كان بيرم صاحب العشرين عامًا قد أسس للتو تجارته – محل صغير للبقالة – بحي الأنفوشي بمدينة الإسكندرية، عندما هاجمه “لصوص المجلس البلدي”، الذي كان أغلب موظفيه من الإنجليز، فارضين عليه وعلى جيرانه من الباعة وأصحاب المحال الصغيرة، الضرائب التي قصمت ظهورهم، وامتصت عرقهم.
انفجر محمود محمد مصطفى بيرم، والذي سيعرف بعد ذلك بـ”بيرم التونسي”، منشدًا قصيدته الأولى – “المجلس البلدي” – والتي عَرفت جمهور الإسكندرية بل وجمهور مصر كله على شاعر سيكون ولعقود طويلة المُعبر الأصدق عن أوجاعهم:
“إذا الرغيفُ أتى فالنصف ُ آكُلُهُ
والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي
وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ
خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي
وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا
في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي
كَــأنَّ أٌمّي بَلَّ اللهُ تُربتها
أوصَتْ فقالت : أخوك المجلس البلدي
يا بائعَ الفجلِ بالمِلِّيـمِ واحدةً
كم للعيالِ وكم للمجلسِ البلدي”
شاعر الفقراء
نشرت جريدة “الأهالي” في صفحتها الأولى قصيدة “المجلس البلدي” فساهمت في زيادة توزيع الجريدة لآلاف النسخ، رددت جماهير الإسكندرية قصيدة “بيرم” وصار اسمه وأشعاره، حديث الناس في المدينة.
لم يكن هؤلاء الناس سوى الفقراء الذين كان بيرم واحدًا منهم، فلمس بشدة مشكلاتهم، وأوجاعهم التي عرفت طريقها إلى قلبه الصغير، منذ وفاة والده وهو في الثانية عشر من عمره، واستيلاء أبناء عمه على حقه في مصنع الحرير الذي أسسه جده – تونسي الأصل – والذي طاب له المقام في مصر مستقر بالإسكندرية.
غير النجاح الكبير للقصيدة، وسط الناس، أدرك بيرم التونسي، أن طريقه الوحيد هو الشعر، الذي ارتشف أول قطراته من شعراء الربابة الذين كانوا ينشدون الروايات الشعبية، في أمسيات كثيرة استضافهم خلالها والده، والذي كان من محبي الفن وعشاقه.
منذ قصيدة بيرم التونسي، الأولى، التي عرفها الجمهور، ظهر الطابع اللاذع والنقدي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في أشعاره، هذا الطابع كان انحيازًا إلى جانب الفقراء الذين كان منهم، فاختار بيرم لأشعاره اللهجة العامية بقالبها الزجلي الساخر لتكون أقرب إليهم، وأدق تعبيرًا عن أزماتهم.
اقرأ أيضًا: في ذكرى فؤاد حداد…قصيدة العامية من “والد الشّعرا” إلى “نجوم السوشيال”
دعم ثورة 19
بينما كانت ثورة 1919 تشتعل داخل شوارع مصر وحاراتها وقراها، ضد الاحتلال، كان بيرم التونسي، يجهز للعدد الأول من جريدة “المسلة” التي أسسها، وكتب عددها الأول كاملًا، ثم راح يوزعها بنفسه على المقاهي والبيوت والمدارس داخل الإسكندرية كلها، لتحوي صفحات الجريدة أشعاره ضد الإنجليز.
“اتركونا ننتفع من خير بلادنا
مش بلادكم
واسمحوا نسبك حديدنا
مش حديدكم
والسماد عايزين سمادنا
مش سمادكم
ياللي ناويين تدبحونا”
لم يكن قد حل بعد، منتصف عام 1919 حتى قرر بيرم التونسي، ترك الإسكندرية والانتقال إلى القاهرة، ليصدر العدد الثاني من جريدته “المسلة” من وسط العاصمة، وخلال أكثر من 10 أعداد هاجم أعداء الثورة وأعداء زعيمها سعد زغلول، ابتداء من الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية الذي عارض سفر سعد زغلول لمفاوضة الإنجليز من أجل الجلاء، إلى مهاجمة الاستعمار والسلطان فؤاد.
مع انتشار جريدة “المسلة” ونجاحها، سطع نجم بيرم التونسي، فطلب منه سيد درويش تأليف رواية لتقدمها فرقته، فكتب له مسرحية “شهر زاد” التي تنتقد الأسرة المالكة، في الوقت الذي واصل فيه أعداد جريدته بأشعاره ومقالاته اللاذعة للسلطان والإنجليز، فأمر السلطان فؤاد بإغلاقها، ليواصل بيرم تحدي السلطان ويصدر جريدة جديدة تحت اسم “الخازوق” وينشر في صدرها قصيدة بعنوان “البامية الملوكي والقرع السلطاني”.
أعوام من النفي والجوع
اعتبر السلطان فؤاد قصيدة “البامية الملوكي والقرع السلطاني”، والتي تتحدث عن شهوات الأسرة المالكة وبذخهم وعربدتهم، خوضًا في عرض ابنته الأميرة فوقية، وكان حساب بيرم قد ثقل عند السلطان فقرر نفيه إلى تونس موطنه الأصلي، وهناك حاول أن يشق طريقه من جديد في العمل بعد أن أنكره أهله، فضاقت عليه تونس، فسافر إلى باريس.
في باريس عاش بيرم سنوات صعبة، لم يشهد مثلها في مصر رغم فقره ويتمه منذ كان في الثانية عشر من عمره، فعمل في مصنع للحديد في ليون لكنه تركه بعد إصابته، ومن عمل إلى آخر لا يدم لأسابيع أو شهور، عانى بيرم من الضعف والبرد والجوع، يخبرنا بيرم في مذكراته عما مر به:
“كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية، وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم”.
كاد أن يذهب الجوع عقل بيرم، فيقول: “وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت، وكان لا ينقذني من تلك الحال سوى معجزات، عندما أنهض كالمجنون أبحث في كل أركان الحجرة عن أي شيء فأعثر بالصدفة على كسرة خبز، أو بصلة”.
يعبر بيرم عما لقاه من فقر ومطاردة في مصر ـ وطنه الذي عاش فيه وأحبه، وخرج منها منفيًا، وما واجهه في موطنه الأصلي تونس من نكران الأهل وقسوتهم، وما شهده من مذلة وجوع في فرنسا، فينشد:
“الأولة: آه .. والتانية آه .. والتالتة آه
الأولة: مصر .. قالوا تونسي ونفوني
والتانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني
والتالتة: باريس .. وفي باريس جهلوني
الأولة: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير
والتانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير
والتالتة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير”
اقرأ أيضًا: ذكرى شاعر الرفض.. أمل دنقل الذي قال لا في وجه من قالوا نعم
العودة ثم النفي مرة أخرى
رجع بيرم إلى مصر بعدما تلاعب في جواز سفره مجربًا تعديلًا في الاسم، ما مكنه من ركوب السفينة المتجهة إلى بور سعيد دون أن يلحظه أحد.
عاد بيرم إلى الإسكندرية خائفًا، اختبأ لشهور، ثم ظن أنهم غضوا الطرف عنه فسافر إلى القاهرة، وواصل الكتابة في عدد من الجرائد باسم مستعار، ليتكسب بضعة جنيهات كل شهر يعيش بجزء منها ويرسل الجزء الآخر إلى أبنائه، بعد أن طلبت زوجته الطلاق وهو في المنفى وتزوجت بآخر.
لم يدم مقام بيرم في مصر فبعد عام عرفت السلطات بأمر تسلله، ليتم ترحيله مرة أخرى إلى مارسيليا، ليعمل شيالًا في الميناء، قبل أن يجد عملًا في شركة للصناعات الكيماوية، أصيب جراء العمل فيها بمرض الربو والذي ظل مصاحبًا له حتى وفاته.
9 سنوات من ألم الفراق
انتقل بيرم إلى باريس، حيث بدت الأمور تسير إلى الأفضل فهناك التقى بالفنان عزيز عيد الذي كان يزور فرنسا، فعرض على بيرم كتابة رواية مسرحية مقابل مبلغ أخذه مقدمًا فكتب رواية “ليلة من ألف ليلة” والتي نجحت نجاح كبير، فاتفق معه عزيز عيد على كتابة روايات أخرى.
وكما وعده عزيز عيد، بالتوسط لعودته إلى مصر، وعده صديقه زكريا أحمد، أيضًا، وخلال تسع سنوات لم ينجحا في التوسط له، ورغم أنه كان يتكسب، ما يسد جوعه، من كتابة الراويات المسرحية لفرقة عزيز عيد، كما كان يرسل زكريا أحمد، بعض النقود لأبنائه، فإن ألم الفراق كان يعصر قلبه.
العودة وقرار العفو
عاد بيرم إلى موطنه الأصلي تونس، بعد قرار من السلطات الفرنسية بترحيل الأجانب، ليتم ترحيله مرة أخرى إلى سوريا، ثم يعتزم الاحتلال الفرنسي ترحيله من سوريا إلى إحدى دول وسط أفريقيا، ليتمكن من الهرب عائدًا إلى مصر عام 1938.
بعدها أصدرت وزارة الداخلية أمرًا بالعفو عنه بعدما نشر قصيدة بجريدة الأهرام، غلبت عليها المظلومية والشكوى من سنوات المنفى.
التقى بيرم بعد عودته بأم كلثوم، والتي غنت له العديد من الأغاني، منها: “يا صباح الخير يا اللي معانا، والقلب يعشق كل جميل، وهو صحيح الهوى غلاب”، كما غنى له فريد الأطرش عدة أغنيات منها: “أحبابنا يا عين، وهلت ليالي، وأوبريت بساط الريح”، وغنى له عبد الوهاب أغنية وحيدة هي “محلاها عيشة الفلاح”.
لم ينحاز سوى للناس
وكما انحاز بيرم التونسي إلى ثورة 1919، انحاز إلى حركة الضباط الأحرار وثورتهم في 23 يوليو، لكنه لم يكن مقربًا من سلطة يوليو ولا زعمائها رغم غنائه للثورة وزعيمها عبد الناصر، فقد كان انحيازه الحقيقي للناس، الذين عانى معاناتهم، تألم مثلما تألموا وجاع مثلما جاعوا، فظل يتغنى بهم ولهم حتى رحيله في مثل هذا اليوم في الخامس من يناير عام 1962، بعد 68 عامًا قضى أغلبها فقيرًا ومطاردًا ومنفيًا.
أثر بيرم في شعر العامية
لم تكن قصيدة العامية قبل بيرم سوى مقاطع حكمية، على شاكلة مربعات ابن عروس، فلم تكن الشخصية المصرية، حاضرة فيها، فقد كانت القصيدة العامية مرتبطة بالملاحم العربية، تغلب عليها التصورات العروبية، والأمجاد القبلية.
استطاع بيرم التونسي، تحرير قصيدة العامية من هذا الشكل، فعبرت أشعاره عن رؤية مصرية، تحمل طابع ساخر، مرتبط بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وبمشكلات الحياة اليومية، بعيدًا عن الشكل التفاخري لأشعار الروايات والسير العربية.
فنسطيع أن نقول إنه وضع أسس قصيدة العامية ذات الطابع المصري المرتبط بالمشكلات الحياتية، والقضايا الوطنية، وإن كان قد اختار الشكل الزجلي الذي رأى حينها أنه الأكثر قدرة على الوصول إلى الناس.
الشخصية المصرية للقصيدة العامية التي صنعها بيرم التونسي رغم التطريب الطاغي عليها، هو ما بنى عليه فؤاد حداد ومن بعده الأبنودي وجاهين وسيد حجاب، الشكل الجديد لقصيدة العامية المصرية.
ولعل رثاء صلاح جاهين لبيرم التونسي أبلغ دليل على الأثر الكبير الذي تركه في الأجيال التالية من شعراء العامية:
مين اللي مات يا شاب يا ابو دموع
قالت عروس الشعر للموجوع
مين اللي مات يا شاب ليكون ابويا
أنا قولت أبونا كلنا يا صبية
مات زي ما كتف الجبل ينهد
مات باقتدار وفخار ما قالش لحد