.في صيف 1949، وقفت ثريا -سناء جميل- أمام لجنة المعهد العالي للفنون المسرحية، تؤدي اختبار القبول في المعهد. بمشهد من مسرحية “كليوباترا” لأحمد شوقي، أبهرت الشابة الفاتنة اللجنة، فطلب منها الفنان الكبير زكي طليمات، وكان أحد أعضاء اللجنة، أن تقلب صفحة جديدة من الرواية وتؤدي مشهدًا آخر، قبل أن تجيبه بعدم إجادتها العربية.
لم تتردد اللجنة في أن تمنح ثريا خريجة مدارس “المير دي ديو” الفرنسية، جواز العبور للالتحاق بالمعهد. فموهبتها جعلتهم يتغاضون عن عدم استطاعتها القراءة بالعربية.
رحلة مع المعاناة والفن
طارت ثريا إلى منزل خالتها بغمرة، حيث كانت تعيش مع أخيها. أخبرت الجميع أنها الآن طالبة بالمعهد العالي للفنون المسرحية. فكان الرد صفعة على وجه الفتاة من أخيها، وطرد من المنزل ليلاً.
لم يكن هذا المشهد هو الأكثر “دراماتيكية” في حياة ثريا يوسف عطا الله، التي ستُعرف لاحقًا بسناء جميل -كما اختار أن يسميها أستاذها زكي طليمات- القادمة من محافظة المنيا. فقبل 9 سنوات من هذا التاريخ، وضعها أهلها في مدرسة فرنسية/داخلية، واختفوا بعد أن دفعوا مصروفات الدراسة حتى المرحلة الثانوية. لم تر أحدًا من أسرتها إلا بعدها بسنوات. وهي الواقعة التي لم تُفصح سناء جميل عن تفاصيلها حتى وفاتها في مثل هذا اليوم من عام 2002.
ساكنة شبرا الخيمة
غادرت الفتاة منزل خالتها في غمرة بمحافظة القاهرة مطرودة باكية. ظلت تسير في شوارع القاهرة لساعات. لا تعلم إلى أين تذهب. حتى خطر في بالها أن تتصل بالفنان الكوميدي سعيد أبو بكر. والذي تعرفت عليه أثناء ترددها على المعهد العالي للفنون المسرحية. وكان أحد أساتذة المعهد. استضافها أبو بكر وزوجته في منزلهما إلى أن وجد لها زكي طليمات سكنًا في منزل للمغتربات.
بدأت سناء جميل الدراسة في المعهد. وأجادت خلال أشهر اللغة العربية. وكانت تعمل إلى جانب الدراسة في صنع المفارش وتطريزها، حتى تتمكن من الإنفاق على نفسها.
يحكي الناقد الفني طارق الشناوي، في أحد مشاهد الفيلم التسجيلي “حكاية سناء“ -سيناريو وإخراج روجينا بسالي- إنه عندما كانت سناء جميل مدعوة على العشاء في منزل الكاتب إحسان عبد القدوس مع زوجها الكاتب الصحفي لويس جريس، بعدما حققت قدرًا كبيرًا من الشهرة، وجدت مفرشًا على السفرة، كانت قد صنعته بيديها وباعته لأحد المحال. فطلبت من الزوجين عبد القدوس أن تستعيده.
في العديد من الأحاديث روت سناء كيف كانت تعيش لسنوات في فقر شديد بعد تركها منزل خالتها. حتى أنها سكنت في شقة في منطقة “أرض شريف” بشبرا الخيمة. واشترت “باجور جاز” و”كنكة” وسريرًا من أحد المزادات، ولم يكن معها من النقود ما يكفي لشراء مرتبة فاضطرت لفرش ملابسها على “مُلة” السرير حتى أصيبت بانزلاق غضروفي.
أدوار صغيرة
خلال دراستها بالمعهد العالي للفنون المسرحية، أدت سناء جميل العديد من الأدوار الصغيرة في السينما. كان أولها في فيلم “طيش شباب” في عام 1951، و”آدم وحواء” و”وزينب” عام 1952. واستمرت في أداء هذه الأدوار الهامشية بعد تخرجها من المعهد عام 1953. فاشتركت في أفلام “بلال مؤذن الرسول” و”أنا وحبيبي” في نفس عام تخرجها. و”كدت أهدم بيتي” و”مرت الأيام” عام 1954. و”الميعاد” و”أهل الهوى” عام 1955، إضافة إلى عديد من الأفلام الأخرى التي لم تحصل فيها على أدوار تمنتها.
“نفيسة” الأداء المبهر
في عام 1960، كانت النقلة الحقيقية في مشوار سناء جميل الفني. فقد اختارها رائد الواقعية صلاح أبو سيف لأداء دور “نفيسة” في رائعة نجيب محفوظ “بداية ونهاية”.
“نفيسة” هذا الدور المحوري في فيلم “بداية ونهاية” حصلت عليه سناء جميل بعدما رفضته الفنانة فاتن حمامة خوفًا من طبيعة الدور. وهو ما أعطى للفنانة الشابة بعد عشر سنوات من مشوارها الفني الفرصة لكي تتفجر طاقاتها الإبداعية. استطاعت سناء بأدائها الدرامي المبهر أن تخطف الكاميرا من نجوم كبار مثل أمينة رزق وفريد شوقي وصلاح منصور.
نستطيع أن نرى هذا الإبهار في أداء سناء جميل في جميع مشاهدها بالفيلم. لكن أدائها مشهد الحبس هو القمة في العمل التمثيلي والإبداع والتجسيد.
يدخل شقيق نفيسة “التخشيبة” فتنتفض واقفة، ثم تهمس: “أخويا”. يخرج أمامها بينما تغني السجينات “يا حلوة يا بلحة يا مقمعة.. شرفت اخواتك الأربعة”. تستند نفيسة على باب التخشيبة تجر قدميها. تنظر خلفها فتجد السجينات ما زلن يتهكمن، وأمامها أخيها ببذلته “الميري” ومصيرها المجهول يتعلق بقدميه.
كانت خطوات سناء جميل الفنية تنطق بعظمة الأداء، ظهرها المنحني ورعشة ذراعيها من الخلف، وأسلوب سيرها خلف أخيها خارج القسم مطأطئة الرأس عاقدة يديها أسفل صدرها. رعشة شفتيها، انكفائها على وجهها بعدما صفعها على خدها. كل ثانية من أدائها كانت ممتلئة بعشرات التعبيرات. بالألم الذي تحمله الشخصية في أعماقها.
هذا الألم الذي تعرفه سناء جميل جيدًا كان رفيقها لزمن طويل. حتى صفعة الفنان عمر الشريف لوجهها، تلقتها قبل عشر سنوات من أخيها عندما أخبرته بالتحاقها بالمعهد. صفعة أفقدتها السمع بإحدى أذنيها.
اقرأ أيضًا: جميل راتب.. الأرستقراطي الذي فضل العمل مع محمد صبحي على عادل إمام
في عام 1964 اختارها المخرج يوسف شاهين لبطولة فيلم “فجر يوم جديد” في دور “نايلة” الأرستقراطية الأربعينية التي تقع في حب طارق الشاب الذي ينتمي إلى الطبقات الشعبية، ويصغرها بنحو 20 عامًا.
هذا الفيلم الذي طرح فيه شاهين عمق أزمة البرجوازية وفشل محاولات دمجها مع الطبقات الشعبية بعد ثورة يوليو 1952، كما كان يريد عبد الناصر. استطاعت سناء جميل خلاله أن تعبر بأدائها العظيم عن أعماق “نايلة” وعن الصراعات النفسية والإيديولوجية التي تمر بها كأحد رموز الطبقة البرجوازية.
يروي الفنان الكبير جميل راتب في الفيلم التسجيلي “حكاية سناء” كيف انبهر بأداء سناء جميل في دور “نايلة” أثناء عرض الفيلم في أسبوع الأفلام المصرية في فرنسا. فوجئ بأداء يفوق الممثلات العالميات، حتى أنه عندما طلبوا منه أن يقوم ببطولة سهرة تلفزيونية في مصر بعنوان ” الزيارة”، كان شرطه الوحيد أن يقف أمام الفنانة سناء جميل. يقول: “بالنسبة لي كانت متعة كبيرة أن أقف أمام هذه الفنانة العبقرية”.
تنوع الأدوار ومواصلة الإبداع
في عام 1968، يقع اختيار المخرج صلاح أبو سيف على سناء مرة أخرى. فتشترك في بطولة فيلم “الزوجة الثانية”، وتؤدي باقتدار شديد دور “حفيظة” زوجة العمدة أمام الفنان الفذ صلاح منصور. هذا الدور انتزعت به سناء جميل إشادات كبيرة من النقاد. كما أنه نال إعجابًا شديدًا من الجمهور.
ومن “الزوجة الثانية” إلى مئات الأدوار المتنوعة في السينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة، انطلقت سناء جميل تصنع مع كل دور إضافة جديدة. ليس فقط لتاريخها الفني بل لتاريخ فن التمثيل كله.
علاقة حب مع الجمهور
نسجت سناء جميل علاقة حب طويلة مع جمهورها بعشرات الأعمال التي اقتربت فيها بأدائها الصادق وخفة دمها ومصريتها الشديدة من هموم الناس ومشاعرهم. فنجد الجمهور يتعاطف مع تاجرة المخدرات التائبة في “حكمتك يا رب”، ويبكي معها وهي تجسد دور “الشاويش طلعت” التي تصطدم بدخول ابنتها السجن متورطة في قضية آداب، لتصبح سجانة عليها في “نساء خلف القضبان”
مع الفنان أحمد زكي في “سواق الهانم”، استطاعت “لطيفة هانم” أن تنتزع حب الجمهور رغم كونها تنتمي إلى بقايا الأسرة الملكية الكارهة لثورة يوليو. ربما برر هذا الحب وعززه خضوع “لطيفة هانم” في النهاية لمقتضيات العهد الجديد.
صدق التعبير
تظل جملتها “احنا صغيرين أوي يا سيد” في فيلم “أضحك الصورة تطلع حلوة” أصدق معبر عن لحظات الانكسار التي يشعر المواطن بها عندما يحاصره ظلم أصحاب المال والنفوذ.
يتحدث المخرج الكبير شريف عرفة عن هذا الصدق في أداء العظيمة سناء جميل في “أضحك الصورة تطلع حلوة”، فيتذكر مشهدًا جمعها بمنى زكي، من المفترض أن تبكي سناء جميل فيه عند جملة معينة. وهو مشهد تمت إعادته 14 مرة. يروي شريف عرفة كيف كانت تبكي سناء جميل في كل مرة في نفس التوقيت وعند نفس الجملة.
مع المسلسلات خاصة الأدوار الكوميدية، ارتبطت سناء جميل أكثر فأكثر بجمهورها، بداية من دور “الدكتورة رأفت” في مسلسل “عيون” مع الفنان فؤاد المهندس، و”ساكن قصادي”، و”اللعبة المجنونة”، و”أزواج ولكن غرباء”، إضافة للأدوار الدرامية في مسلسلات “خالتي صفية والدير”، و”البر الغربي” و”طرح البشر”.
لكن يبقى للدور الأكثر شعبية “فضة المعداوي” في مسلسل “الرايا البيضا” لأسامة أنو عكاشة بريق خاص في حياة سناء جميل الفنية. وذلك لعبقرية التجسيد والصدق الشديد الذي ادت به سناء جميل تلك الشخصية التي تعاكس تمامًا هذه الفنانة المثقفة التي تجيد الفرنسية وتفهم أصول الإتيكيت.
مشوار طويل من الصدق والإبداع خاضته سناء جميل واستمر أكثر من 50 عامًا. بداية من أول أعمالها عام 1951 وحتى بطولتها مسلسل “طرح البشر” عام 2002. وهو نفس العام، الذي توفيت فيه بعد أقل من ثلاثة أشهر من اكتشاف إصابتها بسرطان الرئة، لترحل فنانة نادرًا ما يجود الزمان بمثلها.