خلال العقد الأخير من القرن الـ19، لم يكن الانتقال من حي لآخر سهلاً في القاهرة. ليس فقط لأن الحمار كان وسيلة انتقال الناس للأماكن القريبة. والقطار كان للسفر بين المحافظات. بل لأن الشوارع كانت مملوءة بالحفر وأكوام الفضلات. وظل الوضع على ما هو عليه إلى أن دخل الترام شوارع العاصمة.
كانت شوارع القاهرة في حال يرثى لها من حيث النظافة حتى 1900. وبحسب كتاب (ترام القاهرة) للكاتب سيد كيلاني، فإن اللورد كرومر كتب تقريرًا ذكر فيه أن شوارع العاصمة -وقدرت حينها بنحو (2,7 مليون مترًا مربعًا)- رُصف منها بالحصى (1,3 مليون مترًا مربعًا) والباقي من شوارع بقي غير مستوية على حاله منذ سنين. وأحد الأمور التي صعبت مهمة كنس الشوارع أن السكان كانوا يطرحون فضلات بيوتهم في الشوارع يوميًا، وفق الكيلاني.
كان يطرح من البيوت يوميًا ما يزن 900 طنًا من الفضلات. وكانت مصلحة الكنس والرش ترفع 356 طنًا كل يوم، بينما خدمة الحمامات تزيل 226 طنًا. في حين كان يترك ما يتبقى بالشوارع. أي نحو 318 طنًا وربما أكثر.
المؤرخ عباس الطرابيلي ذكر في كتابه “أحياء القاهرة المحروسة”، أن العاصمة لم يدخلها نظام توزيع لمياه الشرب حتى بداية القرن العشرين. أيضًا لم يدخلها أي نظام آخر للصرف الصحي. وكانت المخلفات تتسرب إلى مياه البرك، ما ساعد في انتشار التيفود وأنواع عديدة من الأمراض. وكانت هذه المجارير كثيرًا ما تطفح في الشوارع والحواري. فارتفع منسوب المياه الجوفية وهدد البيوت.
في العام 1892، تألفت لجنة للنظر في وضع مشروع مجاري القاهرة. وكتبت هذه اللجنة تقريرًا وصفت فيه وضع المصريين السيئ بتخلصهم من فضلاتهم عبر خزانات مقامة تحت المنازل (الطرنشات). وهي خزانات ينصرف قسم منها في الأرض وينزح آخر حال الضرورة. وبقي ذلك الوضع حتى تأسست شركة نزح المواد البرازية سنة 1887. وكانت تصنع السماد من المواد العضوية. فضلاً عن عملها بنزح “الطرنشات“.
الترام.. شرارة الثورة الحضارية
في العام 1893، أعلنت الحكومة المصرية رغبتها في مد خطوط للترام بالعاصمة. وحصل المهندس البلجيكي البارون إمبان على امتياز إقامة شبكة مواصلات بالترام في القاهرة في ديسمبر 1894.
كان الاتفاق ينص على إقامة ثمانية خطوط ترام، من بينها ستة خطوط تبدأ من ميدان العتبة الخضراء. فكانت تلك الشرارة الأولى لانتقال القاهرة إلى التحضر.
سير الترام في الشوارع يوم 12 أغسطس 1896 كان حدثًا هز المحروسة. حينما أجرت شركة الترامواي تشغيل تجريبي لأول قطار كهربائي في القاهرة. وحضر هذا الإعلان بتشغيل وسيلة المواصلات الجديدة هذه حسين فخري باشا ناظر الأشغال (وزير النقل)، وبعض كبار المسؤولين.
سارت العربة من بولاق مرورًا بالعتبة. ثم سلكت شارع محمد علي وصولاً إلى القلعة، حيث اصطف المصريون على طول تلك المسافة لمشاهدة الاختراع الجديد. وأطلق الأطفال لقب “العفريت” على هذا الاختراع الذي شاهدوه لأول مرة. وكانت الأحاديث حول هذا العفريت المسير بالجن شائعة بين أحياء المحروسة.
اقرأ أيضًا: “قوة التمصير”.. المحروسة ملهمة المبدعين وحاضنة المثقفين
في ذلك الوقت، ضمت خطوط سير الترام: “الأول يتجه إلى القلعة، والثاني إلى بولاق، والثالث إلى باب اللوق، فالناصرية، والرابع إلى العباسية عن طريق الفجالة، والخامس إلى مصر القديمة، والسادس إلى فم الخليج إلى الروضة، ثم ينتقل الركاب بزوق بخاري إلى الشاطئ الآخر يستقلون قطار إلى الجيزة، وهذا هو الخط سابع، والثامن يبدأ من ميدان قصر النيل ويسير موازى لترعة الإسماعيلية إلى قنطرة الليمون”.
نقلة عمرانية في شوارع القاهرة
بالطبع غير الترام من وجهة نظر السكن لدى الميسورين الذين كانوا يألفون السكن في الحواري الضيقة ويفضلون الإقامة في الأزقة المسدودة، ويدفعون الثمن الأعلى في آخر بيت منها لبعده عن الحركة والضوضاء، إذ أصبحت الرغبة في السكن في الشوارع الواسعة والاقتراب من الميادين، بعدما ساعد الترام على التنقل من حي إلى آخر في دقائق. بحسب “كيلاني”.
في ذلك الوقت، كان البارون إمبان يصمم مدينة جديدة بعيدًا عن القاهرة، وتشجيعًا للناس على السكن في مصر الجديدة، مد خط إلى مدينته الجديدة، وعلى إثر امتداد خطوط الترام في أجزاء القاهرة، حدثت نقلة حضارية فريدة من نوعها تسببت في ثراء بعض المصريين نظرًا لارتفاع أسعار الأراضي القريبة من خطوط الترام كما ساهمت أيضا في انتشار العمران في المناطق المحيطة.
نجاح تجربة شركة الترام، ساعد على بدء تجارب أخرى، وتألفت شركة بلجيكية أخرى للإضاءة الكهربائية في نهاية سنة 1896 وشرعت منذ أوائل سنة 1897 أن تمد المنازل بالتيار الكهربائي، كما تلى ذلك تأسيس شبكة صرف صحي للقاهرة بدأت 1906 واكتمل المشروع 1914.
اكتمل المشروع وأصبحت أحياء القاهرة مرتبطة ببعضها، ودخل خطان جديدان إلى الخدمة في الوقت الذي وصل تعداد المحروسة إلى 12.5 مليون نسمة، فبحسب أندريه ريمون في كتابه “القاهرة وتاريخ حاضرة” فإن أطوال الخطوط شبه النهائية بلغت 65 كيلومترًا، وأضحى الانتقال من طرف القاهرة إلى وسطها خلال ساعة واحدة، حتى أن خطوط الترام نقلت 75 مليون راكب خلال العام 1917.
“القيامة اقتربت بفساد الشباب”
قبل الترام عاش سكان أحياء القاهرة حياة هادئة منعزلة. كل حي منغلق على ذاته. وبحسب “الكيلاني” كان يصعب على سكان العباسية الذهاب إلى مصر القديمة إلا لأمر هام، كما أن التجار وأصحاب الحرف كانوا يتخذون محلاتهم في الحارات التي يسكنونها أو قريبًا منها لعدم السير، وكان ينصرف التلميذ الذي لا يجيد مدرسة في حيه في الغالب عن الدراسة، وقد ظلت الحالة على ذلك حتى ظهر الترام.
آثار الترام إعجاب المصريين، لأنه كان وسيلة انتقال شعبية رخيصة، وكان سعر تذكرة الركوب 6 مليمات للدرجة الأولى و4 للدرجة الثانية. كما أنه كان سريعًا في الانتقال من حي إلى آخر، حينها لم توجد سيارات تزحم الشوارع، فضلاً عن ذلك عمله من من السادسة صباحا إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ما ساعد على إنعاش الحياة الليلية في القاهرة.
اقرأ أيضًا: القراءة الفوتوغرافية للتاريخ
لكن من جهة أخرى، بدأ الخطباء على المنابر في تحذير الناس من عواقب ظهور الترام وينذرونهم باقتراب موعد القيامة، وأن يبدوا في الامتناع عن شهواتهم قبل أن يدركهم الموت، وذكرت صحف المقطم والمؤيد أن الترام ساعد على سهر الشباب في الخمارات والمقاهي إلى ساعات متأخرة، وأن الترام السبب في فساد أخلاقهم، كما أنه ساعد على تفكك الأسرة.
الشباب يوقع الفتيات بمخالبه
سهولة التنقل التي حدثت في القاهرة خلال أقل من عقد، غيرت كثيرًا في المجتمع القاهري خاصة في السهر ليلاً، الذي رصده شاعر النيل حافظ إبراهيم في “ليالي سطيح” الصادر 1906. حينما قال: “إن الفساد سرى في الأخلاق خذوا مضاجعكم إذا طر شارب الظلام، وأهجروها إذا تنفس الصباح؛ ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم”، كما قال إن هجر المنازل تسبب في انحلال روابط الأهل والأقارب :”ألف الناسَ الجلوس في المنتديات فتناكر الأخوان، حتى إنهم ليوحشون ديارهم لقلة زوارهم، وأصبح المرء في داره حاضرًا كالغائب، مقيما كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه من حال القريب منه”.
مر عام، ووصف مصطفى لطفي المنفلوطي في “النظرات” الصادر 1907، أخلاق الشباب وقتذاك بالفاسدة. ووسم فصلاً كاملاً باسم الآداب العامة، شارحًا كيف تبدلت إلى الأسوأ، وأصبح الشباب يوقع الفتيات “بمخالبه”، ويمسك عليها صور شخصية ومراسلات موقعة بخطوطهن ليملكوا أمرهن بعد ذلك.
وقال المنفلوطي: “أصحيح أنكم لا تكتفون بإفساد نفوسهن وضمائرهن حتى تفسدوا عليهن عقولهن وصحتهن، فتشركوهن معكم في شرب الخمر وتناول المخدرات سائلها وجامدها، فلا تلبث أن تنتهي حياتهن بما تنتهي به حياة جميع النساء الساقطات اللواتي يلفظن أنفاسهن الأخيرة في أقبية الحانات، أو بين جدران المواخير”.
أول محل يدخله الخديوي في مصر
ساعد وجود الترام على اتساع حركة العمران ونشطت الحركة التجارية، ونشأت المحلات الكبرى لتجارة التجزئة في ميدان العتبة الخضراء، والجهات المجاورة له، وظهرت قيمة الإعلانات التجارية حينها.
وبدأت الإعلانات في الصحف تنشط، فالتاجر يعلن بضاعته وهو على يقين بأن الناس يفدون عليه من أنحاء العاصمة بعد أن سهل لهم الترام سبل التنقل، فكان أحد الإعلانات التي نشرت في صحيفة المقطم (8-12-1899) إعلانًا عن محل مرطبات. وكان نصه “إن محل سباتس تجاه حديقة الأزبكية، مستعد لبيع كافة أصناف المبردات الخالية من الغش، المرشحة بمرشحات باستور، ومن يتعاطاها يسر بها بكل سرور”.
لعلّ أكثر المحال التي حظيت بزيارة الخديوي عباس، كان محل “آل مدكور” في 7 ديسمبر 1896. حينها دخل الخديوي وطاف بأركان المحل، وأشاهد أنواع البطائع في كل قسم، وقال لحسن مدكور :”إن هذه أول مرة يدخل فيها خديوي مصر محلا تجاريًا في القطر المصري، وقصد بهذه الزيارة التشجيع على تنمية روح التجارة الوطنية”.
أضرب عمال ترام القاهرة، نتيجة سوء أوضاعهم. إذ جلس العمال على الخطوط في مخزن شبرا والعباسية والجيزة في أكتوبر سنة 1908. وكانت مطالبهم تنحصر في أن تكون مدة العمل 8 ساعات بدلاً من 13، وزيادة المرتبات والحصول على حقهم في الإجازة الاعتيادية والمرضية، وأن يمثلوا في اللجنة التي توقع الجزاءات عليهم وعدم جواز فصل العامل إلا بناءً على أسباب معقولة. وأن يعفي العمال من دفع البدل والأحذية والشنط والنمر النحاسية التي تصرفها لهم الشركة. وكانت بداية في الحراك العمالي الذي انتشر فيما بعد لباقي المهن.
القاهرة تتخلى عن الترام
في 2014، رصد البنك الدولي إهدار حوالي 120 مليار جنيه سنويا (8 مليارات دولار) في القاهرة الكبرى بسبب المرور. وتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 270 مليار (18 مليار دولار) بحلول عام 2030.
وانتقد التقرير ضعف العائد الاقتصادي للترام في القاهرة. وأرجع ذلك إلى قلة الإعلانات، والتباطؤ في إعادة التأهيل. كما ذكر التقرير ضرورة مساهمة القطاع الخاص في تكاليف التطوير.
منذ عقد كان مختطًا أن يطوّر الترام ويتم إدخال ترام سريع مع التقليدي، ففي مايو 2010، نشرت “رزواليوسف“، ملامح مخطط تطوير وسائل المواصلات في القاهرة، وكان ضمنها إدخال خدمة الترام السريع، على أن تنفذ 3 خطوط بطول إجمالي قدره 53 كم على نفس المسار المتقدم بواسطة مترو مصر الجديدة وترام هيئة النقل العام.
وكانت الخطوط المفترض إنشاءها “الخط الأول، ويمتد من ميدان رمسيس إلى مدينة نصر، وينتهى فى القاهرة الجديدة، والثاني يربط بين العتبة والنزهة، والخط الأخير سيصل هليوبوليس ومدينة نصر بشارع بورسعيد، حيث يمثل نقاط التقاء مع الاتوبيس والمترو”.
في الوقت الذي تحتفظ سان فرانسيسكو الأمريكية، بالترام الذي افتتح عام 1892 ويعمل حتى اليوم بكفاءة ويعد أحد أشكال هوية المدينة، انتهت رحلة ترام القاهرة حينما أهم خطوطه خط (الفجالة –الظاهر) بدعاوي توسعة الطريق والتخلص من الزحام المروري في تسعينيات القرن الماضي، ولحق ذلك إزالة ترام المطرية 2015 وكان السبب توسعة الشوارع، وضعف إقبال المواطنين عليه، وأخيرا ترام مصر الجديدة في العام 2019 للأسباب السالفة. وبذلك طويت صفحة إحدى أشهر وسائل المواصلات في القاهرة وصاحبة شرارة التحضر ولم يبق منه إلا عربة في متحف البارون بمصر الجديدة.