كثر الكلام خصوصًا بين المؤرخين عن: هل 2020 هو أسوأ عام تشهده البشرية؟ وأصبحت 2020 من بدايتها مثارًا للتندر على “السوشيال ميديا”، ليس في منطقتنا فقط، ولكن في العالم أجمع. ويتنبأ روبرت ريدفيلد رئيس الوكالة الأمريكية للسيطرة على الأمراض CDC أن يكون شتاء 2020 – 2021 من أسوأ ما تمر به البشرية في تاريخها. شهدت 2020 الكورونا القاتلة والمدمرة للاقتصاد، وحرائق ثم فيضانات أستراليا، وانفجار بيروت، والدبابير القاتلة، وحرائق الساحل الغربي الأمريكي، وسقوط الطائرة الأوكرانية، وزلزالان تركيا والمكسيك وانفجار بركان في الفلبين إلخ. فهل مر على الكوكب عام مماثل لـ 2020 من قبل؟ هل العام 2020 هو أسوأ عام يمكن أن تعيشه على الكوكب؟ وماذا يأتي بعد تلك الأعوام المنحوسة؟
شخصيًا، ربما 2020 بالنسبة لي هي واحدة من أسوأ سنين عمري، بعد 2013 التي نعاني من تبعاتها حتى الآن، و2018 التي اعتقلت فيها، فقد شهدت 2020 وفاة والدي منذ عدة أسابيع ووفاة عدد كبير من الأصدقاء والمقربين والمعارف من دائرتي، إما بالوباء أو بالانتحار بعد الاكتئاب وفشل أحلامنا أو بالموت المفاجيء في ريعان الشباب، إلى جانب خسائر كثيرة مادية ومعنوية وأدبية، واكتشافات لنذالة كُثر -كانوا فيما سبق حولي- ووضاعة نفوسهم، لكن هذا المقال ليس عني بالمرة.
بالتأكيد هناك دائمًا مستفيدون من مآسي البشرية في كل الحالات، بشر من عينة من قالت “اللي ياخده ياخده واللي يكمل يكمل والبقاء للأقوى”، والقوة هنا أيضًا ربما تعني التكيف والانتهازية والتسلق باستخدام مواهب تمتلكها أو حتى لا تمتلكها، ولكن يمكن إيهام آخرين ذوي سلطة أو مال بوجودها ليأخذوك معهم في معسكر الأقوى، فمهما كانت المآسي هناك من يخرج منها مظفرًا سعيدًا، ولو فوق الجثث.
اقرأ أيضًا: كورونا أعظمها.. 2020 عام الكوارث العالمي
ربما كان اكتشاف الأمريكتين على يد كولمبوس في 12 أكتوبر 1492 يوم سعيد بالنسبة لإسبانيا والبرتغال وسائر دول أوروبا، أرض جديدة واسعة، مناخ أفضل، محاصيل جديدة من ذرة وقصب سكر وطماطم وكاكاو، خصوصًا البطاطس التي أنقذتهم من المجاعات والاحتياج للقمح، الذي كان يعاني الأرجوتيزم، رفاهيات جديدة وثروات معدنية وذهب وفضة وازدهار، والتخلص من سيطرة المماليك المصريين على طريق الهند، وخطورة المغول على طريق الحرير، وفتح باب الاستعمار على مصراعيه.
لكن ماذا عن السكان الأصليين في الأمريكتين؟ الأزتك والمايا والإنكا والأولمك، حضارات مزدهرة بنت الصروح العالية والأهرامات مثل أهرامات الشمس والقمر في تيوتيهواكان، وامتلكت ما لم يحلم به أحد من الذهب، حتى جاء المستعمر الأوروبي بأمراضه وأوبئته وطمعه وجشعه، فهدم المعابد وأقام المذابح وتستر بنشر المسيحية، بينما يأخذ الذهب باليد الأخرى، بل وصورهم في أدبياته كمتوحشين ومتخلفين ليبرر فظاعاته بحقهم. ويقدر البروفيسور بيتر شولمان من جامعة كيز ويسترن ريزيرف أن 90% من السكان الأصليين للأمريكتين تم القضاء عليهم بعد وصول كولمبوس.
ليس هذا فقط، بل استرق المستعمر شعوب أفريقيا ليأخذهم عبيدًا في العالم الجديد، يزرعون ويحفرون ويبنون لأجله، واستمر الأمر حتى داست الحضارة الأوروبية والنهضة الصناعية أراضي الهنود الحمر غربًا، وحولتها إلى الوايلد ويست، أرض الفرص وانعدام القانون على حساب السكان الأصليين، وكان لينكولن يحرر العبيد السود باليمنى ويذبح الهنود باليسرى، ربما كان عام اكتشاف أمريكا أسوأ عام يشهده السكان الأصليون لأمريكا وأفريقيا، وهو العام الذي ضاعت فيه ثرواتهم ومستقبلهم واستقلالهم وحريتهم للأبد.
وامتد هذا الشر ليشمل جنوب شرق آسيا بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، لتصبح آسيا مستعمرات مقسمة لدول أوروبية عدة، إنجلترا وفرنسا وهولندا إلخ، حتى أن الصين في أواخر القرن التاسع عشر كانت تتنازعها 8 قوى دولية عظمى من بينها الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى اليابان وألمانيا وفرنسا وإمبراطورية المجر والنمسا وإيطاليا، حتى قامت ثورة البوكسر، التي اعتبرها بداية نهضة الصين، وليس وصول ماو تسي تونج للسلطة.
كانت الدولة الرومانية الغربية دولة تدعي الحضارة والتقدم والرقي ورعاية الفنون، على الرغم من أنها بنيت بأفكار حضارات سابقة احتلت روما أراضيها مثل اليونان ومصر، ووصم الرومان باقي شعوب الأرض بالهمجية والبربرية والتوحش، وكان هذا ذريعة لاحتلال أراضيهم والاستيلاء على خيراتها، مثل الغاليون سكان فرنسا القدماء والكلتيون سكان إنجلترا القدماء وسائر القبائل الجيرمانية شمال إيطاليا، والتي كانت نهاية روما على أيديهم، بل وظهرت المسيحية في فلسطين بقيم أخرى مختلفة لتكافح القيم الرومانية وتسهم في سقوط الإمبراطورية، فهل كان سقوط روما هو واحد من أسوأ أيام البشرية حقًا؟ وبداية للعصور المظلمة في أوروبا؟ أم كان جزاءً وفاقًا لما اقترفته الإمبراطورية بحق الإنسانية باسم نشر التحضر؟ وبداية لازدهار الحضارة في مكان آخر على الكوكب؟
اقرأ أيضًا: انفجار بيروت.. ومشاهد يوم القيامة
شهد العالم في الثلاثينات فترة الكساد العظيم التي عانى منها في الأغلب الفقراء، وإن كانت تلك الفترة شهدت افتقار وانتحار الكثير من أصحاب المال. بدأت في أمريكا وأثرت على بقية العالم، وهي نتيجة للسياسات الرأسمالية الجشعة للإنتاج الوفير والاستهلاكية الزائدة بدون شك، وكانت من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، كنتيجة لها، وكحل أيضًا للمشكلة وإن كان حلاً إجراميًا، فمن وجهة نظر الرأسمالية الحرب تسبب حالة رواج وتصنيع وبيع، وفي نفس الوقت تكافح البطالة، فقط على حساب فقراء آخرين يكونون حطبًا لها في ساحات القتال من كل الاطراف.
شهدت ألمانيا نهضة كبرى على يد الحزب النازي في عهد هتلر بداية من 1933، انتهى الكساد وعاد التصنيع والرفاهية وتوفرت السلع الغذائية ولبن الأطفال والتدفئة والعمل للجميع، ورسم هتلر سيارة شعبية رائجة حتى اليوم، هي الفولكس فاجن، لكن كل هذا بنظريات وأفكار ومناهج علمية عنصرية وإجرامية وتوسعية، ليس على حساب جيران ألمانيا فقط بل على العالم أجمع، وعلى حساب الأقليات بالداخل، فقد كانت تلك السنوات أسوأ سنوات اليهود والغجر والمثليين والمعاقين والملونين في أوروبا، بل امتد الفزع حتى مصر حين قارب رومل على دخولها، ففر منها اليهود إلى أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ومات جراء تلك الحرب 60 مليون نفس وهم 3% من سكان الكوكب وقتها.
باسم الدين وتحرير المقدسات قامت الحروب الصليبية؛ تسع حملات فاشلة، وعدد كبير من الحملات الصليبية الصغيرة الأخرى، بعضها استهدف بلاد مسيحية وليست إسلامية، دفع فيها الفقراء الثمن، جنود مسيحيين فقراء من أوروبا كانوا في الأصل فلاحين جنبًا إلى جنب مع المسلمين واليهود الذين كانوا يعيشون في سلام بينهم، حتى أن “الدماء وصلت إلى الركب” كما يقول المثل حرفيًا في الحملة الصليبية الأولى في القدس، بعد دخول الصليبيين الذين لم يميزوا بين مسلم ويهودي ومسيحي مثلهم. كل هذا من أجل ثراء البابا والكاردينالز والأمراء النورمان والأوروبيين الطامعين في أراض ومزارع.
كانت حالة من الهبل العالمي والأوربي خاصة، حتى أنهم غزوا القسطنطينية المسيحية مثلهم، وكانت الحملة الصليبية في 1343 ضد قراصنة أتراك، والحملة الصليبية على الإسكندرية في مصر في 1365 لأسباب تتعلق بأطماع قبرص والبندقية والفرسان الهوسبيتاليين الاقتصادية بدون أي سبب ديني، وكذلك كانت الحملة الصليبية على المهدية في تونس في 1390 لأسباب المنافسة التجارية. ويعتبر المؤرخون أيضًا الريكونكيستا أو طرد العرب واليهود من إسبانيا أو تنصيرهم بالقوة من ضمن الحملات الصليبية، ثم محاكم التفتيش ضد اليهود والبروتستانت والمثليين وكل من يرونه مهرطقًا، وتضمن ذلك الطرد ومصادرة الأملاك والتعذيب والإعدام.
ولم تستهدف الحملات الصليبية المسلمين فقط -كما أشرنا- بل كان هناك أيضًا ما يسمى بالحملات الصليبية الشمالية، ففي 1147 كانت هناك حملة بحجة نشر المسيحية في أراضي القبائل السلافية الوثنية من الويندز وغيرهم في بولندا وألمانيا، وهي حملات كانت تهدف في الحقيقة للاستيلاء على الأرض والموارد، أدت إلى تطهير عرقي وطرد للسكان، وكانت هناك الحملات الصليبية السويدية ضد السكان الأصليين لفنلندا وغرب روسيا من قبائل الفينز والتافاستيانز والكارليانز، وكذلك قامت الدنمارك بثلاث حملات صليبية ضد فنلندا، وشهدت استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيلاروسيا حملات صليبية سواء من الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية شرقًا والكنيسة الكاثوليكية الغربية غربًا، حوالي 13 مرة من أجل تحويلهم للمسيحية بالقوة والاستيلاء على بلادهم، وفي 1208 قامت حملات صليبية ضد قبائل البلطيق المسيحيين الأرثوذوكس من أجل تحويلهم إلى الكاثوليكية.
اقرأ أيضًا: عندما أراد الجميع دمياط ولم يرد أحد القدس
والحديث عن الحملات الصليبية ضد المسيحيين قد يستهلك باقي هذا المقال، لذا ربما أكتب عنها مقالاً منفصلاً، وهي شأن يستحق الكتابة عنه، لأغطي فيه الحملات الصليبية على الغنوصيين في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا وضد الدرنثيين في هولندا، والحملة ضد ثورة فلاحين بريمين المسيحيين في ألمانيا، والحملة الصليبية المجرية ضد البوسنة المسيحية، والحملة ضد أراجون وبوهيميا، وحملة ديسبنسر الإنجليزية، وكلها حملات باركها البابا، وإن كانت ضد مسيحيين لأسباب وأطماع سياسية مختلفة.
لا يجب أن ننسى أيضًا المغول وما فعلوه بالعالم، من اليابان شرقًا حتى أوروبا غربًا، أسوأ أيام عاشتها الصين وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وشرق أوروبا، أسوأ أيام عاشها سكان سمرقند ومرو وخوارزم ونيسابور وبغداد، خراب طريق الحرير وملايين من القتلى ومدن سويت بالأرض بعد أن كان سكانها بالملايين، ناهيك عن أسر واغتصاب النساء، حتى أن إحدى الورقات البحثية في علم الجينات، التي صدرت عن جامعة ليزستر في 2003 ونشرت في European Journal of Human Genetics، قالت إن 16 مليون من سكان العالم من الرجال يحملون جينات متوارثة مباشرة من جنكيز خان، أي لهم جدات من كل الجنسيات اغتصبهم أما جنكيز خان شخصيًا أو أبناؤه جوشي واوجوداي وشاجاطاي وطولوي.
نعود إلى الصين مرة أخرى تحت الاحتلال الياباني في 1937، حيث المذابح الجماعية والاغتصابات الجماعية للنساء، حيث تقدر حكومة الصين الحالية الضحايا بـ 300 ألف لمذبحة نانجينج وحدها، وتسمى المذبحة باغتصاب ناجينج، وكانت نانجينج عاصمة الصين قبل بكين، وكشفت المحاكمات اللاحقة على جرائم الحرب قيام ضابطين يابانيين هما توشياكي موكاي وتسويوشي نودا بعقد مسابقة بينهما، من يقتل 100 صيني بالسيف أسرع من الآخر، بل ونشرت الصحف اليابانية عن المسابقة بكل فخر. بالتأكيد كانت 1937 وما بعدها من أسوأ السنين على الصينيين، بخلاف طبعًا المجاعة العظمى في عهد ماو، أنصح بمشاهدة فيلم “زهور الحرب” للمخرج يمو زانج وبطولة كريستيان بيل وهو إنتاج 2011.
ونرجع إلى أوروبا مع أسوأ أيام عاشتها المرأة هناك، حيث محاكمات وحرق الساحرات، وهو أمر انتقل مع المهاجرين الأوربيين إلى أمريكا أيضًا حتى فترة قريبة. ونذكر محاكمات سالم للساحرات، أعدمت آلاف النساء حرقًا أو غرقًا أو شنقًا، فقد كان المجتمع الأوروبي يشك في أي امرأة جميلة أو ذكية أو موهوبة أو طليقة اللسان أو حتى محظوظة، فقط 15 في المائة من المتهمين بالسحر كانوا رجالاً، كان على كل النساء أن يخفين مواهبهن ولا يتصدرن لأي عمل عام يظهر كفاءة أو نبوغ وإلا فالحرق بانتظارهن.
كان غضب الطبيعة والأوبئة أيضًا سببًا لتعاسة حياة الإنسان في كثير من الأحيان، ففي عام 535 ميلادية انفجر بركان كراكاتوا، ويقع في إندونيسيا حاليًا بين جاوا وسومطرة، ثم بركان في السلفادور في 535، ثم بركان آخر بجرينلاند وبالقطب الجنوبي في 540 وبركان بأيسلندا في 547، فتحول الصيف إلى شتاء حتى أنها أمطرت جليدًا في الصين صيفًا، كما فسدت المزروعات لسنوات عدة وحدث جفاف ومجاعات وهجرات جماعية مات إثرها الملايين، وامتد أثر هذا الدمار لمدة مائة عام -حسب نظرية ديفيد كيز في كتابه المسمى “الكارثة”- والتي يدعمها أيضًا المؤرخ بهارفارد مايكل ماكورميك، ويسمى العصر التالي على الانفجارات العصر الجليدي الصغير.
ويقول كين فوهليتز، عالم البراكين بمعمل لوس الاموس بالولايات المتحدة، إن ارتفاع الانفجار في كراكاتوا كان 30 ميلاً في الغلاف الجوي، وأمطر الحمم والرماد حتى مسافة ألف ميل، ما أغرق الكرة الأرضية بأكملها تقريبًا في الظلام، حتى أن المؤرخ بروكوبيوس البيزنطي كتب عن الظاهرة أثناء وجوده في صقلية، وكتب عن نقص الخبز وأمطار الصيف، وكذلك كتب المؤرخ البيزنطي مايكل السوري أن الشمس كانت تضيء أربع ساعات فقط في اليوم إضاءة خافتة، وأن العنب أصبح لاذعًا والنبيذ سيء، وتذكر الملاحم الأرثرية مثل كأس لانسيلوت والكأس المقدس وإن كانت قد كتبت في القرن الثالث عشر، تذكر وقتًا كانت إنجلترا فيه خربة مظلمة لا تصلح فيها الزراعة ويعاني الناس الفقر والجوع والمرض، تحديدًا في القرن السادس الميلادي، لكنهم ينسبون التغير لوفاة الملك الاسطوري آرثر الشهير ذو المائدة المستديرة. ووجد العلماء آثار لسقوط الرماد البركاني هذا أعلى جبال الألب في سويسرا في الطبقات الثلجية القديمة وكذلك في أيسلاندا وجرينلاند، ويوجد ذكر للكارثة أيضًا في الكتاب الصيني القديم نان شي أو تاريخ الجنوب، حيث يذكر الكتاب سقوط أمطار من الرماد الأصفر وحدوث مجاعة استمرت سنتين بسبب فشل المحاصيل، كان الأمر بمثابة شتاءً نوويًا مدمرًا، غير المناخ في تلك الفترة، ولا يستبعد فوهليتز حدوث الأمر مرة أخرى في المستقبل.
اقرأ أيضًا: التراث الثقافي ..تاريخ مفقود أسفل أقدام التطرف والاحتلال
وتسببت الكارثة في تغييرات سياسية أيضًا، فقد انهارت قوى عظمى وبزغت قوى أخرى، وصلت إلى انهيار حضارة موتشي في بيرو بأمريكا الجنوبية الشهيرة بالزراعة وبناء نظم الري المتقدمة، بسبب أمطار استمرت 30 سنة، دمرت نظام الري، وجفاف استمر 30 سنة بعدها. وبحسب البروفيسور ويليام ساندر بجامعة بن ستيت الأمريكية، هجر سكان تيوتيهواكان في المكسيك -وكان عددهم 120 ألفًا- مدينتهم بسبب سوء التغذية والمجاعات، وانتهت حضارتهم الشهيرة ببناء الأهرامات. ديفيد كيز يزعم في كتابه أن هذه التغيرات أدت لسقوط الإمبراطورية الرومانية، ونزوح قبائل الآفار من آسيا إلى أوروبا، ما أحدث بها اضطرابات شديدة، وظهور الإسلام وانتصاره على الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، ولديه إثباتات لنظريته تلك في كتابه السابق ذكره، والذي أنصح بقراءته للمزيد من التفاصيل العجيبة.
وبحسب البروفيسور هيو كينيدي بجامعة سان اندروز، فقد تسببت التغيرات المناخية في فيضانات أدت لهدم سد مأرب باليمن في 542، في عهد أبرهة الأشرم، وربما هذا ما جعله عدوانيًا تجاه سكان الجزيرة العربية، ليضيف كيز أن انهيار اليمن جعل من مكة والمدينة المركز السياسي في تلك المنطقة، وكان للإسلام نفوذًا بسبب التجارة في جلب الغذاء للجوعى ومكافحة الطاعون، الذي انتشر بين الروم، ويرى كيز أن هذا هو سبب انتشار الإسلام وقوة مكة والمدينة بعد زوال قوة حضارة اليمن. ويتشارك كل من كينيدي وكيز الرأي في أن الإسلام قدم أملاً للناس في المستقبل، بعد كل تلك الكوارث الطبيعية، فكان من الطبيعي أن يعتنقه من انهارت حضاراتهم من اليمنيين والروم والفرس المحيطين بالجزيرة.
في 1348 ظهر الطاعون الأسود في أوروبا واستمر خمس سنوات، ليقتل ثلث سكان أوروبا وقتها أو 20 مليون شخص، لكنه لم يختف تمامًا ليظهر عدة مرات أخرى، وفي عام 1918 ظهرت الإنفلونزا الإسبانية فقتلت 100 مليون شخص أو 5% من سكان العالم، وهذه بعض من أسوأ الأوقات التي مرت على البشرية وشكلت خطرًا على وجودها، ثم ها نحن الآن في عصر الكورونا، التي مازالت تحصد الأرواح بموجة ثانية وثالثة.
وبمناسبة الكورونا وباء 2020 التي تدور شكوك حول كونها فيروس مخلق أو ناتج عن حماقة بشرية ما، نذكر أن في عام 542 كتب الراهب القسطنطيني ايفاجريوس عن أول ظهور للطاعون الدملي في العالم المتحضر في التاريخ الحديث، طاعون جستنيان -عشرة آلاف وفاة في اليوم الواحد- وعندما وصلت الوفيات إلى ربع مليون حالة توقف كتبة المدينة عن التدوين، وامتلات المقابر، ورميت الجثث في البحر، وتحولت مزارع العنب إلى مقابر جماعية يحفرها جنود الجيش، وهرب السكان لينشروا المرض في بقية الإمبراطورية، حيث مات ملايين لم يحص أحد عددها، وقدرها البعض بـ50 مليونًا، حتى وصل الطاعون إنجلترا بسبب تجارتهم مع الرومان، وقضى على جزء كبير من السكان الكلت الأصليون، ليحل محلهم الأنجلو ساكسون المهاجرون من شمال أوروبا ليكونوا الحضارة التي نعرف تاريخها الآن، وكما قلنا سابقًا مصائب قوم عند قوم فوائد.
وبحسب المؤرخ بجامعة أوكفسورد بيتر ساريس، فقد نشأ هذا الطاعون في منطقة البحيرات الكبرى في إثيوبيا، لكن لم يكن له تأثير هناك بسبب ارتفاع درجة الحرارة، لأنه ينشط في درجة حرارة جو أقل من 25 سلزيوس. لكن كيف وصل هذا الطاعون إلى أوروبا؟ الإجابة هي عبر تجار العاج الذين كانوا يقتلون الأفيال ويصدرون عاجها إلى أوروبا، مرورًا بدار السلام وميناء الإسكندرية، التي ظهر بها الطاعون أولاً ثم عاصمة البيزنطيين القسطنطينية، والتي كان الطلب فيها متزايدًا على هذا العاج بشدة، ما أدى إلى تجارة ضخمة لهذه السلعة قدرت بمئات الأطنان، حسب البروفيسور مايكل ويتبي المؤرخ بجامعة وارويك، وانتقال الطاعون من قلب أفريقيا إلى أوروبا بسببها.
في النهاية، نجد أن البشرية شهدت الكثير من النوازل والمصائب في عصور مختلفة، بعض المصائب لدى قوم قد تكون فوائد لقوم آخرين، قليل مما شهدته البشرية كان بسبب الطبيعة، لكن الغالبية من مصائبها كانت بسبب الإنسان نفسه وجشعه وأطماعه وشرور نفسه، وكما شهدنا فقد تستمر آثار الكارثة مائة عام، وقد تتسبب الكارثة في ازدهار حضارات جديدة تأخذ مكان أخرى انهارت، و”ربنا يعدي الأوقات الصعبة دي على خير”.
مصادر ومراجع وقراءة إضافية:
Catastrophe: An Investigation into the Origins of Modern Civilization
Justinian’s Flea: The First Great Plague and the End of the Roman Empire
Empires of Faith: The Fall of Rome to the Rise of Islam, 500-700
Rome at War AD 293–696
The Ecclesiastical History of Evagrius Scholasticus
The northern Crusades
The Crusades and the Military Orders: Expanding the Frontiers of Medieval Latin Christianity
God’s War: A New History of the Crusades
The Baltic Crusade
Procopius
The Syriac Chronicle of Michael Rabo
Nanshi 南史 History of the South
The Book of the Grail
The Lancelot-Grail
https://www.imdb.com/title/tt1410063
https://history.fas.harvard.edu/people/michael-mccormick
https://www.lanl.gov/orgs/ees/geodynamics/Wohletz/Professional.htm
https://anth.la.psu.edu/research/land-and-water/in-memoriam-william-t.-sanders-1926-2008
https://www.soas.ac.uk/staff/staff36939.php
https://hunasotak.com/article/20351
https://history.case.edu/faculty/peter-shulman
https://hunasotak.com/article/25711
https://wwv.almanassa.run/ar/story/3543
https://youtu.be/_-i6qrE61uU
Virus-free. www.avast.com |