يمثل القصف التركي المكثف الأخير على مناطق الريف الشمالي لمحافظة الرقة، الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أحدث حلقات الدور الوظيفي الذي يؤديه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويستهدف الوجود الكردي في سوريا. في سباق مع الزمن قبل تولي الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن مقاليد السلطة الجديدة، التي لن تكون بمثل تراخي إدارة ترامب مع التحركات التركية في سوريا.
تحركات تركيا تهدف منع التغول الكردي
تعمد أنقرة بتحركاتها الميدانية والسياسية إلى تشكيل أطواق عديدة لحصار القوات الكردية بالمنطقة. ذلك بغرض تشكيل ضغوط عديدة ضدها، تمنع التغول السياسي لحزب العمال الكردستاني. وهو المصنف ضمن المنظمات الإرهابية في أنقرة، والذي يؤروق الدولة التركية بالمنطقة المتاخمة لحدودها.
مطلع العام الحالي، ارتفعت وتيرة القصف التركي على منطقة عين عيسى، الواقعة في ريف الرقة الشمالي، والخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وذلك حسبما يشير المرصد السوري لحقوق الإنسان. حيث جرى قصف “مخيم عين عيسى – قرية معلق بريف عين عيسى ضمن الريف الشمالي لمحافظة الرقة”. كما تم توثيق “إصابة مواطنة وطفل بجراح”، بحسب المرصد. بينما اندلعت اشتباكات عنيفة بين الفصائل الموالية لتركيا من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى. وذلك على المحاور الغربية لناحية عين عيسى شمالي الرقة”.
تركيا تسابق الوقت
كشف المرصد الحقوقي عن وجود “تطيمنات” من الطرف الأمريكي إلى قوات سوريا الديمقراطية. وهي تطمينات تتصل بـ”أن القوات التركية لن تتمكن من التقدم والسيطرة على أي منطقة جديدة شمال شرق سورية”. لاسيما ناحية عين عيسى بريف الرقة الشمالي. وأن هناك خطوط حمراء للتمركزات التركية في سورية، لا تستطيع أنقرة تجاوزها. ذلك بالرغم من محاولتها المستمرة لقطع طريق الحسكة – حلب الدولي، المعروف باتوستراد “M4″”.
بحسب المرصد، فإن الطرف الأمريكي شدد على أن روسيا مجرد “ضيف” على المنطقة. لكن مصادر كردية متفاوتة ذكرت أنه لا ثقة بالوعود والتطمينات الأميركية. كما أن الروس لم يسبق وأن خرجوا من منطقة دخلوا إليها.
وشرعت القوات التركية في تدشين قاعدة عسكرية جديدة لها، بالقرب من منطقة عين عيسى، في النصف الثاني من العام الماضي. وحسب ما أكد الصحافي السوري الكردي سردار ملا درويش، لـ”مصر 360″، فإن “عدة أرتال عسكرية، ومعدات لوجيستية دخلت المنطقة، بهدف إنشاء قاعدة عسكرية تركية في قرية طماميح بريف عين عيسى”. كما زار عدد من الضباط والعسكريين الأتراك، بلدة قسطون، الواقعة في منطقة سهل الغاب، غرب حماة. وذلك بهدف استطلاع تل استراتيجي، يتواجد في وسط المدينة، لإنشاء القاعدة العسكرية عليه، وفق ملا درويش.
يلمح ملا درويش إلى أن التحركات التركية أخفقت في تحقيق أغراضها رغم القصف المتواصل. كما لم تسفر عن أي نتائج سياسية كانت تتوخى موسكو الوصول إليها من خلال أنقرة، التي قامت بدورها بالتصعيد الميداني الأخير. وهي محاولة لحلحلة الوجود الكردي في المنطقة الاستراتيجية الواقعة في شمال الرقة. وبخاصة قبل تسلم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن مهامه، ووصول إدارته للحكم.
ويتوقع لإدارة بايدن أن تخالف سياسة دونالد ترامب التي تخلت عن الأكراد -وفق ما يقول ملا درويش- ومنحت الضوء الأخضر لأردوغان في تنفيذ عدة عمليات عسكرية في المنطقة. ذلك بالرغم من كل المؤشرات السلبية لهذه الموافقة، والتي تمثلت في إحياء القوى الأصولية والتنظيمات الإرهابية، التي جرى الاعتماد عليها لتنفيذ خطط التغيير الديموغرافي بالمنطقة.
إحياء داعش.. ما علاقة أنقرة؟
يلفت الصحافي السوري الكردي إلى أنه بالتزامن مع تنفيذ القوات التركية القصف الأخير، بالمخالفة لقرار “خفض التصعيد” الموقع بين الرئيسين التركي والروسي، نشط عناصر تنظيم داعش الإرهابي من جديد. وتجددت عملياتهم المسلحة بسوريا. مذكرًا بما وقع مطلع العام الجاري من استهداف لعسكريين ومدنيين، وقصف حافلة عسكرية على طريق حمص دير الزور. وهو الحادث الذي أوقع 37 قتيلاً من عناصر جيش النظام السوري.
خلال حملته الانتخابية، هاجم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، موقف ترامب بخصوص سحب القوات الأمريكية من شرق الفرات، والسماح بالقصف التركي والهجوم على بلدة رأس العين. وغرد بايدن عبر حسابه الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “كان الأكراد جزءًا لا يتجزأ من مساعدتنا في هزيمة داعش، وفقد الكثيرون منهم حياتهم. الآن، تخلى الرئيس ترامب عنهم. إنّه أمر مخز”.
كما قال بايدن عبر المنصة الرسمية الخاصة بحملته الانتخابية، إن “ترامب قد أخفق في سوريا، المرة تلو الأخرى”. ولفت إلى أنه “سيستأنف الالتزام بدعم المجتمع المدني”. وكذا الشركاء المؤيدين للديمقراطية على الأرض. وسيضمن أن تقود الولايات المتحدة التحالف العالمي لهزيمة داعش. واعدًا باستخدام النفوذ الذي تحوزه في المنطقة، بهدف المساعدة في تشكيل تسوية سياسية بسوريا. وأيضًا منح المزيد من السوريين صوتًا.
وسبق أن صرح الرئيس الأمريكي المنتخب باتباعه “نهج مغاير من خلال دعم قيادات المعارضة التركية”. وتوعد بإلحاق الهزيمة بحق أردوغان عن طريق الانتخابات والشرعية السياسية الديمقراطية. وليس عن طريق الانقلاب. لافتًا إلى أن “فشل أردوغان بواسطة الانتخابات في إسطنبول، ينبغي أن يحدث مثله ويتكرر، في باقي المدن التركية الأخرى”.
ما وراء التواجد التركي في شرق الفرات؟
بحسب مركز كارنيجي للأبحاث، فإن من بين أهداف تركيا المباشرة لتواجدها في شمال شرق سوريا هو “منع تشكل كيان قابل للحياة في سوريا تديره أفرع حزب العمال الكردستاني”. خاصة إذا ما كان هذا الكيان “معديًا” (أي مؤثرًا على أكراد تركيا)، ويمتد من الحدود العراقية إلى البحر المتوسط. إذ أن ذلك يشكل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي التركي. كما أنه يغير وجه اللعبة الجيوسياسية.
لذا، تستطلع تركيا الفرص لإضعاف مواقع أفرع حزب العمال الكردستاني، على غرار حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب داخل سورية.
علاوة على ذلك، تعزز تركيا تموضع قواتها وحلفائها المتمردين في مواجهة حزب الاتحاد ووحدات الحماية. أما على المدى البعيد، يشير مركز الأبحاث الأمريكي إلى أن أنقرة تهدف لـ “حصد الفوائد الاقتصادية من عملية إعادة إعمار سورية، والحفاظ على نفوذ فعال في تشكيل ما سيأتي من أحداث”.
ولتحقيق هذه الأهداف على المديين القصير والمتوسط، يتعين على تركيا أن تبقى من بين اللاعبين الذين سيحددون شكل التطورات على الأرض. والطريقة الوحيدة والمّثلى للقيام بذلك هي زيادة وجودها العسكري في سوريا. وهذا بالتحديد ما تفعله أنقرة الآن.