حرب أهلية بين حكومة آبي أحمد ومتمردي إقليم التيجراي في إثيوبيا، مرشحة بقوة للتحول إلى صراع إقليمي قد يهدد باشتعال القرن الأفريقي مرة أخرى.
وهكذا تستمر سلسلة الصراعات الممتدة في هذه المنطقة المشحونة، منذ أكثر من نصف قرن، لأسباب يتعلق بعضها بحروب الوكالة عن القوى الكبرى، أو استجابة لانهيار السلطة المركزية للدولة، وقبل ذلك لهشاشة جذرية في مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة على خلفية التعدد العرقي والقبلي غير المتكامل.
ولعل دوافع الصراع المسلح بين حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وبين سلطات إقليم التيجراي المتمردة؛ باتت مفهومة إلى حد كبير من كلا الجانبين، حيث رئيس وزراء شاب ذو طموح لتأسيس صيغة جديدة للحكم عبر الإعلان عن تشكيل حزب الازدهار، ليكون الحزب الحاكم بدلًا عن ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية، المتشكل في 1989 من أربعة أحزاب ذات تمثيل عرقي، هي: جبهة تحرير شعب التيجراي ممثلًا لقومية التيجراي، وحزب الأورومو الديمقراطي ممثلًا لقومية الأورومو، وحزب الأمهرا الديمقراطي ممثلًا لقومية الأمهرا، وحزب الحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا ممثلًا لعدد من القوميات الصغيرة في الجنوب الإثيوبي.
“الازدهار” بداية أزمة التيجراي
وفي حين وافقت ثلاثة أحزاب على الانضمام لحزب الازدهار لتكوين ائتلاف حاكم، هي حزب الأورومو الديمقراطي وحزب الأمهرا الديمقراطي وحزب الحركة الوطنية لشعوب جنوب إثيوبيا، إضافة إلى أحزاب أخرى أصغر ممثلة لقوميات أخرى أقل تأثيرًا؛ رفض حزب جبهة تحرير شعب التيجراي الانضمام لهذا الائتلاف، معتبرًأ تأسيس آبي أحمد لحزب الازدهار بمثابة محاولة لتقويض سلطة التيجراي.
تأجيل آبي أحمد للانتخابات عن موعدها في أغسطس الماضي، فاقم احتقان التيجراي
ويشكل التيجراي حوالي 6.1% من الشعب الإثيوبي أو ما يساوي 5.7 مليون نسمة من أصل أكثر من 100 مليون نسمة. ويعيش أغلبهم في شمال البلاد. وآلت إليهم الزعامة السياسية والعسكرية والاقتصادية، بعد أن تمكن الائتلاف الحاكم السابق من الإطاحة بنظام منجستو هيلا مريام في تسعينات القرن الماضي، ليتولى ملس زيناوي، وهو من جبهة تحرير شعب التيجراي، رئاسة الوزراء، ممكننًا قوميته من كل مفاصل الدولة.
وصلت الأوضاع إلى الذروة حين أعلن آبي أحمد تأجيل الانتخابات، التي كان مقررًا عقدها في أغسطس الماضي، إلى أجل غير مسمى، متذرعًا بوباء كورونا، وهو ما لم تقبله التيجراي، وأصرت على إجراء الانتخابات داخل الإقليم بشكل مستقل، معلنةً آبي أحمد حاكمًا غير شرعي لانقضاء الموعد المحدد للانتخابات.
اقرأ أيضًا: لماذا تزايدت الاضطرابات الإثيوبية؟
ومن جهة أخرى، أجرى آبي أحمد حملة إقصاء واسعة لكل المنتمين للتيجراي داخل مؤسسات الدولة، قبل أن تندلع الاشتباكات بين قوات الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراي، قبل نحو أسبوعين من الآن، وصلت حدتها إلى درجة تحذير الأمم المتحدة من أنها قد ترقى إلى جرائم الحرب.
ما علاقة إريتريا؟
حتى الآن، ربما تكون الحرب المندلعة في إثيوبيا مفهومة، لكن ما الذي دفع قوات التيجراي لقصف مطار العاصمة الإريترية أسمرا، بما ينذر بتحول الحرب الأهلية الإثيوبية إلى صراع إقليمي أكثر تعقيدًا؟
يمكن فهم ما حدث بالعودة إلى عام 1930، حين تولى الإمبراطور هيلا سيلاسي الحكم في إثيوبيا، ثم يضطر لمغادرة البلاد في منتصف الثلاثينيات بعد الاحتلال الإيطالي، ليعود مرة أخرى على عرش الملك بتدخل بريطاني عام 1941، ثم يتفرغ لتحقيق طموحه التوسعي بضم إريتريا إلى إلى سلطته أوائل الستينات.
لم يكن الغرض من ضم إريتريا توسعيًا فقط، بل كانت شواطئها أمل إثيوبيا الحبيسة في الوصول إلى البحر الأحمر.
الاحتلال الإثيوبي لإيريتريا، أشعل ثورة مسلحة ضد نظام الإمبراطور هيلا سيلاسي، بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا التي يمثل التيجريين فيها، عرقية ولغة، ثقلًا لا يستهان به، إذ يتحدث التيجرية في إريتريا 55% من السكان، فضلًا عن أن قادة جبهة تحرير إريتريا من التيجراي.
واستمرت ثورة جبهة تحرير إريتريا بعد الانقلاب على الإمبراطور سيلاسي الذي نفذه الجنرال منجستو، إذ رفض الأخير أيضًا منح إريتريا الاستقلال عن الحكومة الإثيوبية.
التحركات المعارضة ضد نظام منجستو داخل إثيوبيا
في الأثناء، تصاعدت وتيرة التحركات المعارضة ضد نظام منجستو داخل إثيوبيا، وتزعمها بشكل أساسي إقليم التيجراي الذي تأسست فيه عام 1975 جبهة تحرير شعب التيجراي، التي شكلت مع جبهة تحرير إريتريا طوقًا خانقًا على منجستو، وهكذا تم التحالف بين جبهة تحرير إريتريا وجبهة تحرير التيجراي، لهدف مرحلي، هو إسقاط الديكتاتور منجستو المتهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية أثناء فترة حكمه.
كما كانت من بين مقومات التحالف الناشئ بين الجبهتين، أن كلا زعامتيهما من قومية التيجراي، وهو نفس السبب الذي سيؤدي لاحقًا إلى تصدع التحالف، وتحول الوضع بين طرفيه لصراع على الزعامة الإقليمية عندما أصبحت جبهة تحرير التيجراي نواة الائتلاف الحاكم في إثيوبيا بعد سقوط منجستو وفراره إلى زيمبابوي عام 1991، وعندما أصبحت جبهة تحرير إريتريا على رأس سلطة الدولة المستقلة باستفتاء شعبي عام 1993، حيث رأسها وإلى الآن، أسياس أفورقي، الأمين العام السابق لجبهة تحرير إريتريا، والمنتمي للتيجراي.
حرب الأشقاء.. التيجراي بين إثيوبيا وإريتريا
سرعان ما تحوّل الصراع على النفوذ إلى مناوشات حدودية بين إريتريا وإثيوبيا في قرية بادمي، تفاقمت لتصبح حربًا ممتدة على مدار سنتين.
خريطة الحرب الإريترية الإثيوبية ما بين عامي 1998 و2000
وشهدت هذه الحرب الإثيوبية الإريترية ثلاث جولات أساسية، أولها عام 1998 عندما سيطرت القوات الإريترية على القرية الحدودية بادمي، والثانية عام 1999 عندما أطلقت إثيوبيا عملية “غروب الشمس” لاستعادة السيطرة على القرية، ونجحت في ذلك.
ثم في عام 2000 كانت الجولة الثالثة، عندما زحفت القوات الإثيوبية إلى داخل الأراضي الإريترية، قبل أن توقف استمرارها تدخل أمريكي.
هدوء نسبي
توفي زيناوي عام 2012، ولم ينجح خليفته هايلي مريام ديسالين، المنتمي للحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، في قيادة البلاد نحو هدوء نسبي، إذ سرعان ما اندلعت مظاهرات الأورومو مطالبة بالاستقلال، ليقصي الائتلاف الحاكم، ديسالين، عام 2018، ويأتي بدلًا عنه رئيس الوزراء الشاب آبي أحمد، كشخصية توافقية كونه ينتمي للجناح الموالي للسلطة الفيدرالية من قومية الأورومو. وكان آبي أحمد، مسعى الائتلاف الحاكم لتحقيق الهدوء النسبي بالاندماج الوطني بين مختلف القوميات.
وشرع آبي أحمد في ترسيخ نظام جديد بإثيوبيا، بدأه بإعلان القبول بتنفيذ قرار المفوضية الدولية لترسيم الحدود مع إريتريا، لينهي صراعًا مستمرًا منذ نحو 20 عامًا. وبهذا الاتفاق حاز آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام عام 2019.
قلق نوبل والحرب الإقليمية على الأبواب
لكن يبدو أن طموح رئيس الوزراء الإثيوبي، دفعه لكسر حالة الهدوء النسبي بعدد من الملفات، منها بطبيعة الحال ملف سد النهضة، لكن ربما يكون الأكثر تأثيرًا في الوقت الحالي هو الحرب الدائرة داخل بلاده، والتي يبدو أنها توشك على الاتساع بعد أن طالت نيرانها مطار العاصمة الإريترية أسمرا.
وهكذا أعربت اللجنة المانحة لجائزة نوبل للسلام، عن قلقها الشديد من انخراط الحائز عليها عام 2019، آبي أحمد، في صراع، حذرت الأمم المتحدة من أنه قد يرقى لجرائم الحرب.
لم تنتهِ الحرب في إثيوبيا رغم إعلان الحكومة الفيدرالية عن تحقيق انتصارات حاسمة في المعركة مع إقليم التيجراي، بل يُحتمل أن يمتد أمد الصراع بعد جرّ إريتريا فيه، بما يمكن اعتباره تلويحًا من تيجراي إثيوبيا بورقة الحرب على الجميع لتحقيق الانفصال الكامل، إحياءً لفكرة جمهورية التيجراي.
ومن جهة أخرى، تبدو إريتريا المتصالحة مع حكومة آبي أحمد، أكثر تحمسًا لحمل راية التيجراي حصريًا، وقد يفسر ذلك الاتهامات التي وجهتها جبهة تحرير التيجراي لإريتريا بالاشتراك في الحرب إلى جانب حكومة آبي أحمد.