“أنا والد الشّعرا فؤاد حدّاد.. أيوة أنا الوالد وياما ولاد.. أبالِسه ربّيتهم بكلّ وداد.. بعدِسّه تلميذ أولي وإعداد”.
كانت قصيدة العامية المصرية عبارة عن مقاطع حكمية بلاغية مثل مربعات ابن عروس، لم يكن لها شخصية مصرية، بقدر ما كانت متأثرة بالأساطير والملاحم العربية، فقد كان طاغيًا عليها رغم استخدامها للهجة العامية المصرية، تصورات عروبية.
جاء بيرم التونسي، ليحرر القصيدة العامية نسبيًا من هذا الشكل، فعبرت قصيدة بيرم عن رؤية مصرية، ذات طابع ساخر، مرتبط بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وبتفاصيل الحياة اليومية للمصريين، حيث أخذ بيرم المنغمس بذاته وروحه وجسده داخل المجتمع المصري، القصيدة العامية بعيدًا ولو خطوة عن الملاحم والبطولات العروبية التي كان يزخر بها الفلكلور. لكن بيرم كان متأثرًا بالبعد التطريبي للتركيبة الشعرية، فجاءت قصائده في أشكال موسيقية راقصة، على حساب مضمون القضية التي تناقشها تلك القصائد، في كثير من الأحيان، فلم تتجاوز قصيدته رغم عمقها الاجتماعي الشكل الزجلي.
النقلة الكبيرة لقصيدة العامية، أو يمكن أن نقول مولد قصيدة العامية الحديثة، جاء على يد فؤاد حداد، هذا الشاب المعجون في أرض مصر، والمنغمس في الثقافة العربية الإسلامية بشكل شديد العمق.
أخذ حداد المنتج الشعري المصري ودمجه مع البعد الإسلامي/العروبي، الذي كان طاغيًا على تراث القصيدة العامية، وأنتج قصيدة شديدة البلاغة وشديدة المصرية، قصيدة هي بنت الشارع المصري بحق، فيها روح الناس وتتحدث بلسانهم، خلطة عجيبة صنعها مارد الشعر الجديد.
“يا اسمر يا روحي يا امتداد النيل.. الثانية مشيت قد ألفين ميل
على قافية متقدر لها تحميل.. ألفين سنة ويفضل كلامي جميل.. أنا مصري من أصل شامي لا يغتفر احتشامي.. هينطلق من حيشاني صوت الجموع المفرد”
أبو الشعرا
يتحدث الناقد سمير الفيل، في دراسته “شعر العامية في السبعينيات:القصيدة المقاتلة وجماليات النص” عن فؤاد حداد، الأب الشرعي لجيل السبعينيات، فيقول: “جدد فؤاد حداد القالب الفني وعُرف بنزعته المتفردة في ملامسة المفردة برهافة، محمِلًا إياها ثقل تراثي يُعتد به، وقد راهن على اجتياز عقبة اللغة بنجاح، فقد عُرف برغبته الملحة في البحث عن شكل جديد وعدم التواؤم مع الأطر العتيقة التي تضيق بها التجربة، وفي سياق رغبة عارمة شملت الوطن تحررًا من قيود الاستعمار والتخلف والأمية، أسهم في صياغة ذلك الشكل الجديد، بنصوص لها عبق حارات مصر القديمة، وجراحها الدامية، وليس لنا من سبيل لإنكار الحس الشعبي الذي تفجرت منه قصائده الأولى، ثم ابتعاثه روح الحضارة العربية في سياق زخم موسيقي منضبط، لا يلبث أن يبوح بإشارات صوفية وترديدات قدسية”.
بجوار فؤاد حداد وخلفه نشأ جيل من الشعراء الذين هم أول أبناء تجربته الشعرية، على رأسهم سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، ولو أن الأخير أنكر هذا مرات وقبله أخرى على مضض، فأنشد: “انت الإمام الكبير وأصلنا الجامع.. وانت اللي نقبل نصلي وراك في الجامع.. بسيط يا مولاي والضحكة في صدرك قوت.. فقير يا مولاي ورازقنا حرير وياقوت.. ونشيد عشان الأرض ودعوة للي يموت.. وخريطة لفلسطين.. وكُم للدامع.. وانت الإمام الكبير وأصلنا الجامع”.
كما جاء جيل السبعينيات متشبعًا بأشعار فؤاد حداد، وامتدادًا لها، مثل ماجد يوسف، وصلاح الراوي، وأحمد سماحة وعبد الدايم الشاذلي، وعشرات بل مئات من الشعراء الذين رغم قدراتهم الشعرية الكبيرة، ظلوا يسبحون في فضائه الشعري، ولو أن الشعراء المشار إليهم رغم أعمال بعضهم المتأثرة بفؤاد حداد لدرجة التطابق، فإن لهم محاولات لتجديد قصيدة العامية كما يشير الشاعر والناقد حلمي سالم، في دراسته: “تيار التجديد في شعر العامية المصرية الراهن” والمنشورة في مجلة “الإنسان والتطور” عدد شهر إبريل 1987.
ظلت قصيدة العامية عند شعراء السبعينيات كما أسس لها فؤاد حداد، قصيدة من الشارع وللشارع، محافظة على قدر عميق من الرؤية ومحملة بالقضايا الوطنية والقومية، ومهمومة بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وحياة الناس اليومية.
هناك شريحة من جيل السبعينيات لم يتصلوا بكتابات فؤاد حداد ولم يكونوا امتدادًا له، ولكنهم لم يطرحوا شكلًا متجاوزًا له، ولا تطويرًا لقصيدة العامية، مثل أحمد فؤاد نجم، والذي كتب شعرًا سياسيًا مباشرًا مستخدمًا قالبًا شعريًا ساخرًا ولازعًا أقرب إلى قصيدة بيرم “الزجلية”، رغم كل ما يمثله مشروع نجم من قيمة تاريخية كمشروع سياسي اجتماعي وليس كمشروع شعري، إضافة إلى عدة شعراء منهم سمير عبد الباقي، وزين العابدين فؤاد، ولو أن الأخير كان أكثر عمقًا، وقربًا، من نجم وعبد الباقي، إلى المشروع الحديث للقصيدة العامية (مشروع فؤاد حداد).
“حداد” وجيل الثمانينيات
نشأ جيل الثمانينيات من شعراء العامية، على خلفية نكسة سياسية واجتماعية عقب هزيمة “انتفاضة الخبز” عام 1977، وتوقيع “اتفاقية كامب ديفيد” عام 1978، فأنتج قصيدة ذاتية، حاولت الهروب من الماضي القريب فانزلقت إلى فخ المطلق والتجريد، وحاولت خلق براحها الخاص وسط ضيق واقعها، بتعدد التأويلات فانغلقت على تأويلاتها، رغم ما امتلكه هذا الجيل من طاقات شعرية مهولة.
هذا الواقع لا ينكره أبناء الثمانينيات، فالشاعر محمد حسني إبراهيم، وهو أحد أبرز أبناء هذا الجيل، يقول: “تمحورت بالفعل كتابات جيلنا حول الذات، كان شكل الكتابة هذا يمثل هروبًا من القضايا الكبرى إلى قضايا ذاتية وفلسفية، هروبًا من واقع سياسي واجتماعي واقتصادي مع “هزيمة الطلبة” في 77 وتوقيع “كامب ديفيد” عام 78، فكتبنا النص متعدد التأويلات”.
سيكون من الظلم أن نصور هذا الجيل والذي شهد شعراء ذات إمكانيات فنية كبيرة، بوصفهم مجموعة من الفارين من واقعهم خلف تركيبات مبهمة، فقد أحالتهم الهزيمة أيضًا إلى البحث عن براح ومدى أوسع لمشروعهم الشعري، لكنهم كما يقول الشاعر محمد حسني إبراهيم، انغمسوا داخل هذا الشكل للدرجة التي كانوا يعتبرون فيها الشاعر الذي لا يحمل نصه تأويلات متعددة، فتكشف قصيدته أسرارها أمام المتلقي، بأنه قد فشل.
حسني يعتبر أن تواري جيل الثمانينيات خلف القصيدة الذاتية لم يكن على طول الخط، فيحيلنا إلى ديوانه ” مواسم العطش والجوع” والذي تناولت قصائده قضايا كبرى بشكل واضح، وتضمن قصائد عن استشهاد “سليمان خاطر” و”انتفاضة الحجارة” وغيرها.
كما ينكر حسني، أن يكون جيله قد حاول بشكل قصدي أو عنيف، القطيعة مع حداد وجاهين وآباء القصيدة العامية الحديثة، فيشير إلى بعض كتاب الثمانينيات الذين تقاربت كتاباتهم مع قصائد حداد، مثل الشاعر خالد الصاوي، مستكملًا: “إلى الآن ستجد عند بعض شعراء جيل الثمانينيات داخل إنتاجهم الحديث كتابات [حدادية]”.
التسعينيات وتعدد المرجعيات.. فؤاد حداد حاضرًا
في رأي الشاعر سيد لطفي، فإن جيل التسعينيات الذي ينتمي إليه، تخلص من لغة شعر الثمانينيات الغارقة في الذاتية، وعاد بنسبة، إلى طرح القضايا الكبرى، بلغة أكثر سلاسة، فترة ديكتاتورية مبارك “الناعمة” كما أسماها لطفي، فقصيدتهم سعت للتخلص من القبضة الأمنية لنظام مبارك، وعبرت بألم وشاعرية شديدة، عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وتدهور كافة نواحي الحياة في مصر.
أحد النقاط الهامة التي تميز جيل التسعينيات بحسب لطفي، كانت أنه استطاع أن ينهل من كافة الأشكال والأجيال الشعرية في شعر العامية، ليس فقد التالية على تأسيس القصيدة العامية الحديثة، ولكن السابقة لها من بيرم التونسي وبديع خيري ويونس القاضي وابن عروس، كما غاص في فلكلور العامية المصرية، واستطاع هضم كل ذلك وإخراج منتجه الشعري الخاص، لكن ظل فؤاد حداد حاضرًا في رائحة هذا الجيل.
شعر العامية و”السوشيال ميديا”
الانفجار الكبير الذي أحدثته “السوشيال ميديا” حول القصيدة إلى مربع الاستهلاك اليومي، كثافة النشر أنتجت تساهل في معايير المنشور، خلقت شعراء منفصلين عن الواقع الثقافي (حتى بكل مساوئه)، ومفتقدين للاحتكاك والتجربة، فأنتجوا نصوصًا سطحية على مستوى الرؤية ومهلهلة على مستوى الأدوات الفنية.
لكن بعض هؤلاء الشعراء مثل عمرو حسن ومحمد إبراهيم وأميرة البيلي، حققوا انتشارًا كبيرًا عبر الفيديوهات التي يلقون فيها أشعارهم على “يوتيوب” وعلى حساباتهم على “فيسبوك” والتي وصلت لملايين المتابعين، ومن خلال الحفلات التي نظموها خلال السنوات الماضية، والتي كانت تحقق إيرادات كبيرة، إضافة إلى الأرقام الكبيرة لمبيعات كتبهم في معارض الكتاب، والتي كانت مردودًا لانتشارهم الواسع على مواقع التواصل الاجتماعي.
يؤكد حسني، أن السماعية، والصورة والموسيقى، أدوات ساعدت في انتشار هؤلاء الشعراء، بل ووارت عيوب كتاباتهم الركيكة، وهذه الأدوات خاصة الصورة هي جزء هام من التغيرات التي انتجتها وسائل الاتصال الجديدة “السوشيال ميديا” وقد نجحوا في استخدمها لصالح مشروعات تحققهم وصنع جماهيريتهم، والتي هي جماهيرية هشة فهي مرتبطة بفئات المراهقين، وسرعان ما ستنهار تلك الجماهيرية.
ضحالة المحتوى
أما الشاعر والناقد الأدبي عمر شهريار فيقول: “ليست الأزمة أبدًا في الوسيط الذي ينتقل عبره المتن الشعري من المنتج إلى المتلقي، سواءً كان كتابًا أو أمسية شعرية أو شريط كاسيت أو أسطوانة، فالوسائط من الطبيعي أن تتغير من عصر لعصر حسب المفردات والتكنولوجيا المتاحة. ومن هنا ليس لدي مشكلة مع حفلات الشعر في ذاتها، ولا أقف ضد فكرة الحفلات والتذاكر التي يدفعها الجمهور، فدائمًا وتاريخيًا كان ثمة ثمن، سواء كان يأخذه الشاعر من الخليفة أو من الجمهور، بل إن تحصيل المقابل المادي من جمهور المتلقين ربما يبدو أفضل نوعًا ما من الهبات والعطايا التي كان يتلقاها الشعراء قديمًا من الخلفاء والملوك، بل إن شراء الجمهور اسطوانات شعر الأبنودي بصوته أو شراء ديوان لفؤاد حداد أو صلاح جاهين لا يختلف عن دفع الجمهور لثمن التذاكر لدخول حفلة عمرو حسن أو غيره”.
يرى شهريار أن المشكلة الحقيقية تكمن في ضحالة المحتوى الشعري، فكثيرون من نجوم هذه الحفلات ليسوا شعراء بالمعنى الحقيقي، بل يقدمون محتوى شعريًا رديئًا يرضي رغبات جمهور المراهقين.
محدودية الثقافة الوعي
يستكمل شهريار: “معظمهم ليسوا شعراء بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل انتقتهم عجلة الرأسمالية بعناية ليقدموا محتوى به قدر كبير من النهنهة العاطفية يناسب جمهور المراهقين. بالطبع هؤلاء النجوم المزعومين يتوهمون أنهم حققوا نجاحًا وجماهيرية يستحقونها، وينظرون لمن ينتقدهم باعتباره حاقدًا أو فاشلًا أو من أعداء النجاح، أو على أحسن تقدير يروننا “دقة قديمة” لا نستوعب ما يقولونه من درر شعرية تحظى بجماهيرية كاسحة، وتمنعهم محدودية ثقافتهم ووعيهم من إدراك الحقيقة، وهي أنهم محض أدوات يستخدمها أصحاب رأس المال، يتربحون بهم، ثم ستدهسهم نفس عجلات الرأسمالية، وستأتي بغيرهم، ليقوموا بنفس الدور، فهم محض وظائف وأدوار موجودة طوال الوقت، وفي الشعر كما في الرواية، فلا فارق بينهم وبين أحمد مراد ومحمد صادق، ولا بينهم جميعًا وبين إسماعيل ولي الدين وكتب مصطفى محمود، أو أفلام السبكي، كلها أدوات لتقديم ما يريده الجمهور الذي جرى تسطيحه وتغييب وعيه عبر عقود، من خلال تعليم رديء وإعلام يحتفي بالضحالة.”
الشعر باق
عن حال قصيدة العامية بعد 35 عامًا على رحيل فؤاد حداد مؤسس شعر العامية الحديث، يرى شهريار أنه بعيدًا عن هذه الألوان الاستهلاكية من الأدب، التي ستخفت وتنتهي مع الوقت، فإن هناك شعر عامية حقيقي، كما يوجد شعر فصحى حقيقي ورواية حقيقية، ويحاول أصحاب هذه النصوص فتح آفاق أوسع للنوع الأدبي وتجديده والتجريب فيه. صحيح أن هذه الكتابة التجديدية لا تحظى بالشعبية نفسها التي يحظى بها الأدب الاستهلاكي، لكنها ربما ستكون أطول عمرًا، وستعيش هذه النصوص بعد رحيل كتابها، فنحن أمام ثنائية موجودة طوال الوقت، نصوص سهلة وضحلة منتشرة لكنها ستختفي باختفاء أصحابها، َونصوص جادة وعميقة ومغايرة لا تحظى بالانتشار لكنها ستظل موجودة وسيتضاعف عمرها بعد اختفاء أصحابها، فهي لها حضورها المستقل، تمامًا مثل شعر فؤاد حداد وجاهين، الذي يعيش وسيعيش بمعزل عن حيوات الشعراء أنفسهم.
35 عامًا تمر اليوم على رحيل فؤاد حداد، مؤسس القصيدة العامية الحديثة، صاحب أضخم إنتاج عامي بين شعراء مصر وأكثرهم عمقًا وتأثيرًا في الواقع الثقافي، وأصدقهم تعبيرًا عن القطاعات الاجتماعية والقضايا الوطنية، الأب الشرعي لأجيال شعرية امتدت لـ7 عقود.
ولا زال “أبو الشعراء” كما تنبأ لنفسه: “أنا الأديب وأبو الأدبا.. اسمي بإذن الله خالد.. وشعري مفرود الرقبة.. زي الألف ورقم واحد.. والساعة 6 في العتبة”