صناعة الأيقونة
أشك في أن يرى أي إنسان الصورة السابقة عادية، كما أشك أيضا في أن يتردد أي إنسان في نسبة هذه الصورة إلى الحدث: ثورة 25 يناير، المكان: ميدان التحرير. ثمة عشرات من الصور الشبيهة للميدان في زمن الثورة.
تختلف زاوية التصوير وفي أي ساعة من النهار أو الليل التقطت الصورة، ولكنها كلها تستدعي الحدث والمكان بنفس التلقائية ومعهما مشاعر قد تتباين بين شخص وآخر ولكنها تتشابه في قوتها. مثل هذه الصور تستحث مشاعر قوية في نفس الناظر إليها، ترتبط بذلك الذي تستدعيه وتستحضره وتحييه. هذه الصورة وغيرها كثير من زمن الثورة تتخطى كونها صورة توثيقية لحدث، إنها أيقونة.
وهي كأيقونة لا ترتبط بأي حال باللحظة المحددة التي يفترض أنها توثقها. قد تكون هذه الصورة قد التقطت في يناير 2011، أو في أي مليونية شهدها الميدان في الشهور التالية وحتى يوليو من نفس العام، في الواقع ثمة صور للميدان في 30 يونيو 2013 لا يمكن تمييزها عن هذه الصورة، بالرغم من أنها توثق حدثًا سيتفق أغلب الناس على أنه يختلف بشكل جذري عن حدث ثورة 25 يناير، ولكن أي من هذه الصور دون إشارة واضحة إلى تاريخ التقاطها سيستدعي أولا حدث الثورة، رغم أن ذلك توثيقيا لن يكون دقيقا على الإطلاق. وهذه في الواقع أولى صفات الأيقونة المحيرة، فهي لا تشترط الدقة في إشارتها إلى ما ترمز له. هي ببساطة تربط صورة بمشاعر وتصورات وأفكار من يراها حول شيء ما.
ولكن الثورة ليست مجرد حدث يولد وينتج العديد من الأيقونات التي تحيل إليه، الثورة في الواقع هي أيقونة في حد ذاتها، ولهذا في اعتقادي عواقب مهمة في تعاملنا مع الثورة كحدث، أو ربما في عدم قدرتنا على التعامل مع الثورة كحدث. لفهم هذه العواقب نحتاج إلى فهم الأيقونة وأثرها، وهي مهمة أكثر سهولة إذا ما استخدمنا الصورة الأيقونية كأداة لها، فالصورة هي شكل الأيقونة الأكثر شيوعا والذي تظهر فيه صفاتها وأثرها بوضوح أكبر مما تظهر به في أشكالها الأكثر تعقيدا مثل حدث الثورة.
ومن ثم ففي السطور التالية أبدأ بمحاولة فهم الأيقونة من خلال شكل الصورة الأيقونية أولا قبل أن أطبق هذا الفهم على تشكل حدث الثورة كأيقونة، وأخيرا أطرح تصورا مختصرا لإمكان التخلص من العواقب السلبية لأثر أيقونة الثورة دون التخلي عن تصديقنا في خبرتنا الشخصية بها.
مم تتشكل الأيقونة
في يونيو 1972 قصف طيار أمريكي بقنابل النابالم ما بدا له على أنه مجموعة من مقاتلي جيش فيتنام الشمالية يهاجمون خطوط القوات الأمريكية المرابطة خارج بلدة تدعى ترانج بانج، من أصابهم القصف كانوا في الواقع مجموعة من المدنيين الفارين من البلدة المحاصرة طوال أيام سابقة، ومن بينهم كانت كيم فونك الطفلة ذات التسعة أعوام التي نجت من القصف واستمرت في الفرار حتى التقطت صورتها عدسات كاميرا مصور فيتنامي يدعى نيك أوت.
نُشرت الصورة في اليوم التالي في النيويورك تايمز، ونال مصورها لاحقا جائزة بولتزر للصورة الصحفية “الاستثنائية”. ولكن قبل أي شيء أصبحت هذه الصورة أيقونة لا يمكن للزمن محوها. وكانت أداة مهمة استخدمها رافضو الحرب المناضلون من أجل وقف التدخل الأمريكي في فيتنام.
الصورة الفوتوغرافية هي الشكل الرئيسي لأيقونات العصر الحديث. وموضوعها في أغلب الأحيان هم أشخاص عاديون في قلب حدث استثنائي، وهو ما يجعل أيقونات زماننا الدنيوية هذه، تبدو بعيدة الشبه بتلك التي أخذت اسمها عنها وهي أيقونات الماضي والحاضر الدينية. ولكن هذا الاختلاف على أهميته لا ينفي أن تشابهات أيقونات الحاضر الدنيوية مع سميتها الدينية أكثر من اختلافاتها عنها وأكثر أهمية في تحديد ما تكون الأيقونة وكيف تصنع أثرها.
في صورة “فتاة النابالم” أول ما يجتذب عينيك هو الجسد العاري، وأول رسالة تصل إليك هي ضعف صاحبته. البشر من أي جنس أو عمر دائما أكثر ضعفا في حال العري. العري ذاته كاف لاختزالهم إلى جسد. أضف إلى ذلك أنها طفلة، أنثى، وأن ملامح وجهها تطفح بالذعر الشديد والألم، وذراعاها الممدودتان تجمعان بين إشارات الاستنجاد واليأس والاستسلام لقدر محتوم، لقوة قاهرة أضخم كثيرا من هذا الجسد الهش.
وفي خلفية الصورة، الجنود، ثم الدخان الأسود المتكاثف ليملأ الأفق، لا يتركان مجالا للتردد في استدعاء فكرة الحرب. لا يهم إن كنت تعلم الخلفية التوثيقية للصورة ومتى وأين على وجه التحديد التقطت. اليوم بعد ما يقرب من نصف قرن من تاريخ التقاطها، ثمة عدد أقل كثيرا من البشر يمكنهم أن ينسبوا الصورة إلى الحدث الذي ارتبطت به، ولكن هذا لا ينفي عنها أيقونيتها، لأنها ستستدعي فورا مشاعرك وتصوراتك وأفكارك بل ربما ردود أفعالك الجسدية تجاه مدى وحشية الحرب ومدى ضعف البشر العزل/العراة أمام آلتها الجهنمية القاتلة.
ثمة علاقة وثيقة بين الأيقونة والجسد، تعود في جزء منها إلى الأصل التاريخي الديني. جسد المسيح على الصليب موضوع سائد للأيقونات الدينية، وكذلك جسد العذراء وهي ترضع المسيح الوليد. مركزية الجسد أو الفعل الجسدي في أكثر الأيقونات الدينية، تتعلق بالتضحية، تحديدا بأن يكون الجسد أضحية، فداء. هذا واضح في الأيقونات الدينية فيما يتعلق بجسد المسيح المصلوب، ولكنه موجود أيضا إذا أمعنا النظر في فعل الرضاعة الجسدي للعذراء، وفي الواقع صورة التضحية الجسدية للأم لمنح الحياة لرضيعها أقدم من الديانة المسيحية. وهي ثيمة متكررة في تصوير الإلهة إيزيس مع ابنها حورس، في أعمال النحت والجداريات.
مركزية الجسد في خلق الأيقونة هي مصدر العديد من صفاتها، وهي أيضا مصدر رئيسي لفعاليتها وقدرتها على التأثير. فبخلاف ارتباط الأيقونة من خلال الجسد بالأضحية والفداء، فهي أيضا تكتسب من خلاله اختزاليتها. فالجسد يختزل الشخص، أو في الواقع يستبعد خصوصيته الفردية بشكل كامل. ما يبقى من الشخص في الأيقونة هو المعالم الجسدية المميزة لهوية عامة، وهو ما يجعل من السهل على من يختبر الأيقونة أن يتعرف على نفسه بشكل تلقائي ودون وعي تقريبا في الجسد المركزي فيها. الرابطة المتولدة بين الجسد في الأيقونة وأجساد من يختبرونها تتصل بأعمق صور الإدراك للذات المتضمنة في الجسد نفسه دون حاجة إلى أية تصورات عقلية. هذا الإدراك ليس واعيا في معظمه وهو ما يؤدي إلى أن تكون ردود الفعل تجاه الأيقونة عميقة وقوية وشخصية للغاية. ما يحدث هنا هو تواصل جسدي شبه مباشر، يستشعر من يختبر الأيقونة الحالة الشعورية للجسد المركزي فيها بشكل جسدي مباشر، الذعر، الخطر، أو الحماسة والنشوة، وغير ذلك حسب السياق.
ما يعنيه ذلك هو أن الإدراك الحسي perception للأيقونة تكون له الأولوية والغلبة على أي إدراك عقلي cognition تال لها. أي أن تصوراتنا وأفكارنا حول الأيقونة تكون محكومة بمشاعرنا التي تكونت مسبقا من خلالها. ويؤدي ذلك إلى أن تلقينا للمعلومات حول الحدث الذي تحيل الأيقونة إليه يمر عبر مصفاة مشاعرنا التي تسمح فقط بمرور المعلومات المتوافقة معها وتقاوم بشدة أي معلومات تتناقض معها. وهذا ما يمنح علاقتنا بالأيقونة والحدث الذي تشير إليه طابعا إيمانيا يماثل الاعتقاد الديني، أي أن تصديقنا لتصوراتنا حول الحدث ترقى إلى الإيمان واليقين الذي تصعب زعزعته.
إعادة خلق الثورة كأيقونة
للجسد وجود مركزي طاغ في فعل الثورة. الثورة بالتعريف هي هذه المواجهة بين الجماهير التي لا تملك إلا أجسادها، وبين قوة غاشمة مدججة بالسلاح. الثورة هي اختصار للبشر في وجودهم الجسدي، هي حشد للأجساد في مواجهة آلة العنف والقمع والقتل. وهي بالتأكيد فعل تضحية بالجسد المفرد؛ تعريضه لأذى قد يصل إلى القتل، بغرض الإحياء؛ إحياء جسد جماعي تنصهر فيه الأجساد المفردة. الثورة بذلك هي فعل “فداء” بامتياز. والفعل الثوري بهذا المعنى أيقوني بذاته، وهو يكتسب هذه الأيقونية بواسطة مركزية الجسد والفداء فيه. بالنسبة لهؤلاء الذين اختبروا الثورة بشكل مباشر، أي عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، كانت خبرتهم بها جسدية أكثر من أي شيء آخر. وهي خبرة لا تشبه أي تجربة أخرى لهم. فهي تنحفر في ذاكرتهم كسلسلة من الأحاسيس الجسدية الحادة التي تتعلق باللحظات الاستثنائية للمواجهات بصفة خاصة، أي تلك اللحظات التي كان فيها الجسد على المحك، على الخط الفاصل بين الحياة بعنفوان يندر الشعور به، وبين الموت الذي لم يكن في وقت آخر بنفس القرب.
ذاكرة الثورة لدى أي منا تزدحم أولا بالمشاهد الاستثنائية، الأيقونية، لأفعال تتجاوز اليومي المعاش، وقبل أي شيء تتجاوز الحسابات المعتادة التي يجريها أي منا قبل أن يقدم على فعل ما مهما كانت بساطته، كعبور الطريق؛ حسابات السلامة في مقابل الخطر، المكسب المتوقع في مقابل الخسارة الممكنة إلخ. هذه المشاهد مرة أخرى تترك أثرها المباشر على إدراكنا الحسي، تستدعي معان مجردة مطلقة في إطار إيماني تصديقي ويقيني. ذاكرة الثورة أيضا تزدحم بالأيقونات البشرية قبل أي أحد آخر الشهداء هم أيقونات الثورة بامتياز. الشهادة، النموذج الأعلى للتضحية، حيث تكون التضحية بالحياة وبالوجود نفسه، تترك أثرا لا يضاهيه أي شيء آخر.
يمنح الشهداء ذلك الذي ضحوا بحياتهم في سبيله، أي الثورة، حياة ووجودا من نوع مختلف، وجودا يسمو فوق الطبيعة المادية للحدث. ولكن تضحية الشهداء لا تمنح حياة جديدة لحدث الثورة وحده بل تمنح هذه الحياة لكل من شاركوا في هذا الحدث ونجوا من الموت الذي كان قريبا من كل واحد فيهم، ولكنه اختار البعض الآخر بعشوائية تامة. إن هذا يجعل الحياة الجديدة الممنوحة لمن نجا دينا يستشعر مسؤولية سداده تجاه الشهداء من خلال الثورة. وهذا وجه آخر للطبيعة العقائدية للثورة، فهي ليست مجرد أيقونة وموضوعا للإيمان بل هي نقطة تلاقي التزامات أخلاقية مثقلة بخليط من الشعور بالذنب والديّن.
أثر الأيقونة على رؤية الواقع
كأيقونة إذن، تؤسس الثورة لوجودها في نفوسنا من خلال إدراكنا الحسي المباشر بها والمتمثل في مجموعة من المشاعر بالغة القوة التي تستدعيها ذكرى الثورة بشكل تلقائي غير واعٍ. في المقابل ترتبط الثورة بأفكارنا وتصوراتنا العقلية عما تعنيه، عن غاياتها وأهدافها، قيمها ومبادئها.
ولا ينفصل إدراكنا العقلي هذا للثورة عن إدراكنا الحسي بها، بل يمثلان معا وحدة واحدة لا تتجزأ. والإشكالية هنا هي تعميم كل منا لهذه الوحدة بجانبيها على جميع من يعتبرهم ينتمون إلى الثورة بقدر انتمائه إليها؛ أي هؤلاء الذين شاركوا بحدث الثورة وانصهرت أجسادهم فيه. هذا التعميم يعني تخيل أن ملايين المشاركين في حدث الثورة يشتركون في إدراكهم العقلي لها، أي يتشاركون الغايات والأهداف والقيم والمبادئ ذاتها، وهذا بالطبع غير صحيح. فالحقيقة أن إدراكنا العقلي للأيقونة لا يصدر عنها، ولا يوجد فيها بأي شكل من الأشكال. العلاقة الرمزية التي تعمل فيها الأيقونة كدال يشير إلى دلالة، عشوائية تماما وتتعلق بكل واحد منا. فدلالة الثورة العقلية يتشاركها فقط من لهم تصورات سابقة متشابهة تعمل الثورة كرمز يستدعيها. وهذا يعني أن هناك عدد من دلالات الثورة بعدد التصورات والأفكار المختلفة المرتبطة بالإدراك العقلي لأناس مختلفون لها.
كأي موضوع للإيمان ينتج التباين في الإدراك العقلي لما ترمز إليه الأيقونة حالة من الصراع حول التعريف الأدق للثورة، وفي خضم هذا الصراع تنشأ هويات فردية مثل الثائر الحق، والخائن للثورة المرتد عن قيمها وأهدافها، وهويات جماعية مثل الثوار وأعداء الثورة. ويفترض في هذه الهويات أن تسمو على غيرها وأن تكون عابرة لها. ولكن ذلك يصطدم بحقيقة أن تصورات كل منا المختلفة للثورة تتشكل من خلال هوياتنا السابقة عليها والمختلفة فيما بينها. ولكن الطبيعة الأيقونية تخفي بالأساس هذه العلاقة، فهي تنتج رمزا عقائديا يبدو كأنه مكتمل بذاته ويقسم خط الزمن إلى ما قبله وما بعده، ويتطلب كعقيدة من المؤمنين به أن يتخلوا عن هوياتهم وعقائدهم السابقة عليه. وبعبارة أخرى تحرف الطبيعة الأيقونية للثورة تصوراتنا للواقع ومدى اختلافه بعدها عما كان عليه قبلها، إلى حد تصور أن الثورة كحدث قد أسست لواقع جديد منبت الصلة بما سبقها.
كثير من الأفعال وردود الأفعال والمواقف التي صدرت عن أطراف مختلفة فاعلة على الأرض وفي الواقع في الفترة التالية على الثورة، وحتى اليوم، يمكن فهمه وتفسيره من خلال أثر الثورة كأيقونة تنتج عدسة خاصة تفرض على الفاعلين رؤية الواقع الموضوعي بشكل مختلف. ولا يقتصر ذلك على الأطراف التي كانت بشكل أو بآخر على (جانب) الثورة أو في (خندقها). هذا التصنيف في حد ذاته تنتجه عدسة الثورة، وتوهم البعض بأن اختلاف علاقتهم (الخاصة) بالثورة عن علاقة غيرهم هو اختلاف في الوجود والعدم، أي أن هؤلاء الآخرين لا علاقة لهم بالثورة.
والحقيقة أن أثر الأيقونة لا يشمل فقط من يشكلون عقيدة إيجابية تجاه ما يرون أنها ترمز إليه، وإنما يشمل أيضا هؤلاء الذين تتشكل لديهم عقيدة مضادة. هذا مرة أخرى يعود إلى أن الأيقونة لا تحمل بذاتها المعنى الذي تدل عليه وإنما هي تستدعى المعنى الذي تنتجه تصورات وأفكار الواقع تحت تأثيرها. أثر الأيقونة مرة أخرى يتلخص في قوة المشاعر التي تربط الأيقونة بينها وبين تلك التصورات والأفكار فتكسبها قدرا من الثبات والتصديق الإيماني. وكمثال لا يقل تصديق وإيمان من يرى أن الثورة مؤامرة لهدم الدولة، وأن (الثوار) عملاء يتلقون تمويلا من جهات خارجية إلخ، عن تصديق وإيمان من يراها محاولة لاستعادة المصريين لحريتهم وسيادتهم على مصائرهم. وما ينبغي أن ندركه أن الثورة نفسها، أي الأيقونة هنا، لا تنتج أي من تلك الأفكار والتصورات بذاتها، بل ينتجها أفراد كل طرف حسب عملية معقدة تتعلق بما راكموه عبر تجاربهم الحياتية من تصورات وأفكار، وبالتالي فكل طرف سينتج معان مرتبطة بالثورة تختلف إلى حد التناقض التام مع غيره. وهذا لا يعني الكفر بالثورة، أو الكفر بالوطن، بالمعنى الديني العقائدي الذي يمثل الكفر فيه إنكار حقيقة مع المعرفة بها.
اقرأ أيضا:
ثورات العالم الكبرى.. توقف الضجيج وبقاء الأثر
التحرر من الأيقونة أو تحريرها
هل يمكننا أن نتحرر من أثر الأيقونة على إدراكنا العقلي للواقع، دون أن يمثل ذلك تنكرا لإدراكنا الحسي لها، أي لتجربتنا المباشرة المرتبطة بها؟ أو لنطرح السؤال بشكل عملي، هل يمكننا أن نتخلى عن عدسة الأيقونة في قراءة الواقع المؤدي للثورة والناتج عنها، دون أن يعني ذلك أن نكذب مشاعرنا المرتبطة بمعايشتنا المباشرة لحدث الثورة؟ أعتقد أن هذا ممكن، رغم صعوبته، والواقع أن الاعتراف بصعوبته وعدم الاستهانة بها هو شرط لتحقيقه، لأن الاعتقاد في أن الأثر الأيقوني للثورة هو مجرد وهم سيتبدد بمجرد أن نعرف به هو بالتأكيد اعتقاد خاطئ وقد يؤدي بنا إلى إيهام نفسنا بالتخلص من هذا الأثر في حين نستمر في قراءة الواقع من خلال عدسته دون أن ندري. إن أهم ما ينبغي أن نتعلمه عن أثر الأيقونة هو على وجه التحديد أنه يعمل من خلال لا وعينا، ومن ثم لا يمكن أن ننجح في التحرر من أثره على إدراكنا العقلي بدون قطع صلته بإدراكنا الحسي، الذي ينتمي إلى التجربة المباشرة لنا وخبرتنا بالثورة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن نتخلى عن هذه التجربة أو أن نكذب مشاعرنا المتعلقة بها، وهو ما يمر به الكثيرون ظنا منهم أن تغيرات الواقع كشفت زيف تجربة الثورة نفسها. والواقع أن ما انكشف زيفه هو تصوراتهم العقلية التي شكلوها سابقا من خلال عدسة الأيقونة. أما تجربة الثورة، تلك الخبرة المباشرة التي عاشها كل منا بجسده أولا، في الميدان وعلى أطرافه المؤدية إليه، فهي حقيقية تماما ولا يمكن تزييفها.
ثمة علاقة وثيقة بين الإفراط في أمل غير مؤسس على معطيات الواقع في لحظة انتصار مبالغ في حجمه، وبين التفريط في يأس كامل، هو أيضا غير مؤسس على معطيات الواقع في لحظة هزيمة مبالغ في نهائيتها. كلاهما يتعلق بتصورات تحرفها عدسة الأيقونة، أو الكفر بها، فهذا الكفر لا يعني التخلي عن عدسة الأيقونة وإنما يعني فقط أننا أصبحنا ننظر من خلالها من الجانب الآخر لها. ولذلك ثمة أهمية حقيقية للتخلص من هذه العدسة حتى تكون رؤيتنا مبنية على تقدير للواقع تأخذ العناصر المختلفة فيه أحجامها وأوزانها الحقيقية.
ولا يتعلق الأمر هنا بالأمل أو اليأس، ولا بالتفاؤل والتشاؤم، بل يتعلق بأن الوجود في العالم يفرض على كل منا أن يكون فاعلا فيه، وما يظنه أي منا تجنبا للفعل هو فعل في حد ذاته. فإذا كنا فاعلين بالضرورة ورغم أنفنا، فعلى الأقل لتكن أفعالنا مؤسسة على فهم أفضل للواقع على أمل أن تكون أكثر تأثيرا به.