتاج لأن تتفاعل مع المعلم والتلاميذ بشكل دائم لتحقيق أثر إيجابي. وأن التعلم أون لاين “لن يفيدها”. تشعر ولية الأمر أن ابنتها وأمثالها من الطلبة “سقطوا من حسابات الوزارة”. وأضافت: “طالما حذرنا الأطباء من ترك استخدام أبنائنا للأجهزة الذكية التي تترك تأثيرات سلبية عليهم بسبب حالتها المرضية”، وأنه على الرغم من محاولتها هي وأولياء أمور طلبة الدمج التواصل لحل مع إدارة المدرسة لإحضار أبنائهم بشكل يومي، إلا أنهم لم يصلوا إلى اتفاق.
مطالب والدة “لانا” يتفق معها فيها الخبير التربوي دكتور محمد عبد العزيز، الذي يطرح استراتيجية أخرى تقضي بأن يحضر طلبة الدمج في المرحلة الابتدائية 4 أيام أسبوعيًا في مجموعات صغيرة، أما باقي المراحل فيحضرون حوالي ثلاثة أيام على أن يتواصلوا بشكل دائم ومباشر مع المعلمين. متوقعًا أن يعزز ذلك من فرصهم في التفكير وإبداء الرأي، وتنمية القدرات العقلية لديهم بما يتناسب مع النظام الجديد، مع البقاء على نظام الامتحانات الخاص بهم، وهو أسئلة اختيارية بسيطة. مطالبا بتقليل كمية الدروس التي يتلقونها في المناهج، أو وضع مناهج تتناسب مع حالاتهم المرضية، خاصة وأن عددهم حوالي 60 ألف طالب.
ولجأت “مصر 360” لمساعدة أحد قرائها وهو “عبدالله محمد” – طالب جامعة فاقد البصر، لتقييم محايد لمدى تناسب المحتوى على القنوات التعليمية وبرامج الوزارة على يوتيوب للطلاب المكفوفين. وجاء تعليقه: “طريقة الشرح لا تتناسب مع المكفوفين لأن فاقدي البصر يعتمدون على السمع فقط في تلقي الدروس يوجب أن تصمم بحيث لا يحتاجالطالب لرؤية تماذج رؤي العين. أما الدروس الموجودة على منصات الوزارة، فمصممة لطالب قادر على المشاهدة والتفاعل”. كما رصدت “مصر 360” افتقار البرامج المقدمة لمترجم إشارة لمساعدة الطلاب فاقدي السمع.
وضع استثنائي
الدكتور أحمد شحاتة، مسؤول الدمج بمحافظة دمياط قال لـ”مصر 360″ إن “الوضع الراهن المطبق على طلبة الدمج استثنائي، نتيجة لانتشار فيروس كورونا المستجد في العالم بأكمله باعتباره جائحة. وتلك القرارات في صف الطلبة نظرًا لضعف مناعتهم، وعدم قدرتهم على التواجد بشكل دائم داخل المدرسة، خوفًا من إصابتهم بالفيروس”.
وأكد مسؤول الدمج بمحافظة دمياط ما رصدته “مصر 360” بأن الوزارة لم تصدر قرارات منفصلة لطلبة الدمج، كما لم تخصص لهم قنوات دراسية أو ساعات بث محتوى دراسي مبسط، مضيفًا: “يمكن لبعض المدارس التعاون مع أولياء الأمور بتنظيم أمر حضورهم بشكل لا يسمح بتدهور حالتهم”. مبينًا أن الوزارة ستعلن قريبًا عن امتحانات خاصة لمن يحصلون على أكثر من 71٪ في مقياس الذكاء من طلبة الدمج، لكن غيرهم ممن زيدمعدلات ذكائهم عن هذه النسبة ستطبق عليهم نفس الامتحانات التي يخضع لها أقرانهم من غير ذوي الاحتياجات الخاصة، على أن يزيد وقت امتحانهم عن الوقت المخصص للطلبة الآخرين.
وعلقت الدكتورة الدكتورة هالة عبدالسلام، وكيل وزارة التربية والتعليم لذوي الاحتياجات الخاصة، إن الوزارة بالفعل لم تخصص قنوات تلفزيونية أو على اليوتيوب لطلبة الدمج، “لأن لهم نفس المناهج التي يدرسها غيرهم، مهما كان نوع الإعاقة، حركية أو ذهنية”، وإنه في حالة المطالبات بمنهج خاص أو شرح خاص فـ”لا يعتبر ذلك دمجًا”، مضيفة: “المناهج الخاصة موجودة بمدارس التربية الخاصة”. وأوضحت أن المكفوفين وضعاف السمع يحضرون إلى المدارس بشكل يومي ما عدا الخميس. بالإضافة إلى دروس التقوية المجانية المتوفرة لهم عقب نهاية اليوم الدراسي.
____________________________
(*) – جرت المحادثة في وجود والدي الطفل وبموافقتهما