يجد المجتمع طريقه دائما لفرض ما يشغله على منصات الرأي العام، حتى لو ضعفت سيطرته على تلك المنصات، فليس غريبا أن يتتالى ظهور إشكالية تعدد الزوجات على منصات السوشيال ميديا، من نقاشات وصفحات وجدالات تناقش القضية، رغم أنها قد تكون النقطة الغائبة في نقاش الدولة المنزعجة من تزايد معدلات الطلاق، حتى بدأ مسؤلو المؤسسة الدينية في اتخاذ موقف دفاعي واضح، أحدث وقائعه تصريح مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام في منتصف الشهر الجاري، ردا على ما وُصف بـ “اللغط” حول تعدد الزوجات، قائلا إن “الأصل هو عدم التعدد” وأن التعدد”يجب أن يكون تحت وطأة مبرر قوى معتبر”.
وفي تصريح أسبق، يقر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بأن في تعدد الزوجات “ظلم للمرأة وللأولاد في كثير من الأحيان”، معتبرا، في برنامجه على الفضائية المصرية، و”على مسؤوليته الكاملة”، أن “الأصل في الزواج هو الزوجة الواحدة”.
ولا يغيب عن أقل المتابعين للبرامج الدينية، تكرار السؤال عن تلك المسألة، وثمة اتصال شهير، من إحدى المتصلات، لأحد أشهر مقدمي تلك البرامج، الدكتور مبروك عطية، حيث “تلوم” المتصلة الشيخ، لأن زوجها استند إلى فتواه بالزواج سرًا من أخرى، ونشهد رد الشيخ الغاضب، وحجته في أنه كان يوضح حكما شرعيا بصحة وانعقاد الزواج الآخر، متبرئا من الدفاع عن التصرف في حد ذاته، قائلا إن الرأي في فعلة الزوج “دي ورقة تانية”.
وبالطبع، فإن المسألة لا تقف عند الشاكين فحسب، بل هناك المؤيدون والمروّجون، وتلك الصورة الفوتوغرافية التي تصاحب عادة منشورات الدعوة للتعدد، ونجد فيها رجلا واحدا، بصحبته أو خلفه في زاوية الصورة امرأتان أو ثلاث أو أربع نساء هن زوجاته المفترضات، ولا مانع من بعض القصص التي لا نعرف – كعادة السوشيال ميديا – مدى صدقها من كذبها، عن تلك الزوجة المخلصة التي اختارت بنفسها زوجة ثانية لزوجها الحبيب، أو القصص “الخشنة”، عن الزوج الذي استاء من زيارات زوجته الكثيرة لصديقتها المقربة، فتزوج من الصديقة أيضا ليقرّب بينهما إلى الأبد!
والواقع أن نظرة محايدة بأعين مفتوحة إلى تلك الصورة المروّجة، التي يقف فيها الرجل مبتسما وخلفه الزوجات الأربع، لا يمكن ألا تحيلنا إلى “ورقة” أخرى صارت جزءا من التاريخ هي ورقة “ملك اليمين”، حيث كان يمكن للرجل، إلى جوار زوجاته، أو بدلا من زوجاته، أن يضم إلى فراشه امرأة أو اثنتين أو عددا من النساء، وكان ذلك الوضع قائما وشرعيا طوال تاريخ الإسلام، إلى أن بدأ العالم في تجريم ممارسة الرق، وكذلك في مصر إلى أن وقّع الخديوي إسماعيل مع إنجلترا معاهدة الإسكندرية لمنع الرقيق عام 1877، وعلى الرغم من دفعه تعويضات كبرى لأصحاب الرقيق، الذي كان تجارة رائجة للغاية في مصر، كما في كافة أرجاء العالم الإسلامي، إلا أن الإلغاء لم يمر من دون مقاومة كبرى، كان على رأسها رجال الدين، الذين رأوا أن في إلغائه تحريما للمباح من الدين، وكما في كل التغييرات الاجتماعية، ظلت الممارسات العرفية قائمة لزمن طويل بعد الإلغاء الرسمي، إلى أن انتهت اليوم وصارت غير مقبولة لا اجتماعيا ولا قانونيا، بل إنها تمثل صدمة للأجيال الجديدة حين تعرف بها أو بتفاصيلها.
هكذا فإن وجود “ملك اليمين” كنص قرآني، لم يمنع إلغاؤه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والذي يندر فيه اليوم أيضا تطبيق ما يُعرف “بالحدود” في عقوبات السرقة والزنا و”الفساد في الأرض”، وليس موضوع هذا المقال أن يناقش التبريرات الفقهية لهذا وذاك، بل أن يقر حقيقة واقعة، وهي أن النصّ على “تعدد الزوجات” في القرآن لا يجعل من المستحيل إلغاؤه، تماما كما هو الحال مع آيات الرق والرقاب وملك اليمين وغيرها.
وبالطبع، فإن ثمة آراء ترى – بعيدا عن النص الديني – أن تعدد الزوجات مسألة حرية شخصية، فمن شاء فليعدد ومن شاء فليمتنع، ولكن حتى مع تجاوز أن كلمة “الحرية” يجب تناولها بحذر شديد في القضايا ذات الصبغة الاجتماعية/ الاقتصادية (حيث قد تكون الحرية شكلية نظرية فحسب)، فإن كون هذا النوع من الزواج، يقتصر التعدد فيه على الزوجات من دون الأزواج، أي أنه حق للرجل وحده من دون المرأة، هو أمر يتضاد مع مبدأ المساواة، وهو المبدأ الأصل والأساس في كل الدساتير –ومن ثم المجتمعات – الحديثة، ومخطئ من يظن أن الدساتير/ القوانين المنحازة، لا تسبب في المجتمع إضرارا بالغة على جميع المستويات.
إن “المظالم”- بحسب تعبير شيخ الأزهر– التي تتعرض لها المرأة والأولاد بسبب الأب المزواج كثيرة تفيض عن مساحة هذا المقال، أما ما لا يتم تناوله بما يكفي فهو الضغط النفسي الدائم الذي تعيشه الزوجة أمام هذا “السلاح” الذي يملكه الزوج مهما توثقت علاقتهما أو طالت عشرتهما، قدرته على إذلالها في أي وقت بزوجة ثانية، قد تكون في بعض الأحيان في عمر بناتها، وتأثير هذا الضغط النفسي على علاقة المرأة بزوجها وأبنائها وخياراتها في الحياة، وتأثير كل ذلك – بالتبعية – على المجتمع كله، الذي مهما عظم أو صغر شأنه، فإن أبناءه جميعا يخرجون من رحم تلك المرأة، ويعيشون سنوات تكوينهم في حضنها.