العديد من الأسئلة تشغل بال المعنيين بالشأن الاقتصادي في مصر خاصة في ظل تواتر التقارير الدولية التي تشيد بأداء الاقتصاد المصري خلال ٢٠٢٠.
لكنها تتضمن في الوقت ذاته قدرا من التحذيرات المستقبلية، ولعل أهم هذه الأسئلة كيف صمد الاقتصاد المصري أمام جائحة كورونا؟.. وما الآثار الجانبية للقرارات الحكومية الخاصة بمواجهتها؟.. وما إمكانية استدامة النمو الاقتصادي مع ارتفاع الدين؟
أداء الاقتصاد المصري اتسم خلال العام الذي يستعد للمغادرة، بالتذبذب في التعامل مع الجائحة، ما بين التأثر العنيف في الفترة من مارس وحتى مايو، ثم استعادة بعض التوازن بفضل عودة تدفق تحويلات المصريين بالخارج، وإغراء أدوات الدين الحكومية للمستثمرين اللاهثين، وراء الفائدة المرتفعة.
مصر ضمن الاقتصادات العشرة الأسرع نموًا على مستوى العالم
ووفقا لوكالة بلومبرج، فإن مصر ضمن الاقتصادات العشرة الأسرع نموًا على مستوى العالم خلال عام 2020، وتُسجل ثاني أعلى معدل نمو اقتصادي في العالم بنسبة 3.6%، لكن تلك الأرقام بعيدة عن مستهدفات الحكومة قبل الجائحة التي كانت تستهدف معدل نمو عند 6%.
وبمقارنة النمو المصري بدول المنطقة يتبين أن الاقتصاد المصري لا يزال صامدًا على مستوى النمو، فالجزائر تراجعت من نمو موجب 2.6% إلى سالب 5%، والبحرين من 2.5% إلى سالب 4.3%، والكويت من 3% إلى سالب 2.5% والسعودية من 2.5% إلى سالب 4.3%، والمغرب من 3.7% إلى سالب بالرقم ذاته، وتونس من 2.4% إلى سالب 4.3%.
ويؤكد البنك الدولي، في دراسة جديدة له الشهر الماضي، أن أزمة كورونا جاءت في وقتٍ استمرت فيه بعض التحديات المزمنة، لمصر فيما يتعلق بمستوى الدين الحكومي، الذي لا يزال مرتفعا، وتباطؤ تعبئة الإيرادات العامة، وضعف أداء الصادرات السلعية، والاستثمارات الأجنبية المباشرة غير النفطي.
ووفقاً للبنك فإن الإصلاحات التي تم تنفيذها خلال السنوات الأخيرة خاصة في المالية العامة والسياسة النقدية وفي قطاع الطاقة، بجانب الإجراءات الطارئة التي اتخذتها السلطات استجابة لأزمة كورونا، تساعد مصر حتى الآن على مواجهة آثار الصدمة لكنها أدت إلى انقطاع موجة من النمو الاقتصادي وارتفاعات الاحتياطيات الأجنبية، وجهود قوية لضبط أوضاع المالية العامة وأرصدة المعاملات الخارجية.
“التحدي والإنجاز لعام 2020”
وفي تقرير “التحدي والإنجاز لعام 2020″، الذي أصدرته وزارة المالية وحصلت “مصر 360″ على نسخة منه، فإن معدلات الدين للناتج المحلي تراجعت من 108% في العام المالي 2016-2017 إلى 88% بنهاية يونيو 2020، وتحقيق فائض أولي 1.8% في العام المالي الماضي، بينما تضاعفت في الدول الناشئة الأخرى وغيرها معدلات الدين والعجز وجاء نموها بالسالب.
صحيح أن معدل الدين العام متراجع حال احتسابه وفًقا للناتج المحلي فتراجع إلى 88%، لكنه مرتفع بقوة كرقم في حد ذاته بعدما بلغ مستوى ٤،٨ تريليون جنيه وفقا لآخر التقارير الشهرية لوزارة المالية عن أكتوبر الماضي.
سجل ميزان المدفوعات المصري، خلال النصف الثاني من العام المالي الماضي (يناير وحتى يونيو)، عجًزا كليًا بلغ نحو 9 مليارات دولار، مقابل فائضًا كلًيا بلغ 1.7 مليار دولار، خلال الفترة ذاتها، من العام المالي السابق عليه.، وفقا لأخر إحصائية للبنك المركزي المصري التي وصل لـ”مصر 360” نسخة منها.
جاء العجز مدفوعًا بتراجع فائض الميزان الخدمي (خدمــات تتــمّ بين الــدول كالنقــل، وتأشيــرات العمــل….)، بمقدار النصف تقريًبا، ليسجل نحو 2.7 مليار دولار، مقابل نحو 5.7 مليار دولار؛ نتيجة الهبوط الحاد بمتحصلات السفر بمعدل 54.9% لتقتصر على نحو 2.6 مليار دولار، مقابل 5.8 مليار دولار.
مصادر العملة
تعتمد مصر طوال تاريخها الحديث على ثالوث لمصادر الدخل الأجنبي يتضمن تحويلات العاملين في الخارج وقناة السويس والسياحة، مع مورد رابع لا يمثل جزاء كبيرا في المعادلة يتمثل في التصدير.
وأمام تراجع الموارد الدولارية، انخفض الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية من أعلى مستوى له عند 45.5 مليار دولار بنهاية 2019 لما يناهز 39.3 مليار دولار في الربع الأول من عام 2020، لكنه لا يزال حتى الآن قادرا على تغطية 8 أشهر من الواردات السلعية (المعدل العالمي عند 3.5 شهر).
كانت تحويلات المصريين بالخارج سنًدا رئيسًيا للاقتصاد خلال الأشهر الأولى الجائحة، بعدما ارتفعت بمعدل 7.5% خلال النصف الثاني من العام المالي، لتسجل 14.1 مليار دولار، مقابل 13.1 مليار دولار، خلال الفترة المناظرة.
وعوضت التحويلات انخفاض إيرادات قناة السويس الدولارية بسبب تأثر التجارة العالمية بشكل عام بالجائحة وانخفضت الحمولات من 101.8 مليون طن إلى 84.2 مليون طن، وانخفضت أعداد السفن من 1731 إلى 1381 سفينة خلال الفترة أبريل-يونيو 2020.
كما تراجعت السياحة أحد المصادر الأساسية للعملة الصعبة تسجل في شهر مثل أبريل الماضي صفر%، مقابل 932 ألف سائح في الفترة ذاتها من العام السابق، وبدأ يظهر تحسنًا نسبيًا خلل شهري يوليو وأغسطس بوفود 89 ألف و223 ألف سائح على التوالي لتنخفض نسبة تراجع الحركة السياحية إلى 82% في أغسطس الماضي.
ولا يتوقع تحقيق السياحة المصرية تعافيا قبل النصف الأول من العام 2021/2022 وفقا للعديد من التقارير الدولية، وذلك بقدوم نحو 3 مليون سائح بما يمثل نسبة 48% من السياحة المعتادة من عام 2018، وبالتالي تحقيق إيراد سياحي بنحو 900 مليون دولار، بافتراض نجح مصل فعال لعلاج الفيروس، وإزالة دول العالم قيودها على الطيران الدولي في ظل استحواذ النقل الجوي على نحو 90 – 95% من السائحين وفقا لطريق الوصول، وقدوم السياح العرب إلى مصر حيث إن هذه الشهور هي المفضلة لديهم لزيارة مصر.
نقطة ضوء
يؤكد وزير المالية الدكتور محمد معيط، دائمًا أن مصر نقطة اقتصادية مضيئة في إفريقيا، فحجم تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لمصر العام الماضي سجلت ارتفاعا بواقع 11% إلى 9 مليارات دولار خلال عام 2019/2020. (النصف الثاني منه يتضمن الجائحة).
لكن بيانات البنك المركزي تشير إلى أن الرقم السابق ارتبط بالنصف الأول من العام المالي (يونيو 2019 ــ ديسمبر 2019) أي قبل ظهور الجائحة لأنه في النصف الثاني هبط صافي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر انخفض بمعدل 38.4%، ليقتصر على نحو 2.5 مليار دولار مقابل 4.1 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من العام السابق.
مصر خامس أكبر تمركز للأجانب
ورغم التراجع، لا تزال مصر خامس أكبر تمركز للأجانب وفقا لـ“دويتشه بنك” الألماني الذي أشار إلى نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي في تهيئة بيئة أداء الأعمال، ورفع كفاءة المالية العامة للدولة، وخفض معدلات الدين والعجز والتضخم، وتحسين أداء الجنيه مقابل العملات الأجنبية.
ويؤكد المركزي أيضًا، في تقرير حصلت “مصر 360” على نسخة منه، أن الاستثمارات بمحفظة الأوراق المالية بمصر تحولت لتدفقات إلى الخارج بلغت نًحو 7.6 مليار دولار، مقابل صافي تدفق للداخل بلغ نحو 10.1 مليار دولار خلال النصف الأول من العام المالي لكنها عادت مجددا في النصف الثاني.
وقال محمد حجازي، رئيس وحدة الدين العام في وزارة المالية، في تصريحات لوكالة بلومبرج، أخيرًا، إن استثمارات الأجانب في أذون وسندات الخزانة إلى 21.1 مليار دولار في منتصف أكتوبر من 10.4 مليار دولار في مايو الماضي,
ويؤكد خبراء أن مصر تقدم الآن للمستثمرين أعلى عائد حقيقي على الاستثمار في أدوات الدين المحلي على مستوى الأسواق الناشئة فبعد استبعاد نسبة التضخم يصل العائد إلى 8.5%، في ظل وجود فائدة عالمية لا تتجاوز الـ 1%، ما يجعل مصر مقصدا للباحثين عن الربح السريع.
أزمة البطالة
يجمع الخبراء على أن أزمة كورونا ستتسبب حتماً في خسائر في فرص العمل والدخل، مما يشكل ضغوطاً إضافية على رزق الأسرة المصرية، وتفاقم التحدي طويل الأمد المتمثل في خلق فرص العمل في مصر.
شهد الاقتصاد المصري، خلال الفترة من 14 فبراير وحتى 16 يونيو 2020، ارتفاع معدل البطالة إلى 9.6%، مع تأثر قطاعات كاملة بالوباء مثل السياحة والطيران، بجانب تعطل جزئي لأنشطة المطاعم و المقاهي، وغيرها بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
لا يتضح من الإحصائيات الرسمية ما إذا كانت معدلات البطالة المعلنة تعبر عن متعطلي القطاع الرسمي فقط، أم أنه تم احتساب متعطلي سوق العمل غير الرسمي؟ حيث تمثل العمالة غير الرسمية، فتقريبا 83 %من العاملين خارج القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام، كما أن 60.4%من العمالة غير الرسمية يعملون في القطاع غير الرسمي، بينما يعمل البقية 39.6% في القطاع الرسمي تحت ترتيبات غير رسمية أي دون عقود أو تأمينات؛ ومن ثم فإن لهم الوزن الأكبر على الإطلاق عند حساب معدل البطالة.
لكن الدكتور فخري الفقي، الخبير الاقتصادي، يقول إن برنامج الإصلاح الاقتصادي كان كلمة السر في تحقيق الاستقرار في المؤشرات الاقتصادية بمصر فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي ونسبة البطالة ومواجهة التضخم وعجز الموازنة واستقرار الاحتياطي النقد الأجنبي وسعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي.
واحتل الجنيه المصري المرتبة الأولى بين العملات الناشئة في تحقيق أداء أمام الدولار خلال الفترة من 30 يونيو 2017 وحتى 30 يونيو 2020، بمعدل 10.8% رغم تراجع الاحتياطي النقدي، وفق بيان عممه مجلس الوزراء على الصحف المصري في أغسطس الماضي.
وأكد الفقي ، لـ”مصر 360″ أن وزارة المالية نجحت في السيطرة على عجز الموازنة وتحقيق فائض أولي بجنب معاودة الاحتياطي النقدي الارتفاع من 36 مليار دولار إلى 39.22 مليار دولار أميركي رغم الجائحة، وفي الوقت ذاته تحسن أداء الجنيه المصري، وكلها مؤشرات جيدة رغم وباء كورونا.
روشتة إصلاح
يقدم البنك الدولي روشتة للحكومة المصرية للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وثبات السياسات العامة، وتحفيز الإدخار المحلي بهدف تمويل الاستثمارات، وتهيئة البيئة المواتية لخلق فرص جاذبة للاستثمارات المحلية والأجنبية، وتطوير رأس المال البشري وتعزيز قدرات الشركات، من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب المهني والتدريب أثناء العمل، وكذلك اعتماد معايير الجودة في الإنتاج وتقديم الخدمات، وذلك لتسريع مسار عملية التحول الاقتصادي، وتحسين قدرة البلاد على الصمود في وجه مثل هذه الصدمات الشديدة.
وثبتت المؤسسات الثلاث ثبتت التقييم السيادي والتصنيف الائتماني لمصر مع نظرة مستقبلية مستقرة، موضحًا أن مؤسسة ستاندرد آند بورز في تقريرها الأخير أبقت للمرة الثانية خلال 6 أشهر في عام 2020 على التصنيف الائتماني لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية عند مستوى “B” مع نظرة مستقبلية مستقرة للاقتصاد المصري
وطالب المجلس المصري للشئون الخارجية، الحكومة بالنظر في نظام جديد تمامًا بمصادر جديدة للإيرادات والإنفاق العام بأولويات جديدة تؤدي فيها الدولة دورًا أكبر في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وتوطين الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية دون إزاحة القطاع الخاص .
وأكد المجلس أن استثمارات القطاع الخاص والعام في التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي وتوطين الصناعة هي المفتاح لتحديث الاقتصاد المصري. حان الوقت لاتخاذ إجراءات جريئة لإيجاد حلول رقمية التي مهدت لها أزمة كورونا.