ليست كل سينما الصحافة كـ”الأفضل لم يأت بعد”، فلم تزل السينما العالمية والمحلية تقدم الصحفيين والمراسلين كغوغائيين متلصصين وثقال الظل، لا تشغلهم سوى الفضائح والقصص الاستفزازية. كصحفي، يمكنني أن أؤكد لك أن هذا ليس صحيحًا، دائمًا على الأقل.
لكن في مقابل عشرات المشاهد التي ربما رسخت في ذهن الكثيرين خطر تواجد الصحافة والتلفزيون، على اعتبارهما جزء من “فضيحة” للبطل أو القصة؛ سلّطت السينما أيضًا في العديد من الأفلام، الضوء على محورية أدوار الصحافة في المجتمعات، مع إشارات متكررة إلى “أنت لم ترَ أي شيء بعد.. الأفضل لم يأتِ بعد”، كما في أغنية فرانك سيناترا.
سينما الصحافة .. وقائع ما بعد التنميط
لأحد مؤسسي توجهات السينما العالمية المستمرة للآن، وهو أورسون ويلز؛ فيلم باسم “المواطن كين“، الذي قدّمه عام 1941، وتناول فيه السيرة الذاتية لعامل في الصحافة، ومسيرة صعوده وهبوطه، وكيفية سيادته في المجتمع بالصحيفة التي يملكها، ثم المصير الغامض بموته المفاجئ.
الشخصية التي قدمها الفيلم مستوحاة من الحقيقة، حيث حياة الناشر وليام راندولف هيرست، صاحب التأثير الكبير والممتد على الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان فيلم “المواطن كين” من البدايات التأسيسية، لسينما تتعاطى مع وقائع العمل الصحفي، فإن فيلم “ذا بوست“، عُرض في 2017، من أبرزها حديثها، بإضاءته على أحداث تعود لعام 1971، عندما كانت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، تحت قيادة امرأة تدعى كاي، تؤدي دورها ميريل ستريب.
تقف كاي، أو ستريب أمام خيارين، كلاهما صعب، وأحدهما مصيري تقريبًا: إما أن ترضخ لضغوط البيت الأبيض حين كان الرئيس ريتشارد نيكسون، وتمنع نشر وثائق تكشف الخسائر الجسيمة للقوات الأمريكية جراء حرب فيتنام، أو أن تنشر الحقيقة مهما كانت النتائج.
بصرف النظر عن اختيارها الذي لن نتطرق له كي يتسنَّ لمن لم يشاهد الفيلم أن يشاهده؛ يقدم الفيلم مناقشة لدور صحفي مغاير للصورة النمطية، لكنه أيضًا لا يبتعد كثيرًا عن الواقع، كما فعل تقريبًا فيلم “كل رجال الرئيس“، عرض في 1976، الذي يروي القصة الحقيقة لصحفيين من جريدة واشنطن بوست أيضًا، هما كارل برنستين (دستين هوفمان في أحد أفضل أدواره) وبوب وودورد (روبرت ردفورد)، اللذان كشفت عن فضيحة ووترغيت.
يرجح الفيلم سردية الواقع على الخيال، على عكس ما خلص إليه المخرج جون فورد، في فيلمه المعتبر ضمن مجموعة الأفلام المسيئة، أو التنميطية، للعمل الصحفي، فيلم “الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس”، لعام 1962؛ عندما يقول على لسان البطل: “عندما تصبح الأسطورة حقيقة، اطبع الأسطورة”.
سينما الصحافة في مهرجان القاهرة.. “الأفضل لم يأت بعد”
يعي السينمائيون، المهرة، دور العمل الصحفي وتأثيره في المجتمعات. يظهر ذلك في مجموعة أفلام مستقاة من قصص حقيقية، بطولتها الصحافة، مثل فيلم “لا دولتشي ڤيتا” (1960) للمخرج فديريكو فيلليني، الذي يحتفل به مهرجان القاهرة السينمائي في دورته 42، بعرض عدد من أفلامه.
يحكي فيلليني في الفيلم الرغبة الملحة لصحفي مجتمع اسمه مارشيللو روبيني (مارشيللو ماستروياني)، في نشر الفضائح، قبل أن يحدث لعمله تحول بعد أن أدرك أهمية موقعه بالقرب من صناع القرار، ليقرر هو الاستفادة من ذلك في صناعة تأثير.
أيضًا، يعرض مهرجان القاهرة فيلمان آخران حول العمل الصحفي، كعرض أول لهما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أحدهما فيلم “عالم التلفزيون” اللبناني، عن قصة ممثل متعثر في عمله، يستخدم الإعلام والصحافة لتحسين وضعه المادي، بتقديم برنامج ترفيهي عن نساء يسعين للحصول على الرجال. وفيلم آخر، صيني، باسم “الأفضل لم يأت بعد“، والذي يمكن المجازفة باعتباره من أفضل الأفلام التي عرضت في مهرجان القاهرة السينمائي لهذا العام، وربما من أفضل أفلام العام عالميًا.
الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية تأثر بها نحو 100 مليون صيني. وهو الأول لمخرجه جينج وانج، تلميذ المخرج الصيني زانج جاي.
الفيلم، كغيره من الأفلام التي تحكي عن واقع الصحافة وتأثيراتها المستوحاة من الحقيقية، حيث البطل هان دونغ (باي كي) عامل من بلدة صغيرة يترك المدرسة الثانوية لحلم بأن يصبح صحفيًا. يتخلّى عن وظيفة مستقرة في مسقط رأسه، ويكافح من أجل كسب لقمة العيش في بكين.
لحسن حظه، وبالصدفة، يرشحه صحفي خبير بإحدى الصحف الصينية الكبرى، بالتدرب في مقر الصحيفة. نشاهد القصة في طورها التقليدي الذي لا يتغيّر حتى منتصف الفيلم، إيقاع موسيقي هادئ، قطعات مونتاج غير ملفتة، وكاميرا واسعة لا تقترب من شخصياتها كثيرًا مع ذروة تحقيق البطل لحلمه الأثير بتعيينه في الصحيفة بعد إنجازه تحقيقًا يكشف حقيقة عصابة تعمل على تبديل نتائح تحاليل المرضى بالتهاب الكبد الوبائي؛ حيث في صين 2003، كان الذي يثبت حمله لهذا المرض، يهمّش ويفصل من عمله فورًا.
تتداخل الحبكة لتصبح أكثر تعقيدًا لدى البطل؛ هل ينشر قصته الصحفية التي تُدين العصابة التي تغير النتائج وتقدم المرض على اعتباره مصدر عدوى يجب تهميش مصابيها، كما يحاول أن يجبره مديره، أم يسير وراء الحقيقة التي عاشها في فترة سكنه مع زميل له بالغرفة ذاتها ليكتشف بعدها حمله للمرض دون أن تصيبه العدوى؟
خيار مصيري بتقصى الحقيقة حتى آخرها يختاره البطل. يتشرد بسببه. يُطرد من منزله لعدم الدفع. تُصاب حبيبته بالاكتئاب.
يترك الفيلم للمشاهد الاختيار. ينتهي الفيلم بالنتيجة التي يخلص إليها البطل: أن المرض لا يصبح مُعدي إلّا في حالات قليلة، وهي نتيجة تسببت في تغيير حياة ملايين. ونهاية لا يمكنها حرق فيلم مكدّس بالمشاعر الإنسانية الخالصة والاختبارات التي لا تنتهي؛ يختبرها كل مشاهد على حدة.
تبدأ تترات الفيلم بالجملة الفلسفية ذاتها التي ينتهي بها: كل شيء يحدث في العالم له علاقة بنا بشكلٍ أو بآخر. وربما تلك هي وظيفة الصحافة: أن يدرك الإنسان من خلالها مدى تأثير الأشياء من حوله مهما كان يظن أنها لا تخصه.
يتقاطع تهميش المصابين بالتهاب الكبد الوبائي مع تهميش البطل في مجتمع، باعتباره ليس عاصميًا. لم تكن قضية الفيلم إذًا المرض فقط، بل مواجهة التهميش. تحضر الصحافة في المشهد الإنساني، عبر الفيلم، لتخبرنا القصة الحقيقية بأبعادها المخفية أو المنسية. وينتهي مرة أخرى مع تأكيد مجازي بأن “الأفضل لم يأتِ بعد”.