يحاول “نبيه بيه” إفساد انتخابات سكان الواحة، لاختيار من يديرها نيابة عنهم، محاولًا منعهم من الالتفاف حول الفنان والمثقف الثوري “عادل صدقي”، فيدعوهم إلى الاحتفال ومشاركته تذوق أول إنتاج الواحة من “العرقي” والذي تم تقطيره من البلح – المنتج الوحيد بالواحة، والذي يجمعه السكان ويقومون بتخزينه لحساب “نبيه بيه” مقابل 5 “بلحات” في اليوم، بعد أن استولى “نبيه بيه” على الواحة في لعبة قمار، اشتركوا فيها في غفلة، ليدعي ملكيته للواحة وخيراتها وحتى الهواء الذي يملؤها.
وسط هذا المشهد يمد نبيه بيه (الفنان جمال راتب) يده بكأس من العرقي إلى سليم سالم، الفلاح البسيط، قائلًا: “امسك ده كاس في صحتك أنت، في صحة الفلاح المُجد النشيط، اشرب ده حتى يبقى فال وحش لو ما شربتش”.
يتناول سليم الكأس، ثم يطلب آخر مخاطبًا نبيه بيه: “قولي يا بشمهندس هو مش الويسكي حرام”.
يرد “نبيه بيه” بلهجة الرأسمالي المتعجرف الساخر من جهل الفلاح البسيط والمنتشي بخداعه له: “ده مش ويسكي يا حمار ده عرقي”.
ليفاجئه سليم كاشفًا عن وعي بحقوقه، وإدراك لناهبيها: “لأ وانت الصادق ده عرقي أنا”.
“سليم” الذي ربما ينطلي عليه خداع “نبيه بيه” عند الحديث عن الديمقراطية، ويصدق أنها تعني الكفر، لا يمكن أن ينخدع عندما يتعلق الأمر بما يبذله من عرق، ولا أن يتوه عمن ينهب هذا العرق.
شخصية “سليم” في رائعة العظيم صلاح أبو سيف، “البداية” – أكثر أفلام “الفانتازيا” إغراقًا في الواقعية، والتي أداها الفنان حمدي أحمد، بعد 20 عاما من انطلاق مسيرته السينمائية في فيلم “القاهرة 30″، كانت تحمل جانبًا كبيرًا من شخصيته الواقعية، إذا جردناها بالطبع من “السذاجة الدرامية” التي كانت ضرورية لبنية العمل.
حمدي أحمد في مجمل أعماله الفنية كان هذا البسيط خفيف الظل، الضارب بجذوره في عمق الأرض، الواعي بحقوقه وحقوق طبقته، المنحاز لأهله، والمدرك لمعسكره ومعسكر أعدائه.
لا نعني هنا أنا حمدي أحمد، حصر نفسه أو سمح لصناع الأعمال الفنية بحصره داخل إطار الرجل البسيط ابن الطبقات الشعبية الذي لا يمكن أن يبيع أهله.
فقد تنوعت أدوار الرجل وأدى أدوار على النقيض من هذا، حتى أن أول أدواره في فيلم “القاهرة 30” والذي شهد مولد نجم كبير في دور “محجوب عبد الدايم” صاحب الخلفية الدرامية المركبة، كان تجسيدًا لشخصية انتهازية وصولية مستعدة لبيع أي شيء حتى الشرف في سبيل الترقي في السلم الوظيفي والاجتماعي.
كما أن دور “محمد أفندي” في فيلم الأرض للمخرج يوسف شاهين، كان تجسيدًا لدور الفلاح “المتبرجز” المنفصل عن طبقته، ويمكن أن تقيس على ذلك العديد من الأدوار وصولًا إلى دور عضو البرلمان الفاسد في “صرخة نملة” آخر الأفلام التي اشترك في بطولتها.
لكن ما نريد قوله أن الفنان حمدي أحمد عندما أدى دور “محجوب عبد الدايم” الوصولي في “القاهرة 30″ أداه من موقع انحيازه لـ”علي طه” ـ صاحب المبادئ والتاريخ النضالي، فغاص في أعماق شخصية محجوب عبد الدايم بأدائه وتعابيره ليفضح عوارها، وفي “الأرض” كشف بعمق تجسيده للشخصية نفخة “محمد أفندي” الفارغة هذا “المتبرجز” الممتلئ بالهواء ليفرغه لصالح “عبد الهادي” و”دياب” و”علواني” وفي دور النائب الفاسد، في “صرخة نملة” غاص داخل نموذج شاهده وحاربه في الواقع، وفضحه في السينما.
لعب حمدي أحمد دورًا آخر غاية في النبل والشجاعة والوعي والانحياز لقضايا طبقته الاجتماعية ولكن هذه المرة لم يكن دوره في السينما ولا على خشبة المسرح ولا في التلفزيون، لكنه كان دورًا في الواقع، عندما قرر أن يخوض الانتخابات البرلمانية في دائرة بولاق، مرشحًا عن حزب العمل الاشتراكي، فاستطاع أن يقتنص مقعد مجلس الشعب في دائرة من الدوائر الصعبة.
ما لبث النائب الجديد حتى جاءت المعارك ساعية إليه تختبر عمق انحيازاته، وصلابته، فها هو يقف في وجه مشروع تهجير أهالي بولاق، الذي تبنته حكومة الرئيس السادات، ليوجه خطابه تحت قبة البرلمان لا إلى وزير أو رئيس وزراء، بل إلى رئيس الجمهورية ذاته قائلًا: “السادات لما حب يطور ميت أبو الكوم بنالهم جوه ميت أبو الكوم، لا وداهم تلا ولا الباجور عايزين تطوروا المنطقة يبقى تبنوا والناس جواها”.
وهو بالطبع ما أغضب السادات، فمنعه من العمل في السينما والتلفزيون بأوامر شفاهية، وهو ما رواه حمدي أحمد، في حوار مع الإعلامي عمرو الليثي عام 2013.
اختبار آخر مر به الفنان المناضل حمدي أحمد ورواه عدة أشخاص، فقد تسبب حمدي أحمد في صداع للحكومة أثناء فترة عضويته بمجلس الشعب، وفي أحد الأيام طلب منه صفوت الشريف الذهاب معه لرئاسة الوزراء في أمر هام، فذهب معه، وعندما دخل وجد رئيس الوزراء آنذاك فؤاد محيي الدين، والذي طالبه بالانضمام للحزب الوطني، فرد عليه حمدي أحمد ساخرًا: عايزني انضم للحزب الوطني! ده إبراهيم شكري [مؤسس حزب العمل] مفهمني إنك أنت اللي جي معانا حزب العمل”.
خاض الفنان العظيم حمدي أحمد، والذي تحل اليوم التاسع من نوفمبر ذكرى ميلاده، رحلته السياسية بشرف، وببساطة وخفة ظل، منذ أن اعتقل صبيًا في السادسة عشر من عمره على يد الاحتلال الإنجليزي عام 1949، لم يحد يومًا عن طريق الفقراء والكادحين، ولم يخف من أحد مهما كانت سلطته، ولم يتنازل عن مبادئه وانحيازاته، دافعًا ثمن هذه الانحيازات من قوته وقوت أبنائه، ومضحيًا ربما بمئات الفرص والأدوار التي حرمته سلطة السادات منها.
كما خاض رحلته الفنية ببساطة وصدق وإبداع، تاركًا رصيدًا كبيرًا من الأعمال الفنية بلغت 25 فيلمًا منها: “الأرض، القاهرة 30، سوق المتعة، البداية، عرق البلح، أبناء الصمت، المجرم، ثم تشرق الشمس، واليوم السادس أمام الفنانة داليدا” و 89 مسلسلًا تليفزيونيًا منها: جمهورية زفتي، وبوابة المتولي، الوسية، على الزيبق، البوسطجي، الفرس الأخير، الخروج من المأزق، الحارة، الجبل” بالإضافة إلى 35 مسرحية وأكثر من 3 آلاف ساعة إذاعية، ليرحل في الثامن من يناير عام 2016، تاركًا إبداعًا لا يُنسى، وأثرًا لا يزول.