توفي الرسول محمد (ص) في ضحى يوم الإثنين 12 ربيع الأول من سنة 11هـ، الموافق السابع من يونيو سنة 632م في بيت زوجته “عائشة بنت أبي بكر” بالمدينة، وقد أتم عامه الثالث والستين، فأحدثت وفاته صدمة عنيفة فاجأت المؤمنين جميعهم، ليتجمهروا خارج بيت “عائشة” لرغبتهم في التأكد من الواقعة.
حينها صاح “عمر بن الخطاب” من هول صدمته يخطب الناس ويتوعد من يقول “مات الرسول” بالقتل والقطع، حتى أقبل “أبو بكر الصديق” ونزل بباب المسجد، ودخل بيت عائشة، وكشف عن جثمان الرسول الكريم (ص)، وجثا على ركبتيه وقبله وبكى.
ثم قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. وخرج سريعا إلى المسجد حتى وصل إلى المنبر، وجلس عمر وجلس باقي الصحابة والناس، فتشهد أبو بكر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد اللَّهَ فَإِن اللَّهَ حي لا يموت. ثم قرأ عليهم الآية (144) من سورة آل عمران: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾. عندما أنهى “أبو بكر” هذه الآية أيقن “عمر بن الخطاب” ومن حضر من المؤمنين أن الرسول قد توفي بحق.
وقد غسل جثمان الرسول (ص) في بيت “عائشة” وليس فيه إلَا أهله: عمه “العباس بن عبد المطلب”، وابن عمه “علي بن أبي طالب”، والفضل بن العبَاس” و”قثم بن العباس” وأسامة بن زيد بن حارثة” و”صالح” مولاه، ثمّ كفن ودفن حيث كان فراشه، بعد أن قال “أبو بكر”: سمعت رسول اللَّهِ يَقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض.
لقد أوجدت وفاة الرسول وضعية خاصة لم يفكر فيها أتباعه من قبل، فمن الواضح من سرد قصة وفاته أن لا أحد قد فكر قبلا فيما يحدث، ومن ثم برزت في الحال مسألة ذات أهمية، وقضية ذات أولوية وهي مسألة خلافته. بل وربما ساهمت (سردية وفاته) في إبراز مسألة أخرى ذات دلالة وهي هذا الطابع الزمني للأحداث، إذ أخذت المصالح الاجتماعيَة تعبر عن نفسها، ومن هنا كانت أهمية مسألة قيادة المؤمنين عقب رحيله. ففي اللحظة التي أعلن فيها خبر الوفاة، برزت لدى كِبار الصحابة، قضيَة اختيار من يخلفه، فلم يرد في القرآن نص يوضح أسس اختيار خليفة الرسول، ولأن كان قد دعا إلى الشورى في سورة حملت الاسم ذاته ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وكذلك في سورة آل عمران: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، وكان النبي قد أمر بالشورى فيما لا نص فيه، وكان يتخذ من أهل الرأي والبصيرة مجلسا للشورى، وكان يكثر من مشاورة الصحابة وبالأخص كبارهم السباقين إلى الإسلام.
أورد هذه الحادثة (وفاة الرسول) لعدة أسباب ربما تبدو كاشفة لحادثة أخرى مكملة لها وهي حادثة السقيفة، وسأوردها أولا كاملة كما رواها الطبري في كتابه: حَدَّثَنَا هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بْن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي (ص) لما قبض اجتمعت الأنصار فِي سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد سعد بْن عبادة، وأخرجوا سعدا إِلَيْهِم وهو مريض، فلما اجتمعوا قَال لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فَقَال بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيه: يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، إن محمدا (ص) لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت فِي الرأي وأصبت فِي القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ثُمَّ إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رَسُول اللَّهِ الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا. فَقَالَ سعد بْن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر الخبر، فأقبل الى منزل النبي (ص) فأرسل إلى أبي بكر، وأبو بكر فِي الدار، وعلى بن أبى طالب دائب في جهاز رسول الله (ص)، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه: إني منشغل، فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه، فَقَال: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت فِي سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بْن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بْن الجراح، فتماشوا إِلَيْهِم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون، فَقَالَ عمر بْن الْخَطَّاب: أتيناهم- وقد كنت زورت كلاما أردت أن أقوم به فيهم- فلما أن دفعت إِلَيْهِم ذهبت لأبتدئ المنطق، فَقَالَ لي أبو بكر: رويدا حَتَّى أتكلم ثُمَّ انطق بعد بما أحببت فنطق، فَقَالَ عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه.
فَقَالَ عبد الله بْن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته، ليعبدوا اللَّه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثُمَّ قرأ: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّه ، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص اللَّه المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمه في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا احد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور.
قَال: فقام الحباب بْن المنذر بْن الجموح، فَقَال:: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس فِي فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فَقَالَ عمر: هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، ومتورط فِي هلكة! فقام الحباب بْن المنذر فَقَالَ: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما واللَّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة، فَقَالَ عمر: إذا يقتلك الله! قَالَ: بل إياك يقتل! فَقَالَ أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير فَقَالَ: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة فِي جهاد المشركين، وسابقة فِي هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدا ص من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فَقَالَ أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، وخليفة رَسُول اللَّهِ على الصلاة، والصلاة أفضل دين الْمُسْلِمين، فمن ذا ينبغي لَهُ أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فَقَالَ: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللَّه لهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بْن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا لَهُ من أمرهم.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد اللَّه بْن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بْن عبادة، فَقَالَ ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فَقَالَ عمر: اقتلوه قتله اللَّه! ثُمَّ قام على رأسه، فَقَالَ: لقد هممت أن أطأك حَتَّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فَقَالَ: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فَقَالَ أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت مني فِي أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه فِي داره، وترك أياما ثُمَّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فَقَالَ: أما والله حَتَّى أرميكم بما فِي كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مَعَ الإنس ما بايعتكم، حَتَّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي. فلما أتى أبو بكر بذلك قَالَ لَهُ عمر: لا تدعه حَتَّى يبايع، فَقَالَ لَهُ بشير بْن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حَتَّى يقتل، وليس بمقتول حَتَّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة “بشير بْن سعد”. واستنصحوه لما بدا لهم منه.
هكذا اتفق الحاضرون –إذن- خلال هذه الجلسة المطولة وما أعقبها من أحداث على من يحكم المؤمنين عقب وفاة الرسول (ص)، ولا أريد هنا التطرق إلى أية خلافات حول من تولى ومن كان يجب أن يتولى، وهي عادة الطريقة التي يتناول بها العلماء الحادثة، ولكني أود أن أطرح تفسيرا آخر للواقعة مفاده أن الحادثة بكل وقائعها ورواياتها المختلفة تفضي إلى استنتاج واحد واضح وهو الاختيار الزمني/ السياسي القائم على الطبيعة الاجتماعية لأطراف الصراع، وما أورده المتحاجون حول (من الأولى بالخلافة) كان ينتمي جميعه للمقومات الاجتماعية/السياسية. وهو ما يؤكد على أن نظام الحكم الذي ارتضاه المومنون لأنفسهم آنذاك، كان نابعا من ذهنية الثقافة السياسية السائدة، بينما كانت السمات التي استقرت تباعا ترتبط بطبيعة الرؤية الدينية، وذلك فيما يتعلق بالعدل والاستقامة والنزاهة وغيرها مما ينبغي أن يتسم به القائد أو الخليفة، وبالطبع ظلت شخصية الرسول وأفعاله حاضرة مقارنة بالقائمين على الحكم في حينها وفيما تلاها، وهذه الرؤية يؤكد عليها البعض وإن أنكرها آخرون، يقول على عبدالرازق: إن نظام الخلافة ليس نظاما دينيا، ولم يأمر به الله ولم يشر إليه في كتابه (القرآن)، فالدين الإسلامي برئ من نظام الخلافة، والإسلام لم يقرر نظاما معينا للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم “الدولة” طبقا للأحوال الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية التي توجد فيها، مع مراعاة “تطورنا الاجتماعي” ومراعاة مقتضيات الزمن. ويضيف على عبدالرازق: إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد، ومعاملات، وآداب، وعقوبات، فإنما هو “شرع ديني” خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر “الدينية” لا غير. وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون للبشر منها “مصلحة مدنية” أم لا، فذلك مما لا ينظر إليه الشرع السماوي إليه. إن الأغراض الدنيوية قد جعل الله الناس أحرارا في تدبيرها، وأن الرسول (ص) قد أنكر أن يكون له فيها حكم أو تدبير فقال: “أنتم أعلم بشئون دنياكم”.
بينما يؤكد حسين هيكل في كتابه (الحكومة الإسلامية): لم يحدد الإسلام شكلا للحكم، خلافة كانت أو ملكا، أو سلطنة، أو إمارة، أو غيرها، ولكنه عني بمجموعة من المبادئ التي يفرض اعتمادها وتطبيقها، دون الالتفات إلى شكل الحكم السائد، وهي: الإيمان الحق بالله تعالى، وبثبات سنته في الكون، ثباتا ندركه بعقولنا الحرة، وتفكيرنا المتصل. وأن نتعاون فيما بيننا على أن يحب أحدنا الآخر، ويحب لأخيه ما يحبه لنفسه. وأن يؤدي الفرد واجبه نحو الله ونحو الجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها نحو الله ونحو الأفراد جميعا.
ومن ناحية أخرى انفصلت مهام الرسول التي كان يقوم بها وتوزعت، فالحاكم/الخليفة يؤدي الوظائف السياسية المتعلقة بإدارة شئون البلاد، أما القضاء بين المتنازعين من الناس فذهب لآخر، وأما الحرب ونوازلها وواجباتها فكانت لآخرين، وأما النبوة والرسالة، فاختتمت بوفاته (ص) وبقي منها كتاب الله وسنة رسوله. يقول العلامة القانوني (السنهوري): إن مبدأ الفصل بين السلطات هو أساس نظام الحكم في الإسلام، خاصة فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، التي يجب أن تكون مستقلة استقلالا تاما عن الخليفة، كما يؤكد أن إجماع الأمة هو مصدر التشريع، ومن ثم فالأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها، وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته، وسيادة الأمة تعني سيادة سلطة التشريع.
وفي ظني أن ما يميز القرآن بوصفه كتابا مقدسا هو هذه المرونة القادرة على استيعاب المتغيرات المتلاحقة عبر العصور المتباينة، ويتجلى هذا عبر استيعابه لتفسيرات وتأويلات متنوعة، تتماشى وروح العصر، وتسمح للمؤمنين بالتعامل مع أمور حياتهم الزمنية وفق مستجدات عصرهم، وبينما يسعى المتشددون والأصوليون بضيق أفق لوقف التطور، وسجن النص في مساحات ضيقة، وخاصة في عصور التدهور الحضاري والاجتماعي، تشهد عصور التقدم التي يستشهد بها هؤلاء (المتعصبون) على مساحات من الحرية، سمحت للمجتمع ولأفراده بتنويعاتهم العقائدية والعرقية بالإبداع والتطور الذي يفخرون به.