ساقني عملي كمحامي للذهاب إلى مقر نيابة أمن الدولة العليا، بالتجمع الخامس. في الطرف الشرقي من القاهرة. عند محاولة الدخول، فوجئت ناحية الباب الملاصق للمتراس الخارجي بوجود مكتب للحرس، مهمته استيقافك لمعرفة بغيتك وغرضك من الدخول. فإن كان لك تحقيق أو إجراءات تقاضي لا يُسمح لك بالدخول إلا بعد أن يصل وكلاء النائب العام، ووصول المتهمين. أما إن كان غرضك إنهاء بعض الأعمال الإدارية المتعلقة بالقضايا. مثل استخراج شهادات من الجدول أو معرفة مواعيد التجديدات، فهذه تأخذك لخطوة تسليم طلبك بالمكتب الأمامي، أو مكتب الاستعلامات في مواعيد محددة. ثم عليك العودة بعدها لمعرفة ما تم بخصوص الطلب المقدم.
بعدها بأيام كان مقدرًا لي الذهاب إلى المحكمة العسكرية العليا للحضور أمام محكمة الطعون العسكرية (محكمة النقض العسكرية). فإذ بي أجد ما هو أصعب من السابق ذكره. فوجئت بأنه لا يسمح بالدخول إلا لمن لديه جلسة في ذات اليوم. ووجدت سكرتير الجلسة يرافق الحرس خارج المبنى، يسألك للتأكد عن رقم قضيتك واسم المتهم، ثم بعدها يُسمح لك بالدخول. وعند دخولي المبنى وجدت غرفة المحامين مغلقة، وهو أمر أعتقد أنه مصاحب لعدم تواجد المحامين داخل مبنى المحكمة، إلا في الظروف سالفة الذكر. وفيما يخص الأعمال الإدارية فلها إجراءات شبيهة بما يحدث في مقر نيابة أمن الدولة.
عرقلة التقاضي
عندما فكرت في هذه الأمور التي تمثل عبئًا إضافيًا على المحامين والمتقاضين، وجدت ما هو أشد وطئًا. إذ تم فرض رسم اطلاع على الأجندة بمحكمة الإسكندرية الابتدائية (الدفتر المخصص لقيد القضايا في الجلسة الواحدة)، وأن هناك محاولات أو مساعي ودية باءت بالفشل من المحامين لإلغاء هذا القرار. وهو الأمر الذي دفعهم إلى الطعن على هذا القرار أمام محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية. لكن الأدهى أن محكمة القضاء الإداري ذاتها أصدرت قرارًا مشابهًا بتقديم طلب وفرض رسم اطلاع على القضايا بشكل عام.
فهل يُقبل ذلك في الوقت الذي تروج فيه الدولة لمحاولات التقاضي الإلكتروني أو التقاضي عن بعد. وذلك في محاولات لمسايرة عصور سبقتنا إليها بلدان عمرها الوجودي لم يتجاوز مئة سنة. وسبقتنا إليها دول لم تزل تتعثر في مشاهدة حضارتنا القديمة.
كل هذه الأمثلة تمثل إرهاقًا لمفهوم التقاضي، وكيفية تيسيره على المتقاضين. فما بالك في حالة تعسيره على المحامين.
أليس ذلك يعد من قبيل أثقال الحق في الدفاع، وإرهاقه بحسب أن الدخول للمحاكم وتيسير إجراءات الحصول على أوراق الدعاوى ومتابعة القضايا، هي أولى مفردات العمل القضائي، وأول خطوات الحق في الدفاع. وبحسب كون هذه المنشآت هي محاكم مخصصة لنظر قضايا أو تحقيقات تهم أفراد. وبالتالي وجب أن يمثُل بها محامون لتحقيق دفاع موكليهم من المتهمين. وأن هذه الأعمال المتمثلة في المنع المقنن من الدخول أو تعسيره. بحيث يصبح على حسب رغبة القائم على التنظيم الإداري لهذه المباني. وهو ما يعرقل سير عمل التقاضي من زاوية حقوق الأفراد، وكذلك من زاوية حقوق المحامين، أو بمعنى شمولي، للحق في الدفاع، بحسبه البنية الأولى التي يقوم عليها القضاء الجنائي.
حق دستوري
جاء بـالدستور المصري مغايرًا ومعاكسًا للحاصل واقعيًا، حيث أكد على أن المواطنون أمام القانون سواء. وأقر حماية لحقوق المقبوض عليهم، وأن لا يتم التحقيق معهم إلا بحضور محام. كما أن الدستور المصري الأخير أفرد بابه الرابع المعنون بسيادة القانون، ليؤكد على خضوع الدولة للقانون، وعلى استقلال القضاء، وعلى عدالة المحاكمات الجنائية، وكفالة حق الدفاع. وبشكل عام أكد الدستور على أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة.
ولكن هل هذا الحجب الذي يبعد كل البعد عن تنظيم العمل، وما يحدث حاليًا أمر قد يصل إلى عرقلة العمل القانوني أو تعسيره على المتقاضين أو المحامين. وكيف يتم منع المحامي من دخول مقر محكمة، في أي وقت شاء لقضاء عمله القانوني، سواء كان حضور جلسات أو تحقيقات أو أعمال إدارية متعلقة بسير القضايا، مثل الاطلاع أو الحصول على صور من التحقيقات أو معرفة الجلسات أو متابعة قراراتها، وما إلى ذلك من أعمال.
ومن الناحية الحقوقية، ذلك حق أقره الدستور المصري في نسخته الأخيرة، إذ نص في المادة 93 منه على التزام مصر بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية، وجعلها في مصاف أو مرتبة القوانين. ومن هذه الناحية نسوق لكم كمثال لعناية تلك المواثيق بهذه الحقوق، ما جاء بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يمثل ركنًا رئيسيًا من أركان القواعد الحقوقية.
تقنين أوضاع في مواجهة التزامات عدلية
إذ تتضمن مواده ما يضمن تسهيل إجراءات المحاكمات، وضمان حق الدفاع بما في ذلك كافة الإجراءات المتعلقة به والمرتبطة بضمانه. وهي تلك المتعلقة من الأساس بالسماح بالتواجد داخل أروقة المحاكم، وتسهيل الحصول على نسخ من الأوراق ومتابعة القضايا. وهذا أيضًا ما أكدته المبادئ الدولية المتعلقة بضمان مهنة المحاماة بحسبها أحد أركان المحاكمات العادلة والمنصفة. وهي تلك التي تقوم أساسًا على توافر مجموعة إجراءات تلازم كل مراحل المساءلة الجنائية، من شأنها أن تحفظ للمتهم كرامته وشخصيته القانونية، وأن لا تتضمن عدم تمكينه من تقديم أدلته وتوضيحاته، أو حرمانه من ممارسته حقه في الدفاع عن نفسه بما يقتضيه ذلك الحق من مفردات متعددة، أعتقد أن تحقيق جميع خطواتها مرتبط بإتاحة دخول مقار المحاكم، وتيسير إجراءات تنقل المحامين ومتابعتهم لقضاياهم داخل أروقة المحاكم.
ومن هنا وبشكل مجمل لا أرى علة تقتضي ما يحدث من محاولة تقنين أوضاع أو إجراءات تجعل من سبل التقاضي أمرًا ليس بالسهولة بمكان، وتجعل من تحقيق الحق في الدفاع بشكل رئيسي ليس هينًا ومتاحًا للمتقاضين. وإن كان من الأوجب على الدولة أن تعمل بشكل مغاير على إزالة كافة العراقيل أو الحجب التي تحول بين المتقاضين أو المحامين من متابعة قضاياهم، وتيسير إجراءات الحصول على الأوراق اللازمة من داخل المحاكم أو معرفة مصائر قضاياهم بشكل أيسر وأسهل مما هو عليه الآن. وأن مردود ذلك سيكون في مدى احترام الدولة للدستور وكذلك لالتزماتها العدلية المترتبة على تصديقها على مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان. كما أنه يضفى صورة فضلى لكيان الدولة الرسمي أمام مواطنيها.