في العشرين من شهر نوفمبر الماضي، خرج معهد دراسات الشرق الأوسط بتصريح صادم للبعض ومألوف على آذان آخرين. التقرير وصف زعيم حزب الحركة الوطنية التركي المتشدد دولت بهجلي بـ”صاحب القرار الحقيقي والفعلي في تركيا“. على سبيل المثال صرح رئيس حزب المستقبل المعارض أحمد داوود أوغلو بأن بهجلي هو الشخص الذي تصالح معه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتمرير التعديلات الدستورية الجديدة. تلك التعديلات التي حولت نظام الحكم التركي إلى نظام “رئاسي” منحت مزيدًا من الصلاحيات لرئيس الجمهورية.
اقرأ أيضًا.. “الإخوان” و”أردوغان”.. التقارب مع مصر يطيح بأحلام الجماعة
لماذا التحالف بين أردوغان ودولت بهجلي في تركيا؟
بعد أن مر أكثر من عقدين على حكم الرئيس أردوغان بقبضة من حديد، بدى للبعض أن سياسته في الحكم حتمًا هي سياسة الرجل الواحد أو سياسة المنفرد بسلطته. كما أن الرجل هو صاحب القرار الأول والأخير في البلاد سواء على الصعيد القومي أو العالمي. لكن معهد دراسات الشرق الأوسط والذي يقع مقره في واشنطن، أكد أن أردوغان بنى دعائم لتأسيس نظام حكم “الرجل الواحد” لكنه تورط منذ عام 2015 وفقًا لما أخرجه المعهد من بيانات، في إدخال شريك معه في الحكم وإصدار أهم وأقوى القرارات في البلاد. في النهاية وصف المعهد نظام الحكم في تركيا بـ”حكم الرجلين”.
لكن لماذا وكيف بدأ هذا التحالف؟ الذي كان أحد طرفيه رجلًا يعتمد طوال الوقت على “الحلفاء” ليحصل على ما يريد، فهكذا كان يفعل أردوغان منذ تولي حزبه الحكم في عام 2002.
حينما تولى أردوغان السلطة بقيادة حزبه “العدالة والتنمية” عام 2002 تولى حكم دولة تسير وفقًا للنظام البرلماني في الحكم. طمح أردوغان إلى تهميش “النخبة العلمانية” خاصة الموجودة في صفوف الجيش، ما دفعه إلى الاعتماد على مجموعة من المحافظين كان منهم أنصار الرجل الذي تردد اسمه كثيرًا مؤخرًا “فتح الله جولن“، إلى جانب الاعتماد على “تكتل الليبراليين الأتراك” والديمقراطيين الاجتماعيين.
في هذا الوقت كان بهجلي المولود في الأول من يناير عام 1948 ببلدة “بهجي” بتركيا، والحاصل على شهادة أكاديمية في الاقتصاد السياسي بجامعة غازي بأنقرة، نائبًا لرئيس الوزارء الأسبق بولنت أجاويد منذ عام 1999. عُرف الرجل بعدائه الشديد للأكراد ووافق على إعدام زعيمهم “عبدالله أوجلان” عام 1999. سياسته العدائية ظلت قائمة حتى أصبح عضوًا في البرلمان التركي عام 2007.
في عام 2011 طمح أردوغان للصعود إلى حكم البلاد. كما أنه ظل متشبثًا بدعائم القوة المتمثلة في الأكراد والليبراليين. لكن هذا التحالف لم يفلح، فلم يجد أردوغان أمامه إلا التحالف مع “القوميين” والمتمثلين في الحركة القومية التركية. الحركة حزب يميني متطرف حصل عام 2017 على 14% من إجمالي أصوات البرلمان ويترأسه حتى الآن. الحزب يعارض بشدة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي متشبثًا بالبعد القومي للدولة التركية.
اقرأ أيضًا.. انتهاك جديد.. أردوغان يحول دير شورا التاريخي إلى مسجد
رئيس تركيا مستمر في دفع الضريبة
في عام 2015 حينما خسر حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان الأغلبية البرلمانية للمرة الأولى منذ عام 2002 حصل على 40.8% أي ما يعادل 258 مقعدًا. في الوقت نفسه طفا حزب الشعب الجمهوري المؤيد للأكراد على السطح وثبت قوته في البرلمان. كما أن تحالف أردوغان مع بهجلي ساعد العدالة والتنمية على استعادة الأغلبية في نوفمبر من العام ذاته. الرد كان حاسمًا من جانب بهجلي حينما شارك في دفع أغلبية قليلة من الناخبين للموافقة على استفتاء 2017 وأعطى أردوغان مزيدًا من الصلاحيات. كما أن الاستفتاء حول نظام حكم تركيا للنظام الرئاسي بدلاً من البرلماني.
أما في العام 2018 كان لبهجلي الدور الأكبر في فوز أردوغان بولاية ثانية. لكن ثمة مقابل أو ثمن على أردوغان أن يستمر في تقديمه لبهجلي. الأمر دفع بعض المراقبين لوصف بهجلي بالمسمار الأخير الذي يثبت حكم أردوغان، خاصةُ بعد سقوط جولن. أردوغان لم يكن أمامه إلا أن يتمسك بالقوميين أمثال بهجلي وجزبه. كما حاول جاهدًا ألا يثير غضب بهجلي وينفذ كافة طلباته، ما دفع بهجلي إلى أن يتدخل بصورة فجة وغير مُبررة. التدخل وصف بأنه أضاف مزيدًا من التناقض على سياسة أردوغان.
اقرأ أيضًا.. تركيا وإسرائيل.. الاتجار بالأزمات من أجل تعزيز العلاقات
الإفراج عن أخطر زعيم مافيا في تركيا
بعد أن هدأت الحرب بين أردوغان والأكراد في تركيا، والتي ظلت كالشوكة في خاصرة أي حكومة تركية منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصل إلى أوجه في عام 1984 في إطار السعي نحو تكوين دولة كردية مستقلة. ما أدى لمقتل عشرات الآلاف ولجوء الطرفين إلى هدوء مضطرب بعد أن جنح الأكراد إلى التحاور ووقف المطالبات بتكوين دولة مستقلة. أراد بهجلي تأجيج الصراع مرة أخرى بعد أن هدأ تمامًا عام 2013 بعدما دعا أردوغان زعيم الحزب “المسجون” أوجلان والذي أيد بهجلي إعدامه في نهاية التسعينيات إلى وقف إطلاق النار. لكن الصراعات طفت مرة أخرى على السطح بين الجيش والأكراد داخل تركيا وخارجها.
لم تكن تلك الضريبة الوحيدة التي دفعها أردوغان لبهجلي الذي أصر على أن يناصف أردوغان حكم البلاد. بهجلي دفع أردوغان لتمرير قانون في أبريل الماضي يسمح للقضاء بالإفراج عن أخطر زعيم مافيا وهو “علاء الدين كاكيشي” بحجة تخفيف الضغط على السجون التركية إثر تفشي الموجة الأولى من فيروس كورونا. وبموجب القانون أفرج عن 90 ألف سجين كان كاكيشي من بينهم بعد أن كان يقضي عقوبة سجنه لمدة 16 عامًا. هكذا كان كاكيشي على علاقة وطيدة ببهجلي بحسب ما نشرته “أسوشيتد برس”.
كاكيشي وجهت إليه عدة جرائم مختلفة على رأسها تأسيس منظمة إجرامية في داخل تركيا “تزعم جماعة مافيا” من شأنها إهانة اردوغان. قاوم أردوغان العديد من الضغوط التي مورست عليه من قبل جماعات المعارضة للإفراج عن هذا الرجل. لكن صدر الأمر من بهجلي ولم يستطع أردوغان أن يرفضه!
“ممتاز توركون” كان الاسم الثاني على قائمة العفو التي أمر بهجلي بتمريرها في أبريل الماضي. ممتاز كاتب صحفي في جريدة “زمان” اليومية كان يروج ويدافع عن زعيم المعارضة جولن بعد محاولة انقلاب يوليو الفاشلة. ولأن الصحفي هو الشقيق الأصغر لـ”مصطفى” عضو حركة “الذئاب الرمادية” الجناج العسكري للحركة القومية التركية الذي قُتل في السبعينيات على يد أحد أفراد التيار اليساري. كان هذا دافعًا لأن يكون له مكانة متميزة في الحزب.
ذراع بهجلي يمتد داخل دائرة صنع القرار في تركيا
في مساء الأحد 11 أبريل الماضي تقدم وزير الداخلية التركي “سليمان صويلو” باستقالته. الاستقالة جاءت بعد فشله في إدارة إجراءات العزل العام التي تم فرضها في البلاد إثر تفشي فيروس كورونا. كما قال في بيان رسمي عبر تويتر: “أرجو أن تعذرني أمتي التي لم أرد قط أن أسبب لها الضرر. ورئيسنا الذي سأكون وفيًا له دائمًا. أغادر منصب وزير الداخلية الذي كان شرف لي توليه”.
لم يتأخر أردوغان في التعليق رافضًا استقالة الوزير. كما خرجت الرئاسة التركية في بيان لها: “الرئيس رجب طيب أردوغان رفض قبول استقالة وزير الداخلية والوزير سيواصل مهامه”.
عدد من المراقبين أكدوا أن بهجلي ضغط لرفض الاستقالة. كما أن بهجلي معروف بتقديره واحترامه لـ”صويلي”. الأخير له سياسات صارمة ومتشددة تجاه الأكراد، وهي الجماعة التي لا يكن لها وزير الداخلية احترام. لكن ورغم انتقاد صويلو الدائم لأردوغان ومنافسته لصهره “بيرات البيرق” إلا أنه لم يستطع أن يوافق على قبول الاستقالة. كانت الاستقالة الدليل القاطع على تدخل بهجلي في شئون الحكم.
اقرأ أيضًا.. وثائق “نورديك”.. كيف دعمت إيران أردوغان والإسلاميين في تركيا؟
بهجلي يجبر أردوغان على البقاء في اتفاقية “تروج للمثلية الجنسية”
في الأول من أغسطس عام 2014 أنهي وضع بنود انفاقية “المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة” التي أبرمها الاتحاد مايو 2011 باسطنبول التركية. دخلت تركيا إلى المعاهدة مترنحة الخطى خاصة بعد الضغط الذي واجهه أردوغان من الجماعات الإسلامية للانسحاب منها بزعم أنها تروج للمثلية الجنسية. لكن بهجلي ظهر مرة أخرى وضغط على أردوغان للبقاء في المعاهدة ليظل أخيرًا ملتزمًا بها.
تحالف على وشك الانهيار
يأتي هذا بينما أظهر استطلاع للرأي أن خسائر الحركة القومية التركية بزعامة بهجلي بدأت في الاتساع والزيادة. حزب بهجلي بدأ في الترنح بعد أن حصلت على 6.5% في الانتخابات البرلمانية. الانخفاض الحاد بلغ حوالي 11% من النسبة الكلية التي حصل عليها الحزب في الانتخابات البرلمانية بشهر يونيو 2018. كما أن هذه المساعدة التي يقدمها بهجلي لأردوغان لم تمنع حزبه من الخسارة في الانتخابات المحلية في كبرى المدن.
في التاسع من ديسمبر الجاري، قال “كمال أوزكيراز” مدير مؤسسة أوراسيا التركية للاستطلاعات إن بهجلي الذراع الأيمن لحزب الحرية والعدالة، قد يتخلى عن المنصب خلال الفترة المقبلة. المشكلة التي ركز عليها الاستطلاع أن هذا التخلي يأتي في وقت يبحث فيه أردوغان عن حليف من الحركة القومية. في النهاية يأتي هذا في وقت يتردد فيه اسم منافسه “عزت أولفي يونتار” وهو نائب رئيس الحزب الحالي، كثيرًا داخل أروقة الحزب.