لا تبدو الانفراجة في ملف الأزمة الخليجية، الممتدة منذ ما يقارب الثلاثة أعوام، بعد الإعلان عن مصالحة محتملة بين قطر والسعودية، مؤخراً، خاتمة نهائية للمشكلات الموجودة. إذ إنها تعكس تعقيدات جمة، سياسية وأمنية وإقليمية، تتصل بعدة ملفات بالنسبة لدول المقاطعة (مصر والإمارات والسعودية والبحرين).

وفي ظل حلحلة الموقف السعودي الأخير للأزمة، تبرز التباينات، وكذا التناقضات الثانوية والرئيسية حول مجموعة من القضايا الحيوية والخلافية، وبالتبعية، الأهداف التكتيكية والاستراتيجية.

الأزمة الخليجية.. البدايات والمسارات

حدثت الأزمة الخليجية الأولى، في مارس العام 2014، وذلك بعد إعلان السعودية والإمارات والبحرين سحب سفرائها من الدوحة، نتيجة عدم التزام الأخيرة ببنود الاتفاق الموقع، نهاية العام 2013، في الرياض، بين أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، والعاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بحضور أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، وقد حظى بتأييد من بقية دول مجلس التعاون الخليجي. 

وعليه، انتهت الأزمة بعد توقيع اتفاق جديد، في نوفمبر العام 2014، أكدت فيه قطر “الالتزام بكلا الاتفاقين (اتفاق الرياض، في نوفمبر العام 2013، واتفاق الرياض التكميلي، في نوفمبر العام ٢٠١٤). 

ومن بين بنود الاتفاقين الموقعين في الرياض: “وقف دعم تنظيم الإخوان من قبل الدوحة، وطرد العناصر التابعة له من غير المواطنين من قطر، وعدم إيواء عناصر من دول مجلس التعاون، تعكر صفو العلاقات الخليجية، وعدم تقديم الدعم لأي تنظيم أو فئة في اليمن يخرب العلاقات الداخلية أو مع الدول المحيطة”. 

قطر ونكث العهود

لم تلتزم قطر بالبنود المقرر في الاتفاقية الأولى والثانية، وبخاصة، بعد وفاة الملك عبد الله، مطلع العام 2015، وارتفعت حدة الخطاب السياسي والإعلامي ضد الرياض وأبو ظبي والقاهرة، عبر منصاتها الإعلامية، وبنفس الدرجة، زادت صلاتها الخارجية بإيران وتركيا. 

في يونيو العام 2017، اتخذ القرار بالمقاطعة الخليجية، على خلفية نشاط الدوحة الذي وصف من دول الرباعي بـ”التخريبي” في المنطقة، وكذا دعمها للإرهاب، ممثلة في قوى الإسلام السياسي، بجناحيها السني والشيعي، في عدد من بؤر التوتر بالإقليم، لاسيما اليمن وسوريا وليبيا.

الدوحة ساحة لصعود أنقرة وطهران الإقليمي

يبدو أن دعم الدوحة إلى جماعة الإخوان، المصنفة على قوائم الإرهاب، في دول المقاطعة بالخليج ومصر، يعد من بين الأمور التي فاقمت حدة التنابذ والصراع بين الطرفين.

كما أنه خلاف لا يعدو عرضياً أو مؤقتاً، إنما يعكس خيارات واصطفافات سياسية وإقليمية أوسع، لا يمكن معها ملء فراغاتها بالتوافق أو التفاوض.

تحولت الدوحة في ظل سنوات المقاطعة، إلى سلم تصعد عليه طهران وأنقرة في الخليج، بوجه خاص، وفي المنطقة العربية، بوجه عام، بما يترتب على ذلك من تهديدات ومخاطر قصوى، أمنية وسياسية وإقليمية.

إذ نجحت أنقرة في تدشين قاعدة عسكرية في قطر، وبالتالي، إيجاد موطئ قدم لكيان عسكري وأمني في الخليج.

وتشير وكالة أنباء “رويترز”، إلى أن افتتاح القاعدة العسكرية في شمال قطر، شهد حضوراً قوياً لنحو 33 شركة تركية، تعمل في مجالي الدفاع والأمن البحري، كما وقعت الدوحة على العديد من صفقات الأسلحة، ومن بينها، شراء زوارق قوات خاصة، حيث وصل عدد القوات التركية الموجودة في قطر نحو ثلاثة آلاف عنصر، حسبما أكدت وسائل إعلام محلية تركية.

تغلغل طهران وأنقرة في الخليج

ومع التقارب المضطرد بين قطر وأنقرة، حدث تعاون مماثل مع إيران؛ حيث جرى الكشف عن زيارة لوفد من القوة البحرية للحرس الثوري الإيراني إلى الدوحة، للمشاركة في مؤتمر لقادة القوات البحرية في الشرق الأوسط “ديمدكس 2018″،  وذلك برئاسة نائب قائد القوة البحرية في الحرس الثوري، العميد علي رضا تـنكسيري.

تميم وأردغان
تميم وأردوغان

وقال نائب قائد القوة البحرية للحرس لوكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”، شبه الرسمية، إن الظروف تبدو مهيأة، أكثر من أي وقت مضى، لما وصفه بـ”تنمية التعاون” مع الدوحة، مضيفاً “إن مشاركة إيران في الدورات الثلاث للمعرض تعني الدعم الإيراني للدوحة، وبالتالي، يعد التعاون الثنائي بين البلدين أمراً قائماً ومشتركاً، في مجال الدفاع الساحلي، وخفر السواحل، والمشاركة في المناورات العسكرية”.

خسائر السعودية من خصومة قطر

لذا، فإن السعودية، من المؤكد، أنها لم تكن سعيدة ومرتاحة، سياسياً وشعبياً، لقرار المقاطعة الذي جاء لاعتبارات سياسية كثيرة ومعقدة من الصعب حصرها هنا، لكن ثمة مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ قرار المقاطعة، وحتى اليوم، بحسب الدكتور سعود الشرفات، مدير مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب، مقره الأردن. 

ويضيف لـ”مصر 360″: “كما أنه من المؤكد بأن السعودية تدرك أن ظروف المقاطعة قد استنفذت الكثير من وقتها وجهدها ومواردها وقوتها الصلبة والناعمة التي تتمتع بها، ومن ثم، فإن كلفة المقاطعة كانت أكثر من فائدتها بالنسبة لمصالحها على المدى الطويل”. 

وربما، يمكن القول بأن قرار المقاطعة لم يكن يستحق كل هذه التكلفة بالنسبة للسعودية، بحسب تقدير مدير مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والارهاب.

يضيف الشرفات بأن “السعودية كانت تريد أن تبعث برسالة قاسية لقطر، بأنها تملك القدرة والإرادة متى شاءت على فرض أجندتها، وحماية مصالحها الوطنية الخاصة، في حال شعرت بأي نوع من التهديد لهذه المصالح”. 

السعودية والإمارات.. حسابات الفوز والخسارة من المقاطعة

وبرأي الشرفات، فإن تجاوز السعودية للمقاطعة يبدو أنه حققت أهدافها؛ سيفيدها على المدى المتوسط والطويل لإعادة ترتيب أواضاعها الداخلية والإقليمية، والتفرغ لمعالجة قضايا أهم، اقتصادياً وسياسياً؛ فهناك مشاريع اقتصادية معولمة تحتاج إلى تفرغ كامل، مثل مشروع النيوم، وهناك استحقاقات سياسية خطيرة وإعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط مع إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن.

كما أن هناك ترتيبات جديدة في عدة ملفات مثل الخطر الإيراني، والعلاقة مع تركيا، وكيفية التعامل مع الملف الفلسطيني والإسرائيلي، واستمرار خطر الإرهاب والإسلام السياسي، ناهيك عن ملف الإصلاح السياسي والتحديث الذي يشرف عليه الأمير محمد بن سلمان، يقول شرفات.

الأيام الأخيرة لترامب.. ما وراء دعم المصالحة الخليجية؟

وفي ما يتصل بالدور الأمريكي الذي تلعبه إدارة ترامب في أسابيعها الأخيرة، يقول الشرفات: “لقد بذلت إدارة ترامب محاولات عديدة في رأب الصدع بين الأطراف الخليجية، لحشد دعمها في مواجهة خطر إيران واحتوائه، وأعتقد بأن هناك استمرارية في الرغبة الأمريكية لجهة إنجاز المصالحة لما فيه من خدمة لكافة الأطراف، وتحسين ظروف المساومة في أي حوار مع إيران حول مشروعها النووي.

ترامب لعب دورا كبيرا في العلاقات الخليجية
ترامب لعب دورا كبيرا في العلاقات الخليجية

وبالتالي فإن تحرك إدارة ترامب، وإن كان يبدو متأخراً، يأتي ضمن هذا الفهم، وهو لا يمثل إدارة ترامب فقط، بل الدولة العميقة في أمريكا، بغض النظر عن الجمهوريين أو الديمقراطيين.

كيف يمكن تفسير الموقف الإماراتي؟ 

وبينما لم تصدر عن القاهرة أو أبو ظبي ثمة تصريحات رسمية حول مسألة المصالحة الخليجية بين قطر والسعودية، فإن تحركات مستشار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، جاريد كوشنير، باتجاه حل الأزمة ومساراتها، تكشف عن ضعف أو عدم حماس بعض دول المقاطعة بخصوص إنهاء الخلافات الممتدة، منذ ثلاثة أعوام، واللافت في ظل شح المعلومات أن كوشنير الذي زار قطر، مؤخراً، لم يتوقف والوفد الدبلوماسي معه في الإمارات.

وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن المصالحة بين قطر والسعودية، سوف يترتب عليها “احتمال تغيير مسار الرحلات الجوية التجارية من قطر عبر المجال الجوي السعودي بدلاً من الإيراني.

كما أن تغيير المسار الجوي من شأنه أن يحرم إيران من حوالى 100 مليون دولار أميركي، تدفعها لها قطر للطيران عبر مجالها الجوي، وهي أموال تعوض الاقتصاد الإيراني المنهك من خسائره، وتسمح لقادة طهران بتمويل البرامج العسكرية بسهولة أكبر، ومن غير المعلوم، ما إذا كانت أبو ظبي ستفتح مجالها الجوي أم لا.

وفي حديث لـ”مصر 360″، يرى أستاذ العلوم السياسية الإماراتي ورئيس المجلس العربي للعلوم الاجتماعية سابقاً، الدكتور عبد الخالق عبد الله، أن مقاطعة قطر حدث بقرار جماعي بين دول الرباعي، ومن ثم، لا مجال لأي اتفاق ثنائي، والسعودية، فقط، تقوم بـ”دور المحاور والمفاوض” نيابة عن باقي الدول وبتفويض منها، حسب وصفه وهناك ثقة مطلقة بالدور التفاوضي للرياض.

هل تكف قطر عن ممارسة أدوارها؟

ويشير أستاذ العلوم السياسية الإماراتي إلى أن قطر “خلال الثلاث سنوات الماضية، رغبت بالمصالحة وتود إنهاء المقاطعة والعزلة من أقرب الأطراف الإقليمية لها، لكن المشكلة كانت تمكن في الجانب الإجرائي حول كيفية ضمان التزام الدوحة بمضمون المصالحة، وتنفيذ بنودها وأسسها، حيث سبق لقطر أن تعهدت لكنها لم تلتزم بما تعهدت به، فما الذي يضمن أنها ستفي بتعهداتها الجديدة؟ هذا السؤال هو الذي يعرقل حاليا جهود المصالحة”. 

ويلمح عبد الله إلى أن “هناك دول مازالت تشك في التزام الدوحة، بينما هناك دول أخرى أقل تشككاً، وتريد أن تمتحن موقفها للنهاية، مجدداً، خاصة مع موقف الولايات المتحدة التي دخلت بقوة باعتبارها الضامن لالتزامات قطر، وبالتالي السؤال الراهن: هل ستكون امريكا الضامن لأي التزام قطري؟” 

وبسؤال أستاذ العلوم السياسية الإماراتي عن موقف قطر من الإسلام السياسي، من ناحية، وتحالفها الإقليمي مع القوى الداعمة لهم، والمعارضة لتحركات القاهرة الخارجية، من ناحية أخرى.

يجيب: “الدول الأربعة صنفت الإخوان باعتبارها جماعة إرهابية، وليس مطلوباً من قطر تبني الموقف ذاته، لكن هي مطالبة، على كل حال، أن لا تكون الممول الرئيسي لجماعة صنفت إرهابية؛ لأنه التمويل الذي يصل للإخوان اليوم يأتي في جله من الدوحة، وبنسبة تتجاوز الـ %60”. 

اقرأ أيضا:

قطر والإرهاب.. استغلال التطرف لتحقيق النفوذ

“قطر ميالة للمشاكسة”

ويلفت المصدر ذاته إلى أن قطر دائماً ما تبدو “ميالة للمشاكسة، منذ نحو عقدين، وتواصل دورها التخريبي الذي لم ينقطع في المساحات التي يشغلها الحضور الإماراتي السعودي المصري، كما هو الحال، في اليمن والصومال وليبيا، وبالتالي، لا أتوقع من قطر حتى بعد الالتزام على المصالحة الأخيرة، أن تتوقف عن الشقاوة السياسية وأدوارها المشاكسة”.

ويتابع: “في ظل سنوات المقاطعة، حدث تنسيق قطري تركي هائل، لا يخفى على أحد، وتطور بدرجة جعلت ارتباطهما قطر وتركيا استراتيجياً.

تميم بن حمدان
تميم بن حمدان

وقد أضحت الدوحة ثاني أكبر مستثمر في تركيا، حيث تجاوز إجمالي استثمارات قطر في تركيا 22 مليار دولار، فضلاً عن القاعدة العسكرية التركية بالدوحة، والاتفاقيات الأمنية والعسكرية الدفاعية بينهما، التي تعد من التداعيات التي ترتبت على الخلاف الخليجي، بحيث أصبح الوجود التركي على مسافة كيلومترات من السعودية والإمارات وهذا تهديد بأمن واستقرار البلدين؛ الأمر الذي لا يمكن القبول به، ويجب وضع حد له في أي اتفاق قادم، حيث إن الإقحام التركي عقد مسارات المصالحة، وأجج الخلاف الخليجي، وهذا دور لا يمكن للرياض وأبوظبي نسيانه في تعاملهما مع أردوغان”. 

والثابت هو أن “الدولة العميقة” في أمريكا، التي تتجاوز ثنائية الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تريد احتواء إيران وبرنامجها النووي، وكذا تحييدها وشل قدرتها وقوتها الإقليمية في بؤر التوتر والتدخل في الشؤون العربية والإسلامية، ناهيك عن تهديد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، في ظل انشغالها بالمنافسة الحامية القادمة مع التنين الصيني والدب الروسي”. بحسب أستاذ العلوم السياسية الإماراتي.

 

مصالحة قطر والسعودية.. الثابت والمتحول