لم يكن العفو الذي أصدره الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، عن عناصر “بلاك ووتر”، الشركة الأمنية الأمريكية التي تواجدت بالعراق، في أعقاب الغزو الأنجلو أمريكي، سوى لحظة غضب وامتعاض قصوى، استعاد فيها العراقيون ذاكرة الحرب، ومحطاتها الصعبة، وقد حفلت بالعديد من الانتهاكات الحقوقية والإنسانية التي تورط فيها هذا الكيان الأمني الخاص.
مجرمون أم جنود بالوكالة
الشركة الأمنية الأمريكية التي رافقت جنود الاحتلال، في العراق، منذ عام 2003، تركزت مهامها في توفير الحماية الأمنية للمسؤولين الأمريكيين، المدنيين والدبلوماسيين والعسكريين، وكذا تأمين مقرات إقامتهم.
أدانت منظمات حقوقية، محلية وأممية، الممارسات التي نفذتها مجموعة “بلاك ووتر“، ومن بينها مجزرة “ساحة النسور”، التي وقعت في النصف الثاني من العام 2007، وهي الحادثة ذاتها التي وقفت وراء محاكمتهم، في واشنطن، حيث قضت المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها الأولية بأحكام مشددة بحقهم، ثم تم تحفيف الأحكام عنهم، قبل أسابيع قليلة، حتى أصدر ترامب قراره بالعفو عن العناصر الأربعة المتهمين.
كما صدرت الأحكام بالسجن مدى الحياة على العناصر المتهمة بقتل المدنيين، وذلك قبل أن تجرى إعاد المحاكمة، في أغسطس العام الماضي، ويتم تخفيف العقوبات إلى النصف أو دون ذلك.
وبينما أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، في العام 2017، أن هناك “أساساً معقولاً” لمثل هذه الجرائم التي وقعت في ساحة النسور ببغداد، إلا أنها عاودت الحديث، على نحو مغاير، وقالت إنها “لم تجد دليلاً على أن بريطانيا قامت بحماية جنودها من الملاحقة القضائية”.
ولذلك، قال عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية، علي البياتي، إن “القرارين المتتاليين يظهران أن هناك احتراما قليلاً لحقوق الإنسان في الخارج”، حسبما صرح لوكالة فرانس برس.
وتابع للوكالة الفرنسية: “هذا الأمر يؤكد مخالفة هذه الدول لمعايير حقوق الإنسان والقانون الدولي، كما أنهم يوفرون الحصانة لجنودهم مع أنهم يدعون حماية حقوق الإنسان”.
أحكام بالإدانة ومراوغات سياسية وجدل حقوقي
تواترت تقارير جمة عن الانتهاكات الجسيمة التي مارستها عناصر الشركة الأمنية الأمريكية، من قبيل إطلاق النار على المدنيين، لكن حاجة الجانب الأمريكي الملحة والضرورية إلى خدماتهم، حتمت مواصلة التعتيم على ارتكابهم لتلك الجرائم، حتى وقوع مجزرة ساحة النسور، في صيف العام ٢٠٠٧، حسبما يقول الباحث العراقي، منتظر القيسي.
ويردف القيسي لـ”مصر 360″: “أطلقت عناصر الشركة، الذين حضروا إلى موقع انفجار سيارة مفخخة على موكب دبلوماسي أمريكي، النيران بكثافة على المدنيين، بصورة عشوائية، بينما قاموا بإطلاق النار، عشوائياً، على المارة والسيارات، رغم عدم وجود أي تهديد فعلي”.
دخلت شركة بلاك ووتر إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وتركزت مهامها الأساسية في توفير الحماية الأمنية لكبار المسؤولين الأمريكيين، وتأمين مقرات إقامتهم، كما يوضح الباحث العراقي، فضلاً عن مرافقة قوافل الإمداد اللوجستي؛ بحيث وصل حجم عناصر الشركة إلى عشرات الآلاف، من مختلف الجنسيات، ما خفف العبء كثيراً عن القوات الأمريكية، وبقية قوات دول الائتلاف الدولي، لا سيما مع انفلات الوضع الأمني، وسيطرة الجماعات المسلحة، والمليشيات، والتنظيمات الإرهابية، على معظم أجزاء البلاد.
الدور الوظيفي لـ”بلاك ووتر”
ويلفت القيسي إلى أنه كانت هناك حالة من التعتيم المتعمدة في الإعلام الأمريكي، حول أعداد القتلى والجرحى من عناصر الشركة، والذي لا يعرف حجم عددهم الحقيقي؛ حيث تركزت التغطية الأمريكية على أرقام الخسائر البشرية، في صفوف القوات الأمريكية، فقط، رغم أنها سلطت الضوء كثيراً على الأدوار التي يلعبونها، والكلفة الباهظة من جراء الاستعانة بهم، إذ كانت أجور الفرد الواحد منهم، تبلغ في الحد الأدنى، نحو ألفي دولار يومياً، وترتفع في المهمات الخطيرة والحساسة، إلى ما يقارب ألفي دولار في الساعة.
منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية، وصفت نشاط الشركة الأمنية الخاصة، في بغداد، بأنها كانت بمثابة “فيلم رعب”، حسب توصيفها، حيث وثقت شهادات مجموعة من الضحايا والشهود الميدانيين، الذين تواجدوا في ساحة النسور أثناء وقوع الحادث الدموي، والذي نجم عنه مقتل 14 عراقياً، بينهم أطفال.
وأكدت المنظمة الحقوقية، أن سردية أحد الضحايا عن المجزرة التي وقعت، في صيف العام 2007، تدعم ما جاء في الروايات الرسمية، بما في ذلك نتائج تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالية، وخلصت إلى أن 14 على الأقل من الـ 17 قتيلاً في الحادث كان موتهم غير مبرر، بالإضافة لمعلومات صرح بها مسؤولون عسكريون، تخالف ما زعمته شركة :بلاك ووتر” من أنه قد تم إطلاق النار على حراسها، وأنها تعرضت للهجوم.
كما لم تسفر تحقيقات الحكومة العراقية عن أي دليل يشير إلى مزاعم الشركة الأمنية بخصوص استفزاز الحراس أو مهاجمتهم. ووصف الناطق الرسمي بلسان رئيس الوزراء، وقتذاك، نوري المالكي، الحادث بـ”القتل المتعمد”.
ما وراء “عفو” ترامب؟
تراوحت الانتقادات التي نجمت عن قرار ترامب بـ”العفو”، بين الرسمي والشعبي والحقوقي، كما أنها لم تقتصر على الدوائر المحلية في بغداد، إنما تجاوزتها إلى الدوائر الغربية الحقوقية. وهاجم عدد من أعضاء الحزب الديمقراطي بالولايات المتحدة الأمر ذاته.
انتقدت وزارة الخارجية العراقية، الأربعاء الماضي، قرار ترامب، وذكرت في بيان رسمي، أن “وزارة الخارجية العراقية تابعت القرار الصادر عن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب.. الوزارة ترى أن هذا القرار لم يأخذ بالاعتبار خطورة الجريمة المرتكبة، ولا ينسجم مع التزام الإدارة الأمريكية المعلن بقيم حقوق الإنسان والعدالة وحكم القانون، ويتجاهل بشكل مؤسف كرامة الضحايا ومشاعر وحقوق ذويهم”.
وأكدت الخارجية العراقية على أنها ستعمل على “متابعة الأمر مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عبر القنوات الدبلوماسية لحثّها على إعادة النظر في هذا القرار”.
ومن جانبها، دانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في النمسا، إصدار الرئيس الأمريكي العفو عن أربعة حراس أمن من شركة “بلاك ووتر” للخدمات الأمنية الخاصة، حيث “كانوا يقضون عقوبات بالسجن لقتلهم 14 مدنياً عراقياً، بينهم طفلان، في بغداد عام 2007، في مذبحة أثارت احتجاجاً دولياً على استخدام المرتزقة في الحرب”.
ووصف السيناتور الديمقراطي، كريس ميرفي، العفو الصادر بحق عناصر بلاك ووتر، بأنه “وصمة عار”، حيث إنهم “أطلقوا النار على النساء والأطفال رغم استسلامهم”.
واعتبر السيناتور الديمقراطي قرار ترامب الأخير محاولة جديدة منه، بهدف “الحد من أدوات الأمن القومي لجو بايدن. وسيضر هذا العفو بشكل كبير بالعلاقات الأميركية العراقية في لحظة حرجة”.
هل هي مجرد شركة أمنية؟
و”في الوقت الذي كانت فيه الشركة قد بلغت ذروة توسعها بفضل العلاقات المتينة التي ربطت بين مالكها، وبين رموز إدارة بوش الابن الأولى، مثل وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، ونائبه بول وولفويتز، ومكنه ذلك من مواصلة العمل مع الحكومة الأمريكية لكن مع تغيير اسم الشركة فقط، رغم المجزرة والمحاكمة التي طالت عناصر الشركة المتورطين فيها”. يقول الباحث العراقي لـ”مصر 360″.
إذ إن الشركة تمثل نموذجاً للشركات الأمنية الخاصة التي أسندت إليها الولايات المتحدة الأمريكية أدوراً مركزية، في المجالات الأمنية والعسكرية، منذ انطلاق الحرب على الإرهاب، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما يوضح القيسي، وبلغت ذروة نشاطها، أثناء فترة احتلال العراق، حين عهد إليها بمهام تدريب وحدات الجيش والشرطة وحماية كبار المسؤولين الحكوميين والشخصيات السياسية، وتأمين المواقع الحساسة، وحراسة قوافل الإمدادات اللوجستية، وتقديم الدعم الفني والتقني.
وعبر استقطاب عشرات الآلاف من أكفأ عناصر المؤسسات العسكرية عبر العالم، بفضل مغريات المرتبات المرتفعة التي تراوحت بين 400 إلى 1000 دولار في اليوم الواحد، كان يتم اختيار وتعبئة العناصر للشركة، مما ساهم في التخفيف من أعباء القوات الأمريكية، وتقليل الضغوط عليها، حتى في ما يتعلق بالإعلام الذي لم يكن يسترعي انتباهه أخبار الخسائر البشرية في صفوف عناصر الشركات الأمنية لكون أغلبهم من غير حملة الجنسية الأمريكية.
وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن فوز الشركة الأمريكية، في سنوات الاحتلال الأمريكي، بامتياز إدارة طريق الأنبار الدولي، لمدة خمس وعشرين سنة، والذي نافسته عليه أربع شركات أخرى، لم يأت بمحض الصدفة، كما يروي الباحث العراقي؛ فـ”الشركة التي كانت من بين أولى الشركات الداخلة إلى العراق، في معية القوات الأمريكية، العام 2003، تولت إلى جانب حماية السفارة الأمريكية في بغداد، تأمين القواعد التي ينتشر فيها آلاف المستشارين العسكريين الأمريكيين والغربيين، فضلا عن حراسة مواقع النفط والغاز التي تشرف عليها عمالقة شركات الطاقة العالمية، وكذا العديد من المنشآت الحيوية والشركات العراقية، التي باتت تشكل إحدى الأدوات الهامة لتنفيذ وإدامة النفوذ الأمريكي الأمني والاقتصادي في العراق”.