تضيئ عملية اغتيال الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، أبو محمد المصري، في أحد شوارع عاصمة الإيرانية طهران، أغسطس الماضي، على العلاقة الملتبسة وغير المعلنة بين النظام الحاكم في إيران -من جهة- والتنظيمات الإسلامية (السنية) -من جهة أخرى- إذ إن ارتباطات نظام الولي الفقيه الخفية بالجناح السني الراديكالي، على اختلاف مرجعياته السياسية والتنظيمية والأيدولوجية، يكشف عن المرونة في التعاطي السياسي -المؤقت والعرضي- بين الطرفين، رغم الخلافات العقائدية التي تبدو وكأنها تباعد بينهما.
ثمة جملة من الأهداف المشتركة بين المعسكرين، في سياقات إقليمية محددة، تبرز إمكانية الاصطفاف السياسي التكتيكي، وبالتبعية، التخفف من الحمولات الأيدولوجية التي تعيق الحركة، وتنحية التناقضات الرئيسية.
تصريحات قاسمي
في أبريل العام الماضي، خرج تصريح لافت ومهم من أحد أبرز قادة الحرس الثوري السابقين، سعيد قاسمي، والذي قال إن قوات المقاومة شبه النظامية (الباسيج) دعمت الجماعات الجهادية المسلحة في البوسنة، في تسعينيات القرن الماضي، كما تحالفت مع تنظيم القاعدة.
وأوضح القاسمي في التفاصيل التي أعلنها، للمرة الأولى، أن الحرس الثوري الإيراني وظف الدور الإغاثي، الذي يقوم به بواسطة الهلال الأحمر الإيراني، والذي كان بدوره ينقل مساعدات إلى مناطق الصراع والحروب، لجهة تدريب القوات الجهادية المتواجدة ميدانيًا، في تلك المنطقة المحتدمة بالصراع، وقد أسست وحدات جهادية مع كافة المجاهدين في العالم.
وفي ظل ردود الفعل العنيفة التي بدأت تنطلق من التيار المحافظ -القريب من الحرس الثوري- بنفي المعلومات بالجملة، والتشكك في صحة تفاصيلها، ومهاجمة مصدرها، توالت ردود فعل مضادة، جاء أبرزها على لسان أحد قادة “الحرس” المتقاعدين؛ حسين الله كرم، الذي أكد على مضمون تصريحات قاسمي، وعلى وجود صلات بين الحرس الثوري والتنظيمات السنية.
قال حسين، في لقاء مسجل مع موقع “نامه نيوز” المحافظ: “كان للقاعدة مستويات مختلفة، إذ كان هناك فرع لقوات البوسنة والهرسك، مرتبطًا بنا بطريقة أو بأخرى. وبالرغم من أنهم كانوا يتدربون في مقر القاعدة، كانوا ينضمون إلينا بمجرد استلامهم أسلحتهم؛ لأسباب مختلفة. وعمومًا كانت العلاقة مع القاعدة بهذا المستوى”.
ومثلما نفت إيران -رسميًا- مقتل المصري أو تواجده على أرضها، قال الناطق الرسمي بلسان الحرس الثوري، قبل عام، إن “التصريحات التي أدلى بها سعيد قاسمي، الضابط المتقاعد بالحرس الثوري، عن استخدام الهلال الأحمر كغطاء للعمليات تفتقر إلى المصداقية”.
ورد الهلال الأحمر الإيراني على الأمر ذاته، في بيان رسمي، أوضح فيه أنه بـ”صدد تقديم شكوى رسمية ضد قاسمي”.
كما نفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، ما وصفه بـ”الاغتيال المزعوم” للقيادي في تنظيم “القاعدة” أبو محمد المصري، وكذلك “أي وجود لأعضاء التنظيم في إيران”، حسبما نقلت عنه وكالة الأنباء “إرنا” شبه الرسمية.
واتهم خطيب زاده واشنطن وتل أبيب بمحاولة ربط بلاده بتنظيمات إرهابية، باستخدام الأكاذيب وتسريب معلومات مختلقة إلى وسائل الإعلام.
وبحسب الدكتور محمود أبو القاسم، الباحث المتخصص في الشأن الإيراني ومدير وحدة الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، فإن “العلاقة بين الإيرانيين وتنظيم القاعدة لم تبدأ فقط بعد غزو أفغانستان، بل من المرجح أنها سبقت هذا التاريخ بكثير؛ لاسيما وأن حرب البوسنة كانت في مطلع التسعينيات، والقيادات السابقة في الحرس الثوري، كشفت عن حدوث تعاون بالفعل، لكن من دون أن يحدد أحد بدايات وملابسات هذا التعاون، الذي على ما يبدو أنه حدث بعيدًا عن فكرة الضربات التي تعرض لها التنظيم في أفغانستان.
وبوجه عام، كانت بين الجانبين قنوات مفتوحة، ربما منذ حرب البوسنة أو قبلها، وإن كان الغزو الأمريكي لأفغانستان ساهم في ترسيخ وتعزيز هذا التعاون، ودعم وجود وحضور إيران في المعادلة، ما يعزز السياسة البراغماتية لدى الطرفين، على حد قول أبو القاسم.
القواسم المشتركة
ويتابع أبو القاسم، في حديثه لـ”مصر 360″: “هناك مجموعة من الخصائص الأيدولوجية المشتركة، التي تجمع بين إيران كنظام إسلامي، يتبنى مفهوم “الولي الفقيه”، وبين الإسلام السياسي السني، وتحديدًا الإخوان المسلمين، الذي يتبنى في أدبياته أستاذية العالم وتأسيس الخلافة”.
وعليه، فإن ثمة قواسم مشتركة تتصل برؤيتهما في ما يخص الدين والدولة، والأدوار الوظيفية لكل منهما، الامر الذي ساهم تبادل المصالح والرؤية والأهداف بينهما، على محددات رئيسية، وفي حوادث معينة، بحسب مدير وحدة الأبحاث في المعهد الدولي للدراسا الإيرانية.
وأضاف أبو القاسم: “مثلما تؤمن النخبة السياسية والدينية في إيران بمفهوم ولاية الفقيه، وهيمنته الخارجية، الأيدولوجية والسياسية، من خلال مبدأ تصدير الثورة، ودعم دول المستضعين، كما ورد في أدبياتهم، فإن الرؤية ذاتها تتماثل في مضمونها مع مفهوم أستاذية العالم أو دولة الخلافة، لدى تنظيمات الإسلام السياسي السني”.
ويردف أبو القاسم بأن لدى الطرفين عدو مشترك هو “العدو البعيد”، المتمثل في الدول الأوروبية والغرب. كما يتشابك الطرفان في ضرورة تشتيت وإنهاك العدو المحلي أو ما يصطلح على تسمميته بـ”العدو القريب”، وذلك من خلال إدارة الصراعات والمواجهات الخشنة مع الحكومات المحلية، وتدبير الانقلاب عليها، ونزع شرعية الحكم منها.
ورغم التباين المذهبي بين النخبة الحاكمة في إيران من جانب، وتنظيم القاعدة من جانب آخر، فإن هناك مصالح مشتركة للطرفين دشنت التعاون السياسي بينها، حسبما يشير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، في تقرير “الحالة الإيرانية”، والذي يلفت إلى أن: “الإيرانيين وجدوا في إيواء قادة من تنظيم القاعدة، نوعًا من الضغط على أمريكا، بالإضافة إلى توجيه أعمال القاعدة بعيدًا عن إيران، حماية لها من الاستهداف، ومن ثم، ينعكس على تهدئة بعض التوترات على الأطراف الإيرانية، من قبل بعض المحسوبين على القاعدة منهجياً، خصوصاً الحدود الإيرانية الباكستانية”.
وبحسب التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية، الصادر في يوليو العام الحالي، فإن “طهران سمحت لقادة تنظيم القاعدة بإنشاء خط مرور رئيسي لتيسير عمليات النقل عبر إيران، منذ العام 2009، وتمكين القاعدة من نقل الأموال والمقاتلين إلى جنوب آسيا”.
ويشير الكاتبان أدريان ليفي وكاثي سكوت-كلارك، في تحقيق مشترك بصحيفة “الصنداي تايمز” البريطانية، إلى أن قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، لعب الدور الأبرز في إدارة العلاقة مع القاعدة، منذ أن وفر ملاذاً آمناً لعائلة أسامة بن لادن، وقادة القاعدة بعد فرارهم من أفغانستان، العام 2001، كما بنى لهم مجمعاً سكنياً خاصاً في قلب معسكر تدريب تابع للحرس الثوري في طهران.
وبحسب الصنداي تايمز، يستخدم “سليماني علاقاته مع القاعدة في مناوراته للعب على جميع أطراف الصراع لإبقاء إيران في الصدارة بامتلاكها كافة أوراق الجماعات المتطرفة”.
ويضيف: “إن قادة القاعدة العسكريين أقاموا في طهران، حتى العام 2015، عندما أرسل سليماني خمسة منهم إلى دمشق، من بينهم محمد المصري، محملين بمهمة الاتصال بمقاتلين وقادة من داعش، من أجل تشجيعهم على الانشقاق وتوحيد القاعدة وفلول داعش، بحسب تقارير استخباراتية أميركية”.