اندلاع العمليات العسكرية في إثيوبيا بين الحكومة الفيدرالية وإقليم تيجراي لايعد مفاجأة، فهو النتيجة الطبيعية لاحتقان سياسي طويل، في بلد متعدد قوميًا، ودولة تم تكوينها عبر عمليات ضم بالقوة المسلحة لإقاليمها قبل قرن ونيف فقط، لم تأخذ فيها تفاعلات عملية الاندماج الوطني الشامل وقتها المطلوب للنضج وتكوين ما اصطلح على تسميته بالهوية الوطنية الجامعة اللازمة لتكوين الأمم، والمؤسسة للدولة الوطنية الحديثة.
وتعد عملية القفز التي قام بها رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد على مشروع الانتقال الديمقراطي، هو المحرك للأحداث والتفاعلات الراهنة، والذي قد يقود إلى وضع مأزوم في إثيوبيا علي المدي القصير والمتوسط، وقد يهدد كيان الدولة ذاته إذا لم يتم ممارسة ضغط دولي سريع علي رئيس الوزراء الإثيوبي الذي قد ينزلق إلي صناعة أزمة ممتدة علي نمط أزمة دارفور في السودان.
المشروع السياسي الذي كان متوافقا عليه قبل صعود آبي أحمد إالي سدة السلطة تمت صياغته عبر حوارات مكثفة وطويلة بين الأطراف السياسية الداخلية، وذلك بعد إنفجار الموقف في إثيوبيا إعتبارا من عام ٢٠١٤ من جانب قومية الأورمو التي هي ٤٠٪ من السكان ضد الجبهة الثورية الديمقراطية والحاكمة للبلاد.
وقد اندلعت الاحتجاجات واتسعت لسببن رئيسيين الأول هو التوسع في عمليات الإعتقال السياسي لقومية الأورمو التي هي غالبيتها من المسلمين تحت مزاعم أنهم إرهابيين أو مشروعات محتملة لإرهابيين، أما السبب الثاني فهو مشروع توسيع العاصمة الإثيوبية علي حساب أراضي الأورومو، وهي مسألة لايتم غفرانها بسهولة لافي إثيوبيا ولا في عموم إفريقيا إذا أن القبائل والقوميات تعتبر الأراضي هي ملك لها ولابنائها ولاعلاقة لمؤسسة الدولة ولا الحكومات بهذه الأراضي.
يبدو أن حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام، بعد توقيعه اتفاقا مع إرتيريا لحل الخلاف الحدودي قد كثف من طموحات الرجل الشخصية
مع ارتفاع عدد الضحايا، وقراءة أن زيادة الإضطرابات قد تقوض الدولة الإثيوبية تم التحرك علي مستويين الأول داخلي من جانب قادة محليين والثاني دولي من جانب عواصم عالمية ، وخصوصا وأن إثيوبيا دولة مهمة علي المستوي الإستراتيجي لكل من الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية.
اتجاهات واتفاقات الإصلاح السياسي في ٢٠١٦
طبقا لخطاب مسرب من جوهر محمد وهو زعيم سياسي معتقل حاليا، كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعد المحرك الأول لثورة الأورومو والمنافس الأول لرئيس الوزراء آبي أحمد في الانتخابات فإن الإتفاق السياسي الذي تم بموجبه تسلم آبي أحمد السلطة كان يقضي بأن يتم التعامل مع جبهة تحرير التيجراي الحاكمة للإقليم والمسيطرة علي مفاصل الدولة لأكثر من ربع قرن بمنتهي الحساسية، وذلك لإعتبارين طبقا لجوهر محمد الأول أن التيجراي مسيطرين علي مفاصل الدولة ، وأي مواجهة معهم من شأنها أن تدخل إثيوبيا في إضطربات غير مأمونة العواقب ، والثاني أن خبرة الربيع العربي في إنهيار الدول ماثلة وذكر علي وجه التحديد ليبيا وسوريا.
وكان الاتفاق طبقا لجوهر محمد أيضا أن يتم خروج آمن للنخب التيجراية، ولا تشهر في وجوههم سيوف الحساب.
مع تولي آبي أحمد السلطة في ٢٠١٨ ضرب عرض الحائط بهذا الاتفاق السياسي، وأقدم علي حصار التيجراي في مواقعهم، فمثلا إتهم شركة تابعة للجيش الذي يسيطر عليه التيجراي بالفساد في توريدات توربينات سد النهضة، وهو مانجده غير منطقي نظرا لما يملكه هذا المشروع من أهمية إستراتيجية للدولة وللجيش معا، خصوصا وأن الجيش الإثيوبي مهيمين علي جزء من الإقتصاد الإثيوبي ، ومحرك لآلياته وبالتالي فإن إمكانية التربح متوافرة من قطاعات أخري إذا توافرت الإرادة لذلك.
أما الخطأ الاستراتيجي الذي أقدم عليه آبي أحمد فهو تعجله لعملية الإندماج الوطني الإثيوبي ، وتصوره بإمكانية تحقيق نجاح في هذه العملية بأسلوب قصري،وهو ما لاتعرفه لا الشعوب ولا الدول حول العالم.
آبي أحمد وجائزة نوبل
يبدو أن حصول آبي أحمد علي جائزة نوبل للسلام ، بعد توقيعه إتفاقا مع إرتيريا لحل الخلاف الحدودي قد كثف من طموحات الرجل الشخصية، ولم يستطع أن يدرك أن الدعم و الدفع الدولي ورائه عبر حصوله علي هذه الجائزة هو للحفاظ علي دولة إثيوبيا ذاتها ، بعد إدراك غربي إنتشر في الأدبيات الصادرة عن مراكز البحوث والدراسات الغربية بمدي هشاشة الدولة وطبيعة مأزقها بعد توسع الإضطربات عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥.
ولكن يبدو أن الدعم الدولي لآبي أحمد قد أغراه ليحاول أن يكون زعيم له مشروع سياسي خاص به ، يقطع به الطريق علي إسطورة ملس زيناوي الذي إستطاع أن يدشن الصيغة الفيرالية للتعايش بين القوميات الإثيوبية في أعقاب التخلص من نظام الدرج الماركسي عام ١٩٩١ ، وذلك في أعقاب إنهيار الإتحاد السوفيتي.
وتبدو الرافعة السياسية لمشروع آبي أحمد هو حزب“ الإزدهار ”الذي تكون نتيجة اندماج 8 أحزاب إثنية، 3 منها كانت أحزابا ضمن ائتلاف “الجبهة الثورية لشعوب إثيوبيا” الحاكم سابقا، وهي حزب أورومو الديمقراطي، وحزب شعوب جنوب إثيوبيا الديمقراطي، وحزب أمهرا الديمقراطي.
كما اندمجت معها 5 أحزاب أخرى، وهي الأحزاب الحاكمة في الأقاليم الإثيوبية، وكانت تسمى أحزاب الموالاة، وهي حزب تجمع هرر الوطني، وحركة غامبيلا الديمقراطية، والحزب الوطني العفري الديمقراطي، والحزب الصومالي الديمقراطي، وحزب بني شنقول غوماز الديمقراطي.
جوهر محمد
انقلاب آبي أحمد علي الاتفاق السياسي بين الأحزاب الإثيوبية قبل توليه الحكم وتكوينه حزب الأزدهار ، وإلغاءه الجبهة الثورية الديمقراطية من الأحزاب المسجلة، في ديسمبر ٢٠١٩ تمت قراءته علي نطاق واسع في إثيوبيا علي أنه تحول نحو نظام مركزي ديكتاتوري ، من هنا إنقلب عليه الناشط السياسي جوهر محمد الذي يقاسمه ولاء قومية الأورمو، وأعلن أنه سيخوض الإنتخابات منافسا لآبي أحمد.
في المقابل أقدم آبي أحمد علي أمرين الأول إعتقال جوهر محمد، والثاني هو تأجيل الإنتخابات العامة التي كانت مقررة في أغسطس الماضي لأجل غير مسمي، وعليه إندلعت إحتجاجات ضد الرجل كما رفض إقليم التيجراي هذا التأجيل للإنتخابات ، وأجري إنتخاباته الخاصة في الإقليم مطلع سبتمبر، وسحب إعترافه بالحكومة الفيرالية إعتبارا من ٥أكتوبر ، حيث سحب وزرائه منها.
هذا التصعيد من جانب إقليم التيجراي قابله المركز في أديس أبابا بإعلان البرلمان الإثيوبي أن الانتخابات التي أقيمت في تيغراي غير دستورية، وأن الحكومة التي تمخضت عنها غير شرعية، وقرر البرلمان قطع كافة علاقات الحكومة الفدرالية مع إقليم تيغراي وقطع التمويل المالي عنه.
رئيس الوزراء الإثيوبي بدء المواجهات العسكرية بشكل رسمي ضد الجبهة، بعد أن اتهم التيجراي بتجاوز “الخطوط الحمراء”.
الاحتكاك العسكري
أعلن الجيش الفدرالي الإثيوبي في الإسبوع الثالث من أكتوبر الماضي تغييرات لقادة عدد من القواعد العسكرية، وكان من ضمنها القاعدة الشمالية الواقعة في إقليم تيجراي، وهي واحدة من 4 قواعد تتوزع في أرجاء إثيوبيا وتعتبر الأكبر والأهم، حيث تتمركز فيها أعداد كبيرة من المدرعات والأسلحة الثقيلة باعتبار أن تلك القاعدة كانت على مدى عقدين منطلق الحروب التي خاضتها إثيوبيا ضد إريتريا.وقد رفضت جبهة تحرير تيجراي قرار الجيش الفدرالي وإتهمته بالتحزب لصالح حزب آبي أحمد ،كما منعت الجبهة الجنرال جمال محمد -الذي تم تعيينه قائدا جديدا للقاعدة الشمالية- من دخول مطار مدينة مقلي عاصمة الإقليم، بعد أن وصل الإقليم لاستلام مهامه، قبل أن تجبره على العودة على نفس الطائرة.
في هذا السياق أصدر الجيش الفدرالي بيانا مطولا أوضح فيه أنه مؤسسة وطنية ومهنية بعيدة عن أي تحزبات، ولا يخضع لأي مجموعة سياسة، وأن ما صدر عنه من قرارات تتعلق بالمهام العملياتية هو جزء من مهامه المنوطة به دستوريا للحفاظ على أمن وسلامة الوطن والشعب.
واعتبر الجيش أن ما سماه تشويه سمعته “يعتبر انتهاكا صارخا وغير مقبول”، وطالب جبهة تيجراي بتصحيح هذا الخطأ وتقديم اعتذار. لم تقدم جبهة تيجراي الإعتذار المطلوب ، ولكنها حاولت الاستيلاء على القاعدة الشمالية بهدف تحييد القاعدة ومصادرة أسلحتها.
وبموجب هذا التطور، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي بدء المواجهات العسكرية بشكل رسمي ضد الجبهة، بعد أن اتهم التيجراي بتجاوز “الخطوط الحمراء”. وبدأ حملة عسكرية ضدهم ، كما تم فرض حظر التجول والطيران، وإيقاف المواصلات و كافة وسائل الاتصال، وهكذا بدأت حرب غير معلوم علي وجه الدقة مداها خصوصا مع وجود ثلاث معطيات هي أولا رفض آبي أحمد الوساطات الإقليمية والدولية، وثانيا صعوبة الحسم العسكري ضد التيجراي، وثالثا دخول إرتيريا على خط الحرب داعمة لآبي أحمد ، وتأثر السودان بوجود آلالاف المهاجرين علي أراضيه هاربين من العمليات العسكرية.