كاد الجيش السوداني أن ينهي استعدادته للسيطرة على أراضي الفشقة في ولاية القضارف شرق السودان والتي تدعي إثيوبيا أحقيتها فيها. بينما تؤكد الخرطوم أن اتفاق ترسيم الحدود بين بريطانيا وإثيوبيا عام 1902 منحها حق السيطرة على المنطقة بالكامل.
احتفل السودانيون، أمس، بالذكرى الـ65 لاستقلاله عن السيطرة المصرية. في وقت تعيش بلادهم أوضاع متوترة على الحدود الإثيوبية واندلاع معارك “تيجراي” ونزوح الآلاف للأراضي السودانية.
الانسجام الذي بدا واضحًا بين الخرطوم وأديس أبابا منذ تولي حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية، سرعان ما انتهى بسبب مواقف الأحيرة في ملف سد النهضة. علاوة على أنه بدا واضحًا أن مصالح الخرطوم لا توافق هوى أديس أبابا.
السودان احتج أكثر من مرة على الممارسات الإثيوبية خاصة مع القرار الأحادي بملء خزان السد دون الرجوع لدولتي المصب أو احترام المسار التفاوضي. علاوة على اندلاع المواجهات على أراضي الفشقة على الحدود الإثيوبية.
حدود السودان.. بداية الأزمة
منذ استقلال السودان عام 1956 ظل ملف ترسيم حدود الفشقة محل نزاع مع إثيوبيا. تتكرر الأزمة كل عام في موسم الحصاد خاصة أن المنطقة بها آلاف الأفدنة الزراعية الخصبة. هكذا تسيطر ميليشيات إثيوبية على الأراضي لتأمين المزارعين الإثيوبيين بالدخول والاستفادة منها.
من ناحية أخرى أهملت الحكومات السودانية حسم ملف الحدود مع إثيوبيا. وظلت أراضي الفشقة محل موائمات سياسية خاصة في عهد المخلوع عمر البشير. الأمر كان يحسم وقتها من خلال وعود شفهية من إثيوبيا.
خلال حكم البشير طوال الثلاثين عامًا الماضية كان السودان منشغل في عدة حروب. على سبيل المثال دخل الجيش في معارك في النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور، ما تسبب في انسحابه من نقاط الارتكاز شرق السودان وهو ما أستغله الأثيوبيون.
اقرأ أيضًا.. بالكمامة وبدلة السجن.. “البشير” أمام الشعب والقضاء يؤجل الحكم
ترك المجال لسيطرة الميليشيات القبلية التابعة للأمهرة في طرد وقتل المزارعين السودانين والاستيلاء على أراضيهم. كما خلف غضب شعبي بدا دافعًا قويًا لاتخاذ مواقف متشددة هذه المرة مع إثيوبيا.
من ناحية أخرى استفز ذلك إثيوبيا لتحرك قواتها النظامية إلى الحدود ويحدث الاشتباك مع الجيش السوداني.
ووفقًا لتقارير سودانية فإن نظام البشير استخدم منطقة الفشقة ككارت يضمن من خلاله تقارب ودعم إثيوبي غير مشروط. كما كان هناك اتفاقيات شفهية بين البشير ورئيس الوزراء الراحل ميلس زيناوي، بأن تخلو الفشقة من أي وجود رسمي. كما يسمح للمزارعين الإثيوپيين بالتملك فيها وأن تكون المنفعة والعائد منها متاح.
مرواغات إثيوبية والسودان متأخر
قانونيًا تعترف الحكومة الإثيوبية بسيادة السودان على أراضي الفشقة وفقًا لاتفاقية 1902. كما تعترف ببروتوكول الحدود الموقع في 1903، واتفاقية 1972، إلا أنه بسبب إهمال الملف لا تزال أجزاء من الفشقة تحت السيادة الإثيوپية.
ورغم انعقاد لجنة ترسيم الحدود واتخاذ كافة التدابير الأمنية لحل التوتر إلا أن مراوغات إثيوبية عادت إلى المشهد. حيث انتهى اجتماع اللجنة السياسية لترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا المنعقد في الخرطوم في ديسمبر 2020 دون اتفاق.
وفقًا لمصادر سودانية فإن الخلاف الرئيسي هو عدم نية إثيوبيا الاعتراف رسميًا بسودانية الفشقة. بينما تطالب أديس أبابا بالتفاوض على مناطق السيادة المملوكة للسودان بموجب اتفاقيات دولية ومعاهدات تاريخية.
اقرأ أيضًا.. تهدئة أممية وبوادر انفراجة.. سد النهضة يعود لمسار واشنطن
المصادر قالت إن الهدف الرئيسي من انعقاد اللجنة السياسية للحدود بين البلدين هو إيفاد لجان لترسيم الحدود ووضع نقاط فاصلة على الأرض. بينما فوجئ السودان بمرواغة الإثيوبين ومطالبتهم بالتفاوض على تبعية المنطقة لأي من الدولتين.
بينما أكد مسئوليون سودانيون أن اللجنة غير معنية بالتفاوض، بل مهمتها تنفيذ اتفاقيات موقعة ومتعارف عليها لم تكن يومًا محل جدل بين الدولتين.
علاوة على ذلك أبدى الوفد الإثيوبي تراجعًا عن الاعتراف باتفاقية 1903 بين السودان وإثيوبيا والتي نصت على اعتماد خط قوين أساسًا لتحديد الحدود. تحججت إثيوبيا بأنها وقعت في عهد الاستعمار رغم أنها لم تكن كذلك، حيث وقعها الامبراطور منيلك.
من ناحية أخرى هناك اعتقاد لدى عرقية الأمهرة التي تقود التوتر الحالي، أن أراضي الفشقة كانت ملك أجدادهم وهو ما فسرته تصريحات السئولين الإثيوبيين. كما أنه الغليان الشعبي داخل الأمهرة بعد دخول الجيش السوداني يعززه.
المصلحة الإثيوبية في استمرار التوتر
مع زيادة جبهات التوتر أمام أبي أحمد مُنذ قراره تأجيل الانتخابات وأزمة “تجراي” لم يعد من السهل اتخاذ مواقف واضحة مع السودان بالتنازل أو الانسحاب من أراضي الفشقة. كما أن تشدد الأمهرة وتمسكها بالأراضي يزيد الوضع تأزمًا.
ويرى مراقبون أن التشتت الإثيوبي والموقف الحرج لأبي أحمد وراء مراوغات الوفد الإثيوبي الذي جاء للخرطوم للتفاوض على الحدود. إلا أن الأمور ستكون محل مزيد من التصعيد.
اقرأ أيضًا.. ماذا فعلت جائزة نوبل بآبي أحمد؟
على سبيل المثال تصر الإدارة السودانية بمكونيها العسكري والمدني على فرض السيادة على حدودها واستعادة أراضيها من سيطرة الميليشات الإثيوبية. كما أن هناك رصد لوصول تعزيزات عسكرية إثيوبية نظامية وليست مجرد ميليشيات للحدود.
المراقبون يتوقعون أن تستمر المرواغات الإثيوبية بعدم الاعتراف أو الشروع بأي إجراءات رسمية. كما أن تراجع إثيوبيا أمام السودان قد يضعها في ضعف أمام الشارع خاصة عرقية الأمهرة التي تعتبر ثاني أكبر مجموعة عرقية هناك.
الموقف السوداني
مع المراوغة والتشدد الإثيوبي بدأ السودان يدرك مصالحه ويعيد سياسته مع إثيوبيا بعد أن رأى الوجه الآخر، ما انعكس في تشدد الموقف السوداني.
السودان قرر عدم إغلاق ملف الحدود مرة أخرى دون استعادة السيادة على كامل أراضي الفشقة، وهو الموقف الذي توحدت عليه كافة القوى المدنية والسياسية هناك.
الموقف السوداني تصدى أيضاً لمحاولات إثيوبيا بتوجيه الاتهامات لطرف ثالث لم تسمه بإثارة القلق والإضرار بالعلاقات السودانية الإثيوبية.
بينما أكد نائب رئيس الأركان السوداني، خالد عابدين أن السوادن دولة غير معتدية وأنه لا يصنع حرب وكالة لكنها معركة من أجل فرض السيادة على أرض السودان وحدوده. كما أعلن في 29 ديسمبر استعادة السيطرة على معظم الأراضي السوادنية على الحدود مع إثيوبيا.
كما أعلن سيطرة الجيش على أراضي كانت بيد عصابات الشفتة والتي خرج الجيش السوداني في 1996. بينما قدرت مصادر أخرى مساحة الأرض المستعادة بما يقوق المليون فدان فضلًا عن المنشآت الخدمية.
ورغم عدم صدور معلومات رسمية عن طبيعية عمليات الجيش السوداني إلا أن تصريحات نائب رئيس الأركان تشير إلى استعادة 80% من أراضِ تسيطر عليها إثيوبيا. كما استعاد السيطرة على عدد من القرى تسكنها ميليشيات إثيوبية. كما وصلت القوات السودانية لمواقع تمكنها من تأمين الحدود والأراضي الزراعية في الفشقة الكبرى والصغرى.
تحركات الجيش السودان عززتها مواقف عدد من القوى السياسية، حيث تم تنظيم رحلات جماهرية للفشقة دعمًا للجيش.
الدعم الإقليمي
رغم اتساق العلاقات المصرية السودانية في الفترة الأخيرة وارتفاع مستوى التنسيق في الملفات الأمنية والعسكرية، إلا أن القاهرة لم تصدر أي مواقف رسمية تتعلق بأزمة الحدود.
لكن مراقبين يرون أنه رغم تحرك الجيش السوداني لاستعادة أراضيه لكن هناك دعم غير معلن يتلقاه السودان في هذا النزاع. خاصة إذا تحولت الأمور لمزيد من المواجهات بعد تحرك عسكري إثيوبي على الحدود ما قد يدفع الأمور لحرب وشيكة.
سيناريوهات الحل
تظل الأزمة الإنسانية التي تعيشها ولاية القضارف محل تهديد لأمن السودان، بعد تدفق ما يقرب من 50 ألف لاجئ من إثيوبيا وفقًا للأمم المتحدة. بينما تتخوف السودان من تسلل عناصر مسلحة واتخاذ الأراضي السودانية نقاط ارتكاز لعناصر إثيوبية مستقبلًا.
ويرى المراقبون أن كافة المؤشرات الحالية لا تفيد بإمكانية حل التوتر، حيث لا تزال الموائمات السياسية لإدارة أبي أحمد وتفاقم التوتر الداخلي في إثيوبيا عائقًا أمام اتخاذ أي خطوات للحل ترسيم الحدود.
اقرأ أيضًا.. السودان.. حكاية 27 عامًا في قوائم العقوبات
يأتي هذا في ظل تصريحات المجلس العسكري السوداني بعدم عودة أي من التعزيزات العسكرية في القضارف، إلا باستعادة الأراضي السودانية وطرد الميليشيات الإثيوبية. بينما وصلت تعزيزات عسكرية إثيوبية على الجانب الآخر، فأن المسائل تتجه لمزيد من التوتر والتصعيد.
من ناحية أخرى لا تكشف المؤشرات نية إثيوبيا لاتخاذ خطوات إيجابية حاليًا. كما لا تتجه نحو استمرار التوتر وهو ما ظهر مع اتهام الجيش السوداني باستغلال الصراع في تيجراي لتحقيق مصالح سودانية.
كتبت- آية أمان