في وقت لا يزال البشر يتهاونون مع الأزمة الملحة لتغير المناخ رغم تداعياتها جاءت جائحة كورونا “كوفيد-19” لتكون بمثابة تذكير مؤلم للعالم بضرورة احترام الطبيعة. وإلا ستكون النتيجة حالة طوارئ عالمية تحرم البشر من الحياة بشكل طبيعي أو الحياة نفسها.
مع انتشار فيروس “كوف-سارس-2” وإصابته الملايين حول العالم، وحصده أرواح مئات الآلاف، خرج خبراء الصحة والبيئة بتحذيرات تدق ناقوس الخطر حول المزيد من التهاون في التعامل مع أزمة تغير المناخ. منذرة من مستقبل يمتلئ بسلسلة أوبئة لا تنتهي.
مناخ الأوبئة
رغم ما قالته منظمة الصحة العالمية حول عدم توفر أدلة تشير إلى وجود صلة مباشرة بين التغير المناخي وظهور أو انتقال مرض “كوفيد-19″، يمكن لتغير المناخ أن يزيد فرص ومخاطر انتشار الأوبئة. ومن بينها فيروس كورونا المستجد.
في كتاب صادر عن منظمة الصحة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية. وذلك تحت عنوان “تغير المناخ وصحة الإنسان: المخاطر والاستجابات”، تبين أنه في جميع أنحاء العالم اليوم، هناك زيادة واضحة في العديد من الأمراض المعدية. من بينها: فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والسارس، وفيروس هانتا.
هذا يعكس الآثار المجتمعة للتغيرات الديموغرافية والبيئية والاجتماعية والتكنولوجية السريعة وغيرها على طرق معيشتنا. ويؤثر تغير المناخ بدوره أيضًا على انتشار هذه الأمراض المعدية.
يعرف البشر أن الظروف المناخية تؤثر على الأوبئة حتى قبل فترة طويلة من اكتشاف دور العوامل المعدية في نهاية القرن الـ19. إذ كان الأرستقراطيون الرومان يتجهون إلى المنتجعات الجبلية كل صيف؛ لتجنب الملاريا. كما تعلم سكان جنوب آسيا في وقت مبكر، أنه في ذروة الصيف تقل احتمالية أن تتسبب الأطعمة المُعدة بالكاري في الإصابة بالإسهال.
اقرأ أيضًا: روايات الأوبئة .. حب معرفة المستقبل ومحاولة الهروب من الموت
هناك الكثير من الأدلة على الارتباط بين الظروف المناخية والأمراض المعدية. فعلى سبيل المثال، تمثل الملاريا مصدر قلق كبير للصحة العامة. وعلى الأرجح يبدو أنها أكثر الأمراض المنقولة حساسية لتغيرات المناخ على المدى الطويل؛ إذ تختلف موسميًا بالمناطق الموبوءة بشدة.
لطالما كانت العلاقة بين الملاريا والظواهر المناخية المتطرفة تخضع للدراسة في الهند، على سبيل المثال. ففي وقت مبكر من القرن الماضي، شهدت منطقة البنجاب حالات تفشي للملاريا بشكل دوري. واعتبر هطول الأمطار الموسمية الغزيرة والرطوبة العالية لهما تأثير كبير. إذ يعزز تكاثر البعوض الناقل للمرض وقدرته على البقاء.
إلى جانب ذلك، سلطت دراستان نشرتا نهاية العام الماضي الضوء على كيف يمكن أن يؤدي تدمير البيئة إلى مزيد من انتشار الأمراض المميتة عن طريق الحيوانات والكائنات الحية الأخرى. مع عواقب وخيمة على الصحة العامة.
مثلاً، تسبب تفشي وباء الإيبولا عام 2016 في غرب أفريقيا في وفاة أكثر من 11 ألفًا بشكل مباشر. أما الآثار غير المباشرة فكانت حرمان الحالات المرضية الأخرى من الموارد الطبية. الأمر الذي أسفر عن آلاف الوفيات الإضافية. والأمر المثير للقلق، هو قدرة تغير المناخ على التسبب في زيادة معدلات الإصابة بالإيبولا على مدار الـ50 عامًا المقبلة. وذلك طبقًا للباحثين الأمريكيين والبريطانيين القائمين على الدراسة.
التغيير يوفر بيئات جديدة للأوبئة
قال الدكتور ديفيد ريدينج من كلية لندن الجامعية إنه “بتغيير البيئة نتجه نحو تأثير مباشر على صحتنا”. وأوضح أن إحدى الطرق التي سيؤثر بها تغير المناخ على مخاطر الإصابة بالأمراض تكمن في تحويل المناطق الجديدة إلى مآوي مناسبة للأنواع الحاملة للأمراض. وضرب مثالاً بالأشجار التي تعتمد عليها الخفافيش -ويُعتقد أنها مستودع لفيروس الإيبولا- إذ أنها حال تمكنها من النمو بمناطق أخرى، يمكن للخفافيش أن تتبعها.
ورجح بحث أجراه كل من أندرو ماكدونالد وإيرين مردكاي بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا أن الاحترار العالمي ليس التغيير البيئي الوحيد القادر على زيادة خطر انتشار الأمراض. بل يبدو أن إزالة غابات الأمازون أيضًا يتسبب في انتشار الملاريا.
وقال ماكدونالد: “أعتقد أن أنواع التغييرات البيئية الكبيرة التي نشهدها اليوم، بما في ذلك تغير المناخ والتغير في استخدام الأراضي، لديها قدرة كبيرة على إحداث تغييرات في النتائج الصحية”. ويتضمن ذلك انتقال الأمراض المعدية، على حد قوله.
في هذا السياق، أوضحت كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد -عبر موقعها الإلكتروني- أنه مع ارتفاع حرارة الكوكب، تتجه الحيوانات -كبيرة أو صغيرة على الأرض أو في البحر- إلى القطبين للابتعاد عن الحرارة. وهذا يعني تواصل الحيوانات مع فصائل أخرى لا تتواصل معها في العادة. ما يتيح الفرصة أمام مسببات الأمراض للوصول إلى أجسام مضيفة جديدة.
وأكدت الكلية، في إجابتها على أسئلة تلقتها بشأن تغير المناخ وجائحة فيروس كورونا المستجد، أن العديد من الأسباب الجذرية لتغير المناخ تؤثر بدورها على تفشي الأوبئة العالمية. فمثلا إزالة الغابات -التي تحدث في الغالب لأغراض زراعية- تعتبر ضمن أبرز أسباب فقدان الموائل الطبيعية حول العالم. ما يجبر الحيوانات على الهجرة ويوفر إمكانية لتواصلها مع حيوانات أخرى أو أشخاص ومشاركة الجراثيم والفيروسات.
طبقًا لتحليل نشرته مجلة “فوربس” الأمريكية، قال علماء المناخ في وكالة ناسا إن الأعوام الخمس الأكثر دفئًا على الإطلاق كانت منذ 2010. حيث تضاعف معدل ذوبان الكتلة الجليدية بالقطب الجنوبي ثلاث مرات خلال العقد الماضي. وارتفع مستوى سطح البحر عالميًا ثماني بوصات بالقرن الماضي.
ويحوي جليد القطب الشمالي فيروسات قديمة لا يمتلك بشر العصر الحديث مناعة ضدها. ففي ألاسكا -على سبيل المثال- اكتشف الباحثون بقايا للإنفلونزا الإسبانية التي انتشرت عام 1918، وأصابت ما يصل إلى 500 مليون نسمة، وأسفرت عما يصل لـ50 مليون وفاة بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. وهو نحو 3% من سكان العالم.
ويضغط تغير المناخ على الأنظمة البيئية متسببًا في انتقال الأمراض لما وراء حدودها غير المرئية. كما هو الحال مع الأمراض التي ينقلها البعوض. ومع اتساع رقعة المناطق الاستوائية بالمعدل الحالي 30 ميلاً في كل عقد زمني، ستشكل أمراض، مثل: الملاريا، وفيروس زيكا، تهديدًا على مناطق جديدة.
نظرة متشائمة
طبقًا لمنظمة “بروبابليكا” غير الربحية، ومقرها مدينة نيويورك، كان العلماء الذين يدرسون كيفية ظهور الأمراض في البيئات المتغيرة يعلمون أن تلك اللحظة قادمة. إذ أن تغير المناخ يجعل من تفشي الأمراض أكثر شيوعًا وخطورة.
على مدار العقود القليلة الماضي، زادت أعداد الأمراض المعدية المستجدة التي تنتشر بين البشر. لا سيما فيروسات كورونا وغيرها من الأمراض التنفسية التي يعتقد أن مصدرها الخفافيش والطيور. ويظهر مرض جديد ناشئ خمسة مرات بالعام.
وتقدر إحدى الدراسات أن أكثر من 3200 سلالة من فيروسات كورونا تتواجد بالفعل بين الخفافيش، في انتظار الفرصة للانتقال إلى البشر. وربما كانت تلك الأمراض موجودة دائمًا، مدفونة في عمق البرية والأماكن النائية بعيدًا عن البشر. لكن كانت أنظمة الدفاع البيئية بحال أفضل لمكافحتها.
اليوم، يؤدي احترار المناخ إلى تدمير تلك الأنظمة الدفاعية، متسببًا في خسارة كارثية في التنوع البيولوجي. هذا الذي عند اقترانه بإزالة الغابات المتهورة والتغيير العدواني للبراري لأغراض التنمية الاقتصادية، يدفع بالناس للاقتراب من البرية. كما يفتح البوابات أمام انتشار الأمراض.
ولذلك، تقدم جائحة “كوفيد-19″، حتى ولو جاءت في صورة أزمة ملحة، درسًا مهمًا. إذ تظهر القوة الهائلة التي لا يمكن إنكارها وتتمتع بها الطبيعة في وجه الحضارة وحتى سياساتها.
هذا وحده قد يجعل الجائحة مقدمة لمزيد من التغييرات المدمرة بعيدة المدى القادمة. إذ حذرت الأمم المتحدة من أن أعداد أنواع الكائنات الحية الموجودة على الكوكب قد تراجع بالفعل بنسبة 20%. وأن أكثر من مليون حيوان ونوع نبيان يواجه خطر الانقراض الآن. وخسارة هذا التنوع في الأنواع، ببعض الحالات، يترجم بشكل مباشر إلى زيادة في الأمراض المعدية.
كتبت – هدير عادل