في عام 1938 أنتج ستوديو مصر التابع للدولة آنذاك فيلم لاشين الذي تنبأ بما حدث بعده في 23 يوليو. حكى الفيلم عن حاكم فاسد يخلعة شعبُه ويجعل من الجيش الحاكم الجديد القوي والمُسيطر والعادل، وقد مُنع الفيلم آنذاك بحجة إنه إهانة للذات الملكية والتحريض على التمرد والثورة. لكنّه لا يزال من علامات السينما المصرية رغم مرور أكثر من سبعون عامًا.
من وقتها وحتى الآن لم ينفصل وعي السينمائيين في مصر عن الواقع السياسي الذي يحيطهم، بالطبع هُمّش في كثير من الأحيان، وقزّمت الرقابة العديد من الأفلام التي تشرّح الواقع السياسي. لكنها لم تمنعه تمامًا، وبمرور الزمن نشاهد تمجيد لعدد من الأفلام التي لاقت نفس المصاعب التي لاقاها لاشين. ورُبما كان منع هذه الأفلام سببًا في تركيز النظر عليهم ومحاولة مُشاهداتِهم مرة تلو الأخرى.
السينما النفاقية وهجائية السلطة
في الكتاب الصادر في نوفمبر 2011 “هجائية السينما للسُلطة في مصر” يقول الناقد السينمائي ناجي فوزي في أطروحته بخصوص الأفلام التي يصفها “بالنفاقية” كونها أُنتجت خصوصًا بهدف نفاق السُلطة والحكومة، لكن باحترافية شديدة “وتحايُل”، إن هذه الأفلام حوّلت قِبلتها لتسخر من السلطة والحكومات مثل “جواز بقرار جمهوري” و”طباخ الريّس”، أي إننا يُمكننا أن نجعل من تحايلنا ولا نقول “رمزية” ما يجعل الأفلام حِكرًا على عدد قليل يفهمها. لكّنة التحايل تلك بالإضافة إلى فهمنا الجيد للوضع القائم هو ما يعطينا فرصة تمرير أفلام تسخط من النِظام وتثور عليه دون أن تصطدم به. هذا قبل ثورة يناير وما بعدها.
مع اندلاع ثورة الخامس والعشرون من يناير، ظهرت تكهنات تحاول الاستفسار عن كيفية تناول الحدث فنيًا، وتصورات تتوقّع تعامل الرقاية مع الأشياء القادمة من ثورة 25 يناير، التي سبقتها أعمال فنية توقعتها، وتلاها أفلام روائية وتسجيلة ستحاول تشريحها. أصبحنا أمام حدث تاريخي مؤسس لموجة ووضع سينمائي جديد، مبشر للبعض، ومخيف لآخرين.
بعد عدة أعمال فنية تناولت الثورة كحدث مُحرّك للأحداث، قال مُقرر لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة -آنذاك- الناقد محمد كامل القليوبي إن السينما تتجاهل الثورة أو تقوم بمنع بعض الأفلام، غالبًا لأسباب تتعلق بفكرة المزاج الجمعي المصري، فهو يميل إلى البحث عن المتعة والترفية، نظرًا لظروفة المتأزمة دائمًا.
كذلك طرح الباحث أحمد عبد العال ورقته البحثية تحت عنوان “السينما المصرية والثورة، قراءة مُغايرة وبديهيات مُستقرة“. وقال إن السينما عمومًا خرجت من رَحِم المسرح الفُكاهي والترفيهي، وإنها مُقيدّة رقابيًا باعتبارها صناعة رأسمالية هدفها الربح. فالسينما تعتمد على آلية العرض والطلب، وهو ما يجعلنا نقدّم اهتمامات الجمهور.
سنحاول في هذا المقال، المرور سريعًا على التصورات التي شكّلت أفكار الأفلام الأولى عن ثورة 25 يناير ثم الأفلام، التي تلتها بعد ذلك، والسيطرة التي تتعمّق يومًا بعد الآخر عن الأفكار التي تُبث سينمائيًا سواء بشكل روائي أو تسجيلي.
دراما التلفزيون.. نظرية الري بالتنقيط
قبل ثورة 25 يناير بعام واحد، وتحديدًا في آواخر 2010 لم تكن الحركة النقدية متوقعة للنقلة النوعية التي شاهدها التلفزيون. وقتها ضُخّ في الصناعة الفنية عدد ليس بقليل من المسلسلات التي حافظ بعدها عدد من النجوم على التواجد في التلفزيون بشكل مستمر بعد ذلك، مثل يسرا ويحيى الفخراني وغيرهم.
وقتها كانت السلطات لا تزال تخشى ما حدث عام 2008 مع حركة كفاية والتحركات الثورية غير الشبيهة بما سبقها. ذلك التزامن ربما سمح بفتح أبواب الرقابة للتنفيس قليلاً عن الاحتقان المجتمعي المتوقع، فكتب وحيد حامد للدراما التلفزيونية الجزء الأول من مسلسل الجماعة، الذي يمكن ببساطة اعتباره خط يفصل ما قبله، شكل التصوير والتناول الدرامي يجعله ربما أقرب لنموذج مذهل للتناول الدرامي المكتوب والمصور بشكل يفوق كثيرًا ما سبقه.
ذلك التناول الملهم فتح الباب ربما للمشاهد الذي كان يمل من وتيرة ما يُعرض في التلفزيون ويلجأ للدراما الأجنبية التي توفرها المنصات، لغة بصرية مذهلة استخدمها المخرج محمد ياسين الذي سيقدم مرة بعد ذلك “موجة حارة” وبطله ضابط الشرطة. ومع الثورة ازداد التواجد الدرامي السياسي لعدد من الأعمال (الهروب، المواطن إكس، فيرتيجو) وغيرها من المسلسلات التي قدمت الثورة كحدث بطولي في دولة عاشت سنوات من الفساد.
جزء ثان من الجماعة
مع الوقت تغيرت النبرة، واستثمر نجاح مسلسل الجماعة في جزء آخر لم يكن بالقوة ذاتها، كان موجه دون دراما للسخط من تواجد جماعة الإخوان المسلمين. كذلك جاء مسلسل الداعية وغيره، فقلّت النبرة الثورية داخل المسلسلات وربما قلت معها اللغة البصرية المميزة التي صاحبت مبدعيها، وربما لم تظهر إلّا في تشجيع الدولة في عمل مسلسل يمجّد أبطال أحد المعارك في سيناء (مسلسل الاختيار) الذي لاقى نجاحًا كبيرًا على مستوى المشاهد.
على ما يبدو أن التلفزيون نتيجة تواجده ربما في كل بيت مصري يجعل ما يقدم داخله يشكّل هوسًا للرقيب مما يمكن أن يوجه الرأي العام في اتجاه غير مرغوب فيه، فيبقى صامتًا مكتفيًا بما يقدم داخله من مسلسلات أبعد عن واقع أغلب مشاهديه الفقراء، تناقش قضايا داخل كافيهات ضخمة تمارس شكواها عن أزماتها العاطفية فقط، إلى أن يقرر أن يفتح الباب قليلاً للتنفيس أو لإيصال رسالة ما. وربما مع سيطرة الدولة أكثر ستبدو المادة المقدمة داخله متوقعة شكلاً ومضمونًا.
سينما الأفلام الروائية الأولى للثورة
يقول أستاذ النقد السينمائي ناجي فوزي، في حديثه مع “مصر 360″، إن الثورة استطاعت تحقيق مكاسب إعلامية وسينمائية كبيرة. حيث جعلت في يد كُل فرد مِنا كاميرا خاصة يستطيع تصوير كُل ما يُريده. كما يرى أن الدولة لن تستطيع منع ذلك الكم الكبير من الأفلام. ويضيف: “الناس محدش هيعرف يضحك عليها تاني، 25 يناير غيرت حاجات كتير ولو حصل حاجة بعد كدا محدش هيعرف يوقف الناس ولا حتى الإعلام. في شُحنات ومشاعر عند الناس دلوقتي محدش عبّر عنها من المُثقفين والسينمائيين”.
كما يوضح أن جانب كبير من الأوراق البحثية التي تحدثت عن السينما والثورة تُشير بوضوح إلى العلاقة بين سياسة الدولة بِصفة عامة والأفلام التي تتناول الثورة ووصفها بأنها علاقة ذات طابع رِقابي من جانب السُلطات الحاكمة في الدولة. لكنّها لا تُشكّل نقطة ضعف للسينمائيين بعد الثورة. ويُعتبر فيلم “الطريق إلى التحرير” النموذج المثالي لذلك، على حد قوله.
كان لقرار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عدم عرض فيلم “آخر أيام المدينة” وقع كبير على صناعه. وهو ربما الفيلم الأكثر أهمية بين الأفلام التي تناولت الثورة. الفيلم كما سيحكي مخرجه تامر السعيد بعد ذلك مرارًا “لاقى تعنّتًا غير مفهوم” من إدراة المهرجان التي رفضته وقد ظل يعمل صناعه عليه لمُدة عشرِ سنوات، وفي النهاية لم يجد فرصة عرض داخل بلده. ربما هو أهم الأفلام التي تناولت عام 2011، كما يقول السعيد.
بعد الموقعة.. خيانة الثورة
بعد عام واحد من الثورة قدم المخرج يسري نصر الله فيلم “بعد الموقعة” 2012. تناول خلال هذا العمل الثورة على خلفية أحداث موقعة الجمل الشهيرة، وحاول الاقتراب من حياة سكان منطقة نزلة السمان الذين شاركوا فى الموقعة بخيولهم، بعد أن أقنعهم البعض بخيانة كل من شارك في الثورة.
عام 2013 عُرض فيلم “الشتا اللي فات”، وقد تناول السنوات التي سبقت اندلاع الثورة والأسباب التي أدت إليها حتى قيامها. وربما في سياقه العام هو فيلم أشبه بفيلم عام 2015 “نوارة”؛ الفتاة التي تعيش في فقر شديد لا يسمح لها بمعرفة الثورة وما تعنيه.
عام 2018 قدم الكاتب الصحفي والسيناريست والمخرج كريم الشناوي فيلم “عيار ناري”؛ الفيلم الروائي التجاري الذي حكى قصة شهيد لم يقتل في الثورة. بل كان ضحية لحادث جنائي أثناء نزاع عائلي تحول لرمز ثوري.
هذه النماذج للسينما الروائية التي تختلف سنوات إنتاجها تظهر ثمة ملاحظة مؤسِسة بخصوص سيطرة الدولة والرقابة جيدًا على الأفلام الروائية التجارية التي تصل لأكبر قدر من الجمهور حتى في أوائل سنوات الثورة.
السينما التسجيلية
على صعيد الأفلام التسجيلية أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تقريرها المتلفز المُهم والنموذجي “الثورة الضاحكة“. وعلى الرغم من كونه تقرير إخباري إلى أنه أقرب إلى كونه فيلمًا وثائقيًا. وقد أنتجت أيضًا سلسلة من جزئين تحمل عنوان “يوميات الثورة”.
“مش من حقي أحلم يا أستاذ”؛ قال هذه الكلمات الطفل عمر بائع البطاطا للمُصور أحمد رمضان عندما سأله عن حِلمه المُستقبلي. اعتاد عُمر أن يتجول في محيط وسط البلد بعربته مصدر رِزقه، يبيع ما يقضي حاجة يومه. وفي ذات مرة يبحث فيها الطفل عن رزقه تأخذه قدماه لمُحيط السِفارة الأمريكية أثناء اشتباكات بين المُتظاهرين والأمن، ليلّقى الطفل مقتله برصاصتين.
انطلاقًا من هذه القصة قرّر المؤلف والمُخرج أحمد رشدي بالاشتراك مع السيناريست حمدي حسن، أن يصنعا فيلم الرسوم المتحركة “بائع البطاطا المجهول“. قررا اختيار خالد أبو النجا للبطولة. وهو الفنان المعروف بمعارضته النظام. بعدها اختار مهرجان دبي السينمائي الدولي الفيلم للعرض. ثم يُفاجيء فريق العمل بتراجع المهرجان عن عرض الفيلم وتقديم اعتذار قالت فيه “تأسف إدارة مهرجان دبي السينمائي الدولي، وفريق عمل الفيلم المُشارك في مسابقة المُهر الصغير، عن عدم تمكنهم من عرض فيلم بائع البطاطا المجهول لظروف طارئة وخارجة عن إدارة الطرفين؛ مُتمنين للفيلم النجاح في عرضة المُقبل”.
كانت قناة “أون تي في” قد أنتجت فيلمًا وثائقيًا عن الثورة يحمل اسم “25 يناير يوم بيوم”بعد التلفزيون المصري الذي لم يُنتج هو الآخر إلّا فيلمًا واحدًا “اسمي ميدان التحرير“. عُرض الفيلم بعد مضايقات كانت تهدف لمنع عرضه. ويُمكننا أن نُجزم أن من بين كُل الفضائيات المصرية التي تقوم بإنتاج المحتوى الإعلامي لا يوجد إلّا فيلمين فقط!
فيلم عن الثورة من إنتاج العاملين بـ”النيل للأخبار”
فيلم وثائقي يبحث عن دوافع ثورة 25 يناير، ويُعتبر نقلة نوعية في نهج الإعلام الرسمي المصري لتغطية الأحداث، أنتجه عاملون بقناة النيل للأخبار، ومُنع من العرض أول الأمر، حتى أخبر وزير الإعلام موافقة حكومة الجنزوري على عرضه نتيجة ضغوط العاملين وتهديدهم بقطع البث في حالة استمرار رفض عرضه.
أيضًا أنتجت مؤسسة الشروق عددًا من الأفلام في سلسلة يوميات الثورة. وهي تُشبه تلك التي أنتجتها قناة الجزيرة وتحمل نفس الإسم. كما أنتجت صحيفة المصري اليوم فيلمًا وثاقيًا بعنوان “الثورة خبر“. ويُمكن الإشارة إلى أن الفيلم أُختير للعرض في مهرجان برلين، لكن لم تتقدم أي من القنوات العربية لشراء حقوق عرضه حتى الآن “لأسباب لا يعلمها أحد”.
يوضّح فوزي أن الأفلام الروائية التي تم إنتاجها بعد الثورة “ليست على المستوى المطلوب” باستثناء ضعيف لفيلم 18 يوم الذي اشترك في إخراجه عشرة مُخرجين. ويُرجع ذلك لأسباب تتعلق “بالقصور الفني” للقائمين على تلك الأعمال، وليس إلى التكاليف الإنتاجية التي تتطلبها هذه الأعمال. فالأفلام التي تُترك لها حرية إنتاجية ومادية كبيرة أيضًا تضع نفسها في أخطاء فنية نتيجة إغفال ذلك في أحد المشاهد.
كما يرى أن كُل صُناع الأفلام يعلمون أن الشرط الأساسي في قبول الفيلم ليست الموافقة المبدأية، ولكن “الموافقة النهائية التي تتوقف على مُشاهدة الفيلم”. هذا الشرط تحديدًا يضعهم تحت رحمة الرقابة والمُجازفة التي قد لا يعرض الفيلم بسببها.
كانت السينما التسجيلية هي المتنفس الأكثر حرية والبعيد نسبيًا عن الرقابة الشديدة ربما لجمهوره المحدود والمتوقع. وهي تسعى إلى تشريح المجتمع بشكل أعمق سياسيًا وفنيًا لكنها تعاني ولا تزال من جهات الإنتاج المحدودة.
30 يونيو وما بعدها
مع 30 يونيو وما تلاها ترسخت أكثر وأكثر وجهة نظر الدولة المحافظة على الرقابة الشديدة على أي عمل فني يحاول الحديث عن الثورة من وجهة نظر أخرى غير التي يريدها. سيطرت جهات الإنتاج التابعة للدولة على أغلب الإنتاجات الفنية.
يقول الناقد ناجي فوزي: “يبدو الأمر وكأننا لم نقم بثورة وإنما فتحنا بالوعة كانت تُغطي عفنًا وحشرات وزواحف لا أوّل لها ولا آخر”. رُبما بشكلٍ من الأشكال تصف هذه الجُملة شيء حقيقي. لكن هكذا تكون السينما وهكذا يكون دور الفن في الحديث عن المسكوت عنه وإظهار خطايا الجميع. ويُضيف على ذلك بقوله: “إن العلاقة بين السينما والثورة تحمل ضمن محتواها ذاته ما يتعلق بحقيقة ثورية الفن السينمائي الذي يُعتبره آخر الثورات هو الآخر بالنسبة لعالم الفنون”.
لا تضعوا الخمر القديم في إناء جديد
رُبما أصبح للجمهور المصري نتيجة الثورة تلك الصِفة الانتقائية التي تجعله صاحب رأي في ما يحدث. فلا يُمرّر الأحداث والأخبار مثل ذي قبل. ورُبما على المُبدعين والفنانين أن يجتهدوا أكثر لإظهار أكبر قدر من الحقيقة والإبداع الفني. لكن حتى إذا اعترفنا بفشل 25 يناير سياسيًا. وإذا اعترفنا أيضًا بعدم تحقيق المُتوقع من السينما والفن في تمثيل حدث بأهمية وجذرية 25 يناير. إلا إننا لا يُمكننا إلى الآن أن نُجزم على فشل السينما أو نجاحها. حيث لا تزال هُناك فرصة لتعويض ذلك وإظهار المزيد من الإبداع.
“غضب، حزن، فقد، حلم أبدي بالحرية” أفكار تحاول أن تحكي عن نفسها في حكايات الثورة وما تلاها. ذلك رغم التضييقات والأزمات الإنتاجية التي تواجه صناعة السينما المصرية. وربما في العالم كله في ظل شبح كورونا، ننتظر من وقت لآخر أفلام يمكنها تشريح الواقع السياسي المصري. وذلك دون مباشرة وانحياز مثل “لاشين” الذي خرج من رحم الدولة لينتقد تصرفاتها. أو مثل كثير من الأفلام التي يمكن صناعتها. في ظل عدم مركزية الإنتاج الفني أو مساحات عرضه التي تسهّله وجود مواقع التواصل الاجتماعي.