شابان….الاثنان مهاجران.
الأول في الثامنة عشرة من عمره. من الشيشان. والثاني في العشرين من عمره من تونس.
كلاهما اعتبرا أن ذبح الإنسان أمرأ مشروعا.
الأول ذبح مدرساً فرنسياً لأنه كان يقوم بواجبه في تعليم طلابه وطالباته مادةً عن حرية التعبير. كيف يعرض صور الكاريكاتير الخاصة برسول الإسلام الكريم؟
نشأ وترعرع على قراءة دينية تقول له أن تصوير الرسول حرام (وكل شيء معه حرام)، وأن من يفعل ذلك “يجب قتله”.
ولو تمعن كثيراً في إرثه الثقافي في شمال شرق القوقاز سيدرك أن تصوير الرسول الكريم كان موجودا في قرون سابقة، ولكن هذا الإرث تم محوه من الذاكرة الثقافية الإسلامية.
نشأ وترعرع على قراءة دينية تقول له إن “القتل” “جهاد في سبيل الله”، وإن هناك “مؤامرة ضد الإسلام”. لم يتعرف على ثقافات مختلفة. تلك التي تقول إن حرية التعبير والسخرية من الأديان ورموزها ضرورية حتى لا تتحول إلى طاغوت وكهنوت ديني.
لم يعرف غير تلك القراءة التكفيرية الجهادية للدين.
فكانت النتيجة أنه لاحق المدرس، حتى فصل رأسه عن جسمه. وهو يصرخ “الله أكبر”.
والثاني قرر أن ينتقم من ماكرون، الرئيس الفرنسي، الذي أدان بشاعة الجريمة، أعتبرها هجوما على قيم الجمهورية العلمانية وحرية التعبير، واكد من جديد أنه لن يتراجع عن مواجهة الإسلام السياسي الأصولي في داخل فرنسا.
فدخل إلى كنيسة، ذبح فيها ثلاثة أشخاص: راعي الكنيسة، أب لطفلين؛ مصلية في الستين من عمرها، تصلي إلى الرحمن فجز رأسها؛ وأخرى تمكنت من الهروب من الكنيسة لكنها ماتت بعد هروبها. ماتت وهي تقول لمن احتضنها “قل لأبنائي إني أحبهم”.
أما القاتل، فكان يصرخ وهو يفصل رأس راعي الكنيسة عن جسده “الله أكبر”. كان يصرخ وهو يجز رأس المصلية “الله أكبر”.
دعوني أطرح عليكما السؤال التالي: كيف يبدو منظر شخصين، كلٌ يرفع رأساً مفصولة في يده، يصرخ “الله اكبر”، وهو مقتنع أنه يدافع عن دينه من “الكفار”؟
ستقول “هما عنصران شاذان لا يمثلان المسلمين”. ستصرين “أنهما لا يمثلان الإسلام وسماحته”.
ومن صفق لهما؟
من ترحم على قاتل المدرس الفرنسي؟ من أعتبر أن المدرس الفرنسي ” تلقى ما يستحق” لأنه جرؤ على إهانة النبي؟
“إلا النبي”؟ أليست هذه العبارة هي التي روجت لها صفحات عربية على الإنترنت، لمهاجرين عرب في أوروبا، وسويسرا؟
يرددون هذه العبارة، ويترحمون على قاتل المدرس الفرنسي.
هل هؤلاء أيضا لا يمثلون المسلمين والمسلمات؟
لدينا دول إسلامية، وأذرعها الإعلامية، تهلل لما يحدث بطريقتها.
تُصر علينا أن هناك “حرباً قائمة ضد الإسلام.”
لدينا شيخ الأزهر، رفض “تكفير” داعش، تلك التي روعت الناس، فرضت جزية على غير المسلمين، استعبدت الأيزيديات، وقتلت المدنيين والمدنيات، شباباً وشيوخاً وأطفالا.
فعلت كل ذلك، لكن شيخ الأزهر أصر على “إسلام داعش”.
وفي الوقت ذاته، كّفرت مؤسسته العديد من المفكرين والمفكرات في بلداننا ممن جرءوا وجرؤن على التفكير النقدي وطالبن بإصلاح الدين.
وهو ما يستدعي السؤال الذي طرحته الكاتبة الصحافية مي المهدي في مقال حديث نُشر في موقع قنطرة: “لماذا تستفزنا صورة النبي محمد ولا تستفزنا صور سبي الإيزيديات باسم الإسلام ولماذا لم يخرج شيوخ الفتوى لتحريم السبي في القرن الواحد والعشرين ولأخذ مواقف حاسمة من حد الردة وغيرها من قضايا أكثر إلحاحاً من مجرد رسم ساخر؟”
لم كان صعباً على شيخ الأزهر تكفير داعش؟ ولم كان سهلاً على مؤسسته تكفير المفكرين والمفكرات؟
هل هو أيضا عنصر شاذ؟ هل مؤسسته لا تمثل الإسلام؟
هل كل هؤلاء عناصر شاذة؟
وسأرد عليكما بالقول بل الاثنان، القاتلان، هم العرض، لا المرض.
والمرض هو الأزمة التي يمر بها الدين الإسلامي.
وهي أزمة فعلية.
ما نراه اليوم هو “تطرف الإسلام” نفسه، تطرف أخذ وقته حتى رأيناه اليوم متجسداً واضحاً في سلوك من “يدافعون عنه”.
الإسلام دين متعدد. له أوجه بألوان وأطياف متنوعة. أنا أول من يُّصر على ذلك. ليس واحدا. بل متعددا. يتشرب بطبائع البشر في أرجاء المعمورة.
والإنسان هو من يصنع اعتداله أو تطرفه.
لأن الدين نفسه فيه كل المتناقضات. مثله مثل كل الأديان الأخرى.
فيه السلام والرحمة والتسامح، وفيه العداء والقتل والتكفير.
فيه جانب سلمي، وفيه جانب عنيف.
الدين نفسه فيه هذا الجانبان، ولنا في سيرة الرسول الكريم مثال على ذلك. سيرته النبوية في مكة وسيرته النبوية في المدينة.
لذلك كان الإسلام في إندونيسيا وماليزيا مشهوراً بسماحته وانفتاحه على العالم. على حين أن الإسلام في نجد ظل متشرباً بتقاليد البداوة.
الأول كان يمارس الإسلام المكي. والثاني كان يمارس الإسلام المدني.
أقول “كان” الإسلام في إندونيسيا وماليزيا متسامحا ومنفتحا، لأنه تّطرف في العقود الماضية.
وتطرفه لم يحدث فجأة. استغرق الأمر عقودا.
كانت الثورة الإسلامية الإيرانية بنظامها الإسلامي السياسي في صورته الشيعية منعطفا، ساهم كثيرا في نشر ثقافة الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي.
وتطلب الأمر هياكل دينية تم تصديرها إلى هذين البلدين، مساجد فتُحت، وأئمتها تمت أَدلجتهم في جامعات إسلامية أصولية، ومع المساجد مدارس قرآنية، يتشرب فيها الأطفال بأيدلوجية التكفير والولاء والبراءة، وجمعيات غير حكومية و”خيرية”، تنشر ثقافة الإسلام السياسي بمضمون ديني سلفي ديوباندي مؤدلج، تًّشرب بأيديولوجية الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية.
كل هذا تم بدعم مالي من دول الخليج، وكانت السعودية المُّصدرة الأولى لهذه الثقافة.
أما اليوم فتقف قطر، تركيا الأردوغانية (لأن تركيا لها أوجه أخرى)، باكستان، والحركة السلفية الدولية التي اتخذت من الكويت مقراً، تقف هذه الدول على رأس قائمة الأنظمة الداعمة لهذه الهياكل الدينية والمروجة لثقافة وتفسير الإسلام السياسي.
ولذا لم يكن مستغرباً ردة فعلها خلال هذه الأسابيع الماضية.
لم يكن مستغرباً أن سهام هذه الدول وأذرعها الإعلامية تحولت إلى الهجوم بشراسة على خطاب الرئيس الفرنسي، الذي ألقاه في الثاني من أكتوبر الجاري.
لأنه وضع يده على مربط الفرس في خطابه: المشكلة في الإسلام السياسي، وهياكله، التي يجب تفكيكها، والتي تسيطر على المجتمعات المغلقة (الجيتوهات) في فرنسا.
نفس الهياكل التي تدعمها هذه الدول. نفس الخطاب الذي يروج له الإسلام السياسي.
ولذا حولت أبواقها الإعلامية الموضوع في خطابه من موقف ضد “الإسلام السياسي”، إلى موقف ضد “المسلمين”.
لنستمع إلى ما قاله ماكرون أولاً: “المشكلة هي في الانفصالية الإسلامية الراديكالية. إنه مشروع سياسي ديني مدروس يسعى إلى إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية، و يؤدي في كثير من الأحيان إلى قيام تنظيم مختلف للمجتمع ونظام مواز يقوم على قيم مغايرة، تتمثل مظاهره في ترك الأطفال للمدارس، …، وتدريس لمبادئ لا تتفق مع قوانين الجمهورية. إنه تلقين عقائدي يرفض مبادئنا والمساواة بين الرجل والمرأة والكرامة الإنسانية.
المشكلة تكمن في هذه الأيديولوجية التي تدعي أن قوانينها لها الأسبقية على قوانين الجمهورية.
أنا لا أطلب من أي من مواطنينا أن يؤمن أو لا يؤمن، أن يؤمن قليلاً أو أن يؤمن باعتدال، فهذا ليس من اختصاص الجمهورية، لكنني أطلب من جميع المواطنين والمواطنات، بغض النظر عن دينهم، أن يحترموا جميع قوانين الدولة.”
هذا ما قاله ماكرون. الذي أجل خطابه عدة مرات. وألقاه بعد جولات عديدة ولقاءات مع القيادات الدينية الإسلامية. ولعله أدرك، بعد تردد طال، أنه لا محالة من مواجهة الإسلام السياسي في فرنسا. ولذلك سبب.
أحدثكما عنه في المقال المقبل.