“ربيع بيروت، حين يزهر إنما يعلن أوان الورد في دمشق”. رغم أن هذه العبارة المنسوبة إلى الصحفي اللبناني، سمير قصير، والذي اغتيل في العام 2005، تحولت من فرط استخدامها، والمبالغة في ترديدها إلى كليشيه، لكنها تفصح عن جملة حقائق سياسية وتاريخية، وكذا تعقيدات إقليمية وأمنية، ربطت العلاقة بين سوريا ولبنان، على مدى عقود.
الوصاية السورية
بين عامي 1976 و2005، بدأ ما يعرف بـ”زمن الوصاية السورية” على لبنان، إبان دخول الجيش السوري إلى بيروت أثناء الحرب الأهلية؛ الأمر الذي نجم عنه تشكل ذاكرة متخمة بالأحداث والمواقف المتفاوتة، سياسياً وميدانياً، والتي مازالت تداعياتها وآثارها قائمة، بينما تضغط على مستوى وشكل العلاقات، سواء الرسمية أو الشعبية، بين البلدين.
حفل العام 2005، في لبنان، بحوادث اغتيال دموية عديدة، لم تنته حتى العام 2013، وقد حصدت نحو 15 شخصية سياسية وإعلامية، جرى استهداف غالبيتهم من رموز قوى “14 آذار”، التحالف السياسي الذي ضم معارضي الوجود السوري في لبنان، ورفض هيمنة العناصر الموالية له داخل الأجهزة الأمنية والسياسية للدولة.
دُشن التحالف المعارض للوجود السوري بلبنان، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في العام ذاته، والذي شهد تنفيذ عمليات اغتيال وتصفية آخرين، من بينهم الصحفي اللبناني، بعدها بنحو أربعة شهور، ورئيس تحرير جريدة النهار، جبران تويني، والقيادي الشيوعي، جورج حاوي، إضافة إلى عناصر أمنية أخرى، كانوا ضمن فريق جمع المعلومات والأدلة في قضية مقتل رئيس وزراء لبنان.
اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، مثّل لحظة مفصلية، ترتبت عليها جملة متغيرات هائلة، في لبنان كما في الإقليم، فانتهى زمن “الوصاية السورية”، لكن ظل المشهد السياسي في لبنان مأزوماً ومرشحاً للانفجار، أغلب الوقت، في ظل التمثيل السياسي الطائفي الحاكم، منذ انتهاء الحرب الأهلية.
المحكمة الدولية الخاصة بلبنان
وأعلن مجلس الأمن الدولي قراره بتشكيل لجنة تحقيق دولية في عملية الاغتيال، بناء على مشروع تقدمت به الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وتم تكليف القاضي الألماني، ديتليف ميليس، برئاسة وإدارة التحقيق، الذي كان الحلقة الأولى في سبيل تدشين المحكمة الخاصة بلبنان، لمتابعة قضية الاغتيال، في يونيو العام 2007، تحت الفصل السابع للأمم المتحدة، وذلك بعدما امتنع حزب الله عن الموافقة على طلب الحكومة اللبنانية بخصوص توقيع الاتفاقية مع الأمم المتحدة، لإجراء المحاكمة الدولية.
في مارس العام 2009، بدأت المحكمة أولى جلساتها العلنية، في لاهاي بهولندا، وأصدرت أحكامها القضائية، في النصف الثاني من العام الحالي، بعد نحو 15 عاماً من التحقيق.
وفي أغسطس الماضي، وخلال جلسة النطق بالحكم في قضية اغتيال الحريري، أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أنه “ليس هناك دليل” على تورط سوريا وحزب الله في الاغتيال.
بيد أن المحكمة الدولية، ذكرت في حيثيات حكمها، أن “سوريا وحزب الله ربما كان لديهما دوافع للتخلص من الحريري وبعض حلفائه السياسيين”. لكن “ليس هناك دليل على أن قيادة حزب الله كان لها أي دور في اغتيال السيد الحريري، وليس هناك دليل مباشر على تورط سوري فيها”.
المتهم باغتيال الحريري.. فرد أم حزب؟
ورغم ذلك، قالت القاضية ميشلين بريدي، في جلسة المحاكمة إن “المتهم الرئيسي في قضية اغتيال الحريري كان عضواً في جماعة حزب الله، واستخدم هاتفاً محمولاً يقول ممثلو الإدعاء إنه كان محورياً في الهجوم”.
وحددت القاضية وهي تقرأ ملخصاً للحكم، الصادر في 2600 صفحة، أن المحكمة الخاصة بلبنان “مطمئنة بدرجة لا تدع مجالاً لشك منطقي، إلى أن الأدلة تظهر أن سليم عياش استخدم الهاتف، كما أن الأدلة تؤكد أيضاً انتساب السيد عياش لحزب الله”.
من هو سليم عياش؟
سليم جميل عياش واحد من أربعة أعضاء في حزب الله حوكموا غيابيا بالضلوع في اغتيال الحريري. والثلاثة الآخرين هم: حسين عنيسي، حسن حبيب مرعي، أسعد صبرا. وجهت المحكمة الاتهام للرباعي بالاشتراك في مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي، بحسب ما جاء في قرار الاتهام.
معلومات قليلة متاحة في الصحف والمواقع العالمية عن عياش، تقتصر على أنه لبناني، ولد في قرية حاروف، جنوبي لبنان، عام 1963، وبالطبع لا يعرف مكانه، إذ رفض حزب الله تسليمه للمحاكمة.
وخلال المحاكمة، قال الإدعاء إن “الحريري اغتيل لأنه كان يمثل تهديداً خطيراً للنفوذ السوري في لبنان، والذي تنخره الانقسامات الطائفية والسياسية، وترتبط قواه السياسية بدول خارجية”.
وإلى ذلك، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، قبل نحو أسبوع، خمسة أحكام، تقضي بالسجن مدى الحياة على سليم عياش.
وقال قضاة في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي، إن “عياش لعب دوراً مركزياً في التفجير الذي وقع، في بيروت، العام 2005، وأودى بحياة الحريري”. وبدوره، ينفي حزب الله أي ضلوع له في الحادث.
والتهم الموجهة بحق عياش هي “ارتكاب عمل إرهابي، واستعمال أدوات متفجرة، والقتل العمد لرئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، وقتل 21 شخصاً عمداً، باستعمال مواد متفجرة، والشروع في قتل 226 شخصاً آخرين”.
وعليه، أوصت المحكمة الدولية الحكومة اللبنانية بإنشاء برنامج قانوني مستقل وحيادي لتعويض المتضررين من الجرائم في لبنان، بحيث تطبق فيه مبادئ العدل الأساسية المتعلقة بضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة.
حزب الله يرفض تسليم عياش
كما طالبت الجهة ذاتها الحكومة في لبنان، بإنشاء صندوق ائتماني خاص بالمتضررين من الاعتداءات، ويمكن أن يتولى رئيس قلم المحكمة، وأمناء دوليون، إدارة الصندوق الذي قد تموله جهات مانحة دولية.
ورغم صدور مذكرة توقيف جديدة، وكذا مذكرة توقيف دولية، تقتضي بتوقيف عياش والقبض عليه، لتنفيذ العقوبة، يرفض حزب الله تسليمه.
تختلف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ما يتصل بأحكامها القضائية، عن أحكام القضاء اللبناني؛ فالأخير يصدر أحكامه بالإدانة ويقرر العقوبة، ومن ثم، تنفيذها، في نفس التوقيت، حسبما يشير وزير العدل اللبناني السابق، أشرف ريفي في حديثه لـ”مصر 360″.
المحور السوري اللبناني وراء اغتيال المعارضة
ريفي الذي الذي شارك في التحقيقات الدولية، وتولى مهمة جمع الأدلة والمعلومات، حيث كان ضابط الارتباط بين “لجنة فيتزجيرالد” والدولة اللبنانية أوضح في حديثه: “رغم الإدانة الصادرة من المحكمة الدولية بحق سليم عياش، باعتباره أحد المتهمين الذي أثبتت كافة الأدلة تورطه في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، إلا أنها لا تتهم، بصورة مباشرة، حزب الله. رغم أن الأخير هو الجهة المدبرة والمخططة للعملية، بينما عياش هو الذراع الذي نفذ، كما أن سياق التحقيقات الدولية الموثقة يشير إلى أن قاتل الحريري هو الجهاز الأمني أو العناصر الأمنية في حزب الله، ولدي ما يكفي من أدلة لتدعيم ذلك”.
ويردف ريفي الذي شغل منصب المدير العام لقوى الأمن الداخلي (وزير الداخلية)، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، بيومين فقط، أن الجهة التي تورطت في قتل الحريري تتمثل في المحور السوري الإيراني، ومن ثم، كان حزب الله وعناصره الأمنية الذين توافرت لهم المعلومات والدعم اللوجيستي، بمثاب الأدوات التي تحركت للتنفيذ”.
وبحسب الوزير اللبناني السابق، فإن الجهات والأطراف ذاتها التي اغتالت الحريري، هي من تقف وراء اغتيال العناصر المسؤولة عن التحقيق في القضية، ضمن فريقه الأمني الذي شكله، أثناء تولي منصبه كمدير عام قوى الأمن الداخلي اللبناني. حيث تعرض اللواء وسام الحسن، رئيس شعبة المعلومات للاغتيال، في العام 2012، وكذا الرائد وسام عيد في الشعبة ذاتها، اغتيل في العام 2008، بواسطة عبوة ناسفة، والأخير هو الذي تمكن من اكتشاف شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله، والمسؤولة عن التفجير الذي حدث، ومن ثم، تحديد موقعها في الضاحية الجنوبية، وكذا تحديد هوية الأفراد المتهمين”.
عملاء إسرائيل.. حجة الحزب الباقية
ويتابع: “الأدلة والمعلومات التي استندت إليها المحكمة الدولية في قرارها بإدانة المتهمين، وتحديداً سليم عياش، يعد اللواء وسام حسن، والرائد وسام عيد، هما من كشفا عن خيوطها الأساسية، وذلك عبر رصد وتعقب شبكة الاتصالات الهاتفية التي تمت الاستعانة بها في التفجير ومراقبة الحريري، ثم تحليل العلاقة بينها”.
كيف اغتيل رفيق الحريري؟
“تمكن عيد من الحصول على أرشيف المكالمات التي تمت من الهواتف المحمولة، من شركات الاتصال اللبنانية، والتي تمكنت من تسجيلها أبراج الاتصال المحيطة بفندق سان جورج، القريب من ساحة الشهداء، التي حدث فيها تفجير موكب رفيق الحريري”، يقول ريفي.
ويلفت إلى أن الحريري خضع لعملية مراقبة، لفترة لا تقل عن شهرين، حيث تم تحديد اتصالاً جرى من منطقة البقاع، بواسطة رقم هاتف في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان ذلك هو الطرف الذي كشف عن باقي الأجزاء في القضية، ومن ثم، تحديد هوية الأفراد المتهمين، مع الوضع في الاعتبار أن شبكة الهواتف التي استخدمت في التفجير، وتعقبت تحركات الحريري، تم إغلاقها تماماً، عقب التفجير، وانمحت آثارها.
ويؤكد الوزير اللبناني السابق في حديثه إلى “مصر 360” أن تلك المعلومات التي تحولت إلى ملف كامل عن القضية، وثق مراحلها، وحدد نتائجها، بدقة، بينما قدمه إلى المحكمة الدولية التي اعتمدت عليه في تحديد وإدانة المتهمين، أبلغ به، منذ اللحظة الأولى، سعد الحريري، في العام 2006، وذلك عندما توصل الرائد وسام عيد إلى طرف الخيط الأول بخصوص ارتباط عناصر أمن في حزب الله في عملية مراقبة رئيس وزراء لبنان السابق، ثم استهداف موكبه، وسط بيروت، وهو ما جعل الحريري (الابن) يتصل بأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، لإطلاعه على ما ورد إليه، ليجيبه الأخير بعد ذلك أن شبكة الاتصالات التي جرى رصدها كانت تتعقب عملاء لإسرائيل.