في بوست على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، كتب طبيب شاب في سنة الامتياز يشكو مما يتعرض له من أذى نفسي في جولات المرور على المرضى اليومية والتي تقودها طبيبة وأستاذة بكلية الطب.
الأذى النفسي مصدره أولًا هو نظرات المرضى الاستنكارية التي يوجهونها إليه بينما توجه الطبيبة كلامها إليهم، ثم تصدر إليه أو إلى أي من زملائه توجيهاتها بخصوص الحالة. النظرات الاستنكارية سببها كما يدرك الطبيب الشاب هو وضعه كرجل في موضع التابع لامرأة، فالمرضى يتوقعون أنه في حال وجود رجل أن المبادرة بتوجيه الكلام إليهم ستكون له، وهم لا يتوقعون من رجل أن يتلقى تعليماته من امرأة، بعض النظر عن التراتبية العلمية والوظيفية بينهما. ومصدر الأذى النفسي ثانيًا هو أن الطبيب نفسه يستشعر حرجًا حقيقيًا في وضعه كرجل كتابع أو مرؤوس لامرأة، وهو يتساءل “أليس شعوره طبيعيا طالما أن (القوامة) ينبغي أن تكون للرجل؟”.
تعليقات كثيرين ممن مر بهم البوست كانت ساخرة من “ضعف شخصية” الطبيب الشاب. في المقابل، لا شك أن رجال كثيرون شاركوه مشاعره، واعتبروا أن وضعه في هذا الموقف ظالم (لرجولته). وفي الحقيقة أنه ليس ثمة اختلافًا حقيقيًا بين الطرفين؛ في النهاية كلاهما اعتبر شعور الطبيب (طبيعيًا)، أحد الطرفين اعتبر شكواه ضعفًا، والآخر رأى أن له الحق في التعبير عنها.
ولكن هل شعور هذا الطبيب الشاب بالأذى النفسي لإهانة تفوقه الذكوري دليل في حد ذاته على أن التفوق الذكوري هو جزء من (طبيعة) الذكر؟ وهل ما نعتبره طبيعة الذكر، هو بالفعل من صنع الطبيعة أم من صنع المجتمع؟
الطبيعة في مقابل التنشئة
سؤال ما إذا كانت سلوكيات البشر، تعكس طبيعة ثابتة لهم، تعدلها ظروف نشأتهم بعض الشيء ولكنها تبقى في الأساس (طبيعية)، أم أنها جميعها ناتجة عن ظروف تنشئتهم الاجتماعية، هو واحد من الأسئلة المؤسسة للعلوم الاجتماعية وأحد إشكالياتها التي تنقسم مدارسها المختلفة حولها. لا أنوي بالطبيعة تناول هذه الإشكالية هنا، ولكنني أشير إليها كإطار واسع للسؤال الذي يطرحه هذا المقال، وفي هذا الإطار كان سؤال الذكورة والأنوثة ذو أهمية خاصة، فقبل أي شيء لا يختلف أحد على أن ثمة أصل بيولوجي (طبيعي) واضح لأن يكون أي منا ذكرًا أو أنثى. هذا الأصل ينعكس في التشكيل المادي لأجسادنا وتحديدا في الخواص الجسدية المميزة لكل جنس عن الآخر وفي مقدمتها بالطبع الأعضاء التناسلية المختلفة بين الجنسين من حيث الشكل والوظيفة.
في المقابل ليس بالإمكان إثبات وجود صلة حقيقية بين الاختلافات البيولوجية بين الجنسين وبين تقسيم الأدوار الاجتماعية بينهما كما هو شائع في معظم المجتمعات البشرية، ومن ثم نشأت التفرقة بين مفهومي النوع/الجنس والنوع الاجتماعي/الجنوسة، ليشير الأول إلى الاختلافات البيولوجية بين الجنسين، في حين يتعلق الثاني بالأدوار الاجتماعية المختلفة لهما والتي تفرضها العادات والتقاليد المتوارثة في المجتمعات، وتستمر من خلال التحيزات المسبقة والأفكار السائدة حتى اليوم. وفي حين يحقق مفهوم النوع الاجتماعي قدرا من النجاح من حيث تقبل غير المتخصصين له، فلا يزال السائد هو اعتبار الأدوار الاجتماعية المختلفة للجنسين نتيجة طبيعية تعكس الاختلاف البيولوجي لهما، وتظل منطقة المشاعر والتعبيرات الجسدية التلقائية المختلفة بين الجنسين إحدى الأسس التي يبني عليها الكثيرون تمسكهم بهذا التصور.
يفرق أغلب الناس بين ما هو طبيعي وما هو مكتسب، بأن الطبيعي، أي ذلك الذي يصدر عن طبيعة البشر، ينعكس في مشاعرهم التلقائية التي لا يمكنهم التحكم فيها، فهم لا يخلقونها بأنفسهم كما أنهم لا يمكنهم منعها. يمكنهم بالطبع كبتها، وإخفائها، ومحاولة تجاوزها، ولكن هذا لا يمنع تكرار إحساسهم بها حسب الظروف والمواقف التي يمرون بها. اتفاق الغالبية على أن شعور الطبيب الشاب بالأذى النفسي في الموقف الذي شكى منه هو شعور طبيعي، يتعلق بأنهم يعتبرون شعور الذكر بالأفضلية المطلقة والأولية على أي امرأة هو جزء من (طبيعته) كذكر، لا يختلف في ذلك عن قضيبه، العضو الذي يميزه بشكل مادي واضح عن النساء اللاتي لا قضيب لهن. ولكن الحقيقة أنه في حين أن امتلاك الذكور لقضيب هو واقع بيولوجي معروف أساسه في التكوين الجيني للذكر مقارنة بالأنثى، فلا مكان في جينات الذكور لأي شيء يؤدي لأي أفضلية لهم على الإناث. ولا مكان في هذه الجينات لأي شيء قد يؤدي إلى الاختلافات السلوكية المتعددة التي يرى فيها الناس تأكيدا وتفسيرا لأفضلية الرجل على المرأة. واقع الأمر أن تلك الأمور جميعها ليس مصدرها الطبيعة والبيولوجيا على وجه التحديد، ولكن مصدرها التنشئة الاجتماعية للذكور والإناث. ولكن في حين يسهل فهم كيف يتعلم الناس سلوكياتهم المختلفة ويتدربون عليها، تظل مشاعرهم وأحاسيسهم خارج نطاق التعلم والتدريب بالنسبة للغالبية.
بشكل تلقائي تماما، يستشعر الرجل أن موقعه الأعلى فوق المرأة “طبيعي”، بمعنى إن مصدره هو طبيعته كرجل وطبيعة المرأة كامرأة. وهو يجد الدليل على ذلك في حقيقة أن ميوله تتجه إلى سلوكيات تعبر عن هذا الموقع الأعلى، ومشاعره تنفر بشكل جسدي واضح وتلقائي عندما يوضع في أي موقف نقيض لموقعه الأعلى كرجل. كما يجد الدليل على سلوكيات النساء اللاتي يميل معظمهم للخضوع بشكل تعبر عنه سلوكياتهن وردود أفعالهن التلقائية وخاصة الجسدية منها (الانكماش في وجود الرجال، النظر لأسفل وتحاشي النظر المباشر في أعين من يتحدثن إليه، خفض الصوت، احمرار الوجه خجلا، الارتباك والتلعثم). هذا الشعور التلقائي بأن الاختلاف بين الجنسين في الأحاسيس والمشاعر والسلوكيات التلقائية تشترك فيه أيضا غالبية النساء، في الواقع بعض النسويات البارزات اعتنقن مبدأ الاختلاف الجذري بين الجنسين وبنين تصوراتهن عن سبل تحرير المرأة من الهيمنة الذكورية على النظر إلى هذا الاختلاف على أنه مصدر قوة للمرأة وليس العكس، ومن ثم فهن يتقبلن كافة الصفات الاجتماعية المنسوبة إلى طبيعة المرأة ولكنهن يرفضن تفسير المجتمع لها على أنها مظاهر ضعف وتبعية للرجل. ولكن مشكلة هذا الاتجاه تكمن في أن الصفات الاجتماعية للنساء منشأة بالتحديد كعلامات على الموقع الاجتماعي الأدنى لهن، فهي ليست سلبية في ذاتها، بل في الواقع تعتبر إيجابية إذا ما تحلت بها النساء، أي عندما يبقين في موقعهن الذي يريده لهن المجتمع، كتابع، معتمد على الرجل. في المقابل ثمة بديل لفهم هذا المشاعر والسلوكيات التلقائية لدى الجنسين على إنها من صنع المجتمع، ويقدم علم الاجتماع تفسيرا لذلك.
المعرفة الجسدية
نحن منغمسون في عالمنا الاجتماعي بأجسادنا بشكل أولي ومباشر، قبل أن نتعامل معها بعقولنا كشيء منفصل عنا، ندركه ونفكر فيه بعقولنا. ونحن منذ الأيام الأولى لوجودنا في هذا العالم نمتص مدخلاته على هيئة أحاسيس ومشاعر تترسخ داخلنا وتشكل عالمنا الداخلي، أي نفوسنا ولا وعينا. في هذا الداخل تتراكم المشاعر الأولية التي تصدر عنها ردود أفعالنا التلقائية والتي نتصور أنها تعبر عن طبيعتنا. الحقيقة أن تلك المشاعر هي فقط صورة أخرى للطريقة التي ينبني بها عالمنا الاجتماعي، صورة مغروسة داخل نفوسنا، تؤكد نفس المبادئ الأساسية لتصنيف البشر التي يقوم عليها العالم الاجتماعي. ولكن لأن الصورة المغروسة في نفوسنا تعبر عن نفسها بشكل مباشر من خلال أجسادنا، في سلوكياتنا التلقائية تماما، وفي ردود أفعالنا التي لا سيطرة لنا عليها، فهي أولا تبدو طبيعية ولا تدخل فيها لأي تنشئة أو تعليم أو تدريب تلقيناه، ثم هي ثانيا تجعل عالمنا الاجتماعي يبدو لنا (طبيعيا(، ويبرر نفسه بنفسه، أي أنه لا يحتاج إلى تبرير من شيء خارجه، فمبرراته نجدها داخلنا في تقبلنا التلقائي له وعدم إمكان تصورنا لأن يكون مختلفا، أو إذا ما ووجهنا بفكرة أن ثمة بديل لأي من عناصره، سنرى هذا البديل خارج عن الطبيعة، شاذ، منفر، ولا يمكن قبوله.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن “الجزء الأساسي من تعلم الذكورة والأنوثة يميل إلى نقش الاختلاف بين الجنسين في الأجساد (خاصة من خلال الملبس)، في صور طرق المشي، الحديث، الوقوف، النظر، الجلوس، إلخ.” هذا النقش يحدث في كل لحظة من حياتنا، وبصفة خاصة في أعوام عمرنا الأولى، فالاختلاف بين الجنسين، هو أول أشكال الاختلاف التي يتلقى وعينا علامات مستمرة لها من خلال سلوكيات المحيطين بنا وطرق تعاملهم مع بعضهم البعض التي تعكس علاقات القوة المتبادلة بينهم. ومن ثم فالطفل في سنوات العمر الأولى يتعرف على اختلاف الجنسين وعلاقة سيادة أحدهما على الآخر كوحدة واحدة لا ينفصل أحد طرفيها عن الآخر، بمعنى أنه يدرك وجود الذكر من خلال كونه السيد، ووجود المرأة من خلال كونها المسود، والاختلاف بينهما من خلال علاقة السيادة هذه. هذا الاختلاف وعلاقة السيادة تُنقشان في لاوعي الطفل، ممزوجتان بالمشاعر والأحاسيس التي يتلقاها بشكل جسدي في علاقة مباشرة بالعالم الحميم لأسرته، والذي يعكس بدوره العالم الاجتماعي الواسع، وذلك قبل حتى اكتسابه لمهارات اللغة التي تفتح أمامه لاحقا مزيدا من النوافذ لتلقي مدخلات عالمه الاجتماعي.
تتشكل المعرفة الجسدية بربط مدخلات عالمنا الاجتماعي بردود أفعال تلقائية، كما ترتبط بلغة الجسد التي نتشربها منذ وقت مبكر، فنحن نتعرف على ذواتنا من خلال التماهي مع من نرى فيهم صورتنا الأكبر. فيرى الذكر في الأب صورة أكبر له، مثال لما يعنيه كونه ذكرا، وترى الأنثى في أمها صورتها اللاحقة ومثال ما يعنيه كونها أنثى. وتمثل هويتنا الجنسية هذه الأساس الذي نبني عليه ذواتنا مع تقدمنا في العمر، وهي لذلك الأصل (بمعنى الثروة) الأول الذي نستثمر فيه نفسيا وتتعلق به قيمتنا في نظر أنفسنا، كانعكاس لقيمتنا في نظر الآخرين. وتزيد خبراتنا في المجتمع الأوسع عندما ننتقل بين دوائره المختلفة هذه النقوش الأولى ثباتا وتجذرا، ففي كل خطوة نخطوها تعيد خبراتنا تأكيد ما نقش في نفوسنا، من خلال تعاملات الجنسين في الفراغات الاجتماعية المختلفة، ومن خلال الخطاب المتردد على المنابر الدينية وفي الإعلام وفي المنتج الثقافي بصوره المختلفة. وفي تصورنا أن ما نشعر به كطبيعة أصيلة لنا، يترجمه المجتمع من حولنا تصديقا له، في حين أن الحقيقة أن ذلك الذي نشعر به هو تحديدا ما نقشه المجتمع فينا. ولكن التناغم بين ما يشعر به الذكر من قيمة أساسية له يتناقض في أحوال مختلفة مع موقعه الاجتماعي عندما يتدخل في تحديد هذا الموقع عوامل أخرى بخلاف الذكورة في مقابل الأنوثة، ففي حين أن هذا الاختلاف هو المحدد الأول للموقع داخل الفراغ الاجتماعي للأسرة، فهو يدخل في تفاعلات معقدة لتحديد الموقع الاجتماعي في فراغات أخرى، أولها هو فراغ المدرسة الذي يجد الذكر الطفل فيه نفسه في موقع التلميذ في مواجهة موقع المعلمة أو مديرة المدرسة الأنثى، والتي برغم أنوثتها يمنحها موقعها هذا في الفراغ الاجتماعي للمدرسة سلطة عليه. (يدعم ذلك أيضا أحد مبادئ التصنيف الأساسية في المجتمع وهو التراتبية بين الأطفال والبالغين).
مبادئ التصنيف والموقع الاجتماعي
بصفة عامة ثمة نوعان من عوامل تحديد الموقع الاجتماعي وعلاقات القوة بين الأفراد في المجتمع: الأول هو مبادئ التصنيف الأساسية القائمة على الهوية وهي الجنس (ذكر/أنثى)، الديانة (أغلبية دينية/أقلية دينية)، العرق (أبيض/أسود)، والطبقة؛ والتي إن كانت تعتمد في الأساس على رأس المال الاقتصادي إلا أنها تنشئ أنماط حياة مختلفة بوضوح، تطبع تنشئة الأفراد وتسهم في تعديل الطريقة التي تتشكل بها هوياتهم، بما في ذلك اتخاذ المبادئ الأساسية للتصنيف صورا معدلة نتيجة لها، فالاختلاف بين الجنسين مثلا ليس هو نفسه في الطبقات المختلفة. النوع الثاني هو العوامل التي تعتمد على مراكمة أنواع مختلفة من رأس المال، الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي أولا، ثم الأنواع الفرعية التي تكتسب قيمتها في حدود حقول اجتماعية مختلفة.
ولنوضح ذلك من خلال المثال الذي يطرحه موقف الطبيب الشاب، والطبيبة، الأستاذة الجامعية، ففي حين أن مبدأ التصنيف الأساسي حسب الجنس يضعه كذكر في علاقة سيادة في مواجهتها كأنثى، فإن حيازتها لرأس مال ثقافي، ومهني في حقل ممارسة مهنة الطب، وأكاديمي كأستاذة جامعية، يضعها في موقع اجتماعي أعلى داخل إطار المستشفى الجامعي، هذا التراكم لرؤوس أموال مختلفة يترجم إلى رأسمال رمزي، يعتمد على مدى اعتراف الآخرين برؤوس الأموال هذه والقيمة التي تمنحها لمن يحوزها. والأمر نفسه يسري على المبادئ الأساسية للتصنيف التي تترجم إلى رأسمال رمزي يضيف أو يخصم من رأس المال الرمزي الذي يحوزه الفرد ككل.
وفي مثالنا هذا من الواضح أن رأس المال الرمزي أو القيمة المتعلقة بمبدأ التصنيف لذكر أو أنثى كان عند المرضى (غالبا من طبقة اجتماعية أدنى)، وكذلك عند الطبيب الشاب نفسه، العامل المرجح للمفاضلة، متغلبا بذلك على مجموع رأس المال الرمزي المتجمع لدى الطبيبة الأستاذة الجامعية لحيازتها لرؤوس أموال ثقافية ومهنية وأكاديمية. في الواقع في حالة الطبيب الشاب نفسه لم يشفع له رأس ماله الثقافي (كحائز على شهادة جامعية مرموقة)، والمهني كطبيب، حتى لا يتم احتقاره كذكر في موضع خاضع لأنثى.
إذا ما وضعنا عامل الزمن في الاعتبار، يمكن لكثيرين منا القول بأن الموقف الذي شكى منه الطبيب الشاب ربما لم يكن ليحدث أو لم يكن ليصبح مصدر شكوى قبل خمسة عشر عاما أو ربع قرن. فهل كان مجتمعنا أقل ذكورية حينها؟ (إذا ما اعتبرنا ثقل الوزن النسبي لرأس المال الرمزي المتعلق بالذكورة في مقابل الأنوثة أحد مؤشرات الذكورية).
أم أن القيمة الرمزية لرؤوس الأموال الثقافية والمهنية والأكاديمية كانت أعلى؟ في اعتقادي كلا الأمرين صحيح؛ مجتمعنا أصبح أكثر ذكورية لأسباب مختلفة، كما أن رؤوس الأموال الثقافية والمهنية والأكاديمية قد انهارت قيمتها التبادلية في مواجهة رأس المال الاقتصادي بصفة خاصة ومن ثم فإن رأس المال الرمزي المتولد عنها والمنعكس في مدى القيمة التي يمنحها للأشخاص في أعين الآخرين قد تدنى كثيرا. هذا قد يفسر الموقف الذي استخدمه هذا المقال كمدخل له، كما أنه يفسر ظواهر أخرى كثيرة يمكن ملاحظتها في مجتمعنا هذه الأيام. وهو كذلك قد يكون مدخلًا مناسبًا للبدء في تصور سبل الخروج من الدائرة المفرغة التي يتنامى من خلالها ترسخ الذكورة كمبدأ غالب للتقييم مع ما يستتبعه ذلك.
لا شك أن الطموح إلى تعديل الخبرات التي يمر بها الأطفال في طور تكوينهم داخل الفراغ الحميم للأسرة هو طموح بعيد، ولكن بقدر ما أن ما تحفره التجارب الأولى هذه يظل دائما أكثر عمقا وثباتا من التجارب الاجتماعية التالية عليه، لكنه يظل قابلا للتعديل من خلال سبل مختلفة وبصفة خاصة من خلال تجارب التأقلم في حقول مثل المدرسة والجامعة ومجالات العمل المختلفة. العمل على تعديل علاقات الأفراد داخل المؤسسات المختلفة ينعكس على تجاربهم في هذه المؤسسات ويدفعهم إلى تطويع سلوكياتهم للنجاح في الاستمرار والتقدم فيها. حقول للتفاعل الاجتماعي مثل وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت لها أثر حقيقي على تصورات الأفراد حول أنفسهم وحول الآخرين وفي أحيان كثيرة يمكن أن تدفع البعض إلى ملاحظة بدائل قائمة لأوزان مختلفة عما اعتادوه لمبادئ التصنيف المختلفة.
على جانب آخر استعادة الوزن الرمزي لرؤوس الأموال الثقافية (العلمية والإبداعية في مجالات الفنون والأدب إلخ)، قد يكون أكثر صعوبة مما يبدو فهو يعتمد على رفع نصيب الأفراد بصفة عامة من رأس المال الثقافي، بمعنى أنه كلما ارتفع رأس المال الثقافي لفرد كلما كان أكثر تقديرا للقيمة الرمزية لرأس المال الثقافي بصفة عامة وأكثر حرصا على تعظيم هذه القيمة.
ما سعيت إليه من خلال هذا المقال هو إيضاح أن أبسط المواقف الحياتية التي يمكن أن نمر بها أو نتعرف عليها من خلال روايات الآخرين عنها، يتلاقى فيها دائما عدد كبير من العوامل الاجتماعية التي تشكل عالمنا الاجتماعي وبالتالي تشكل من خلاله ذواتنا وشخصياتنا. نحن صنيعة مجتمعاتنا قبل أي شيء آخر، ولكننا في المقابل نسهم يوميا في إعادة إنتاجها، ومن ثم فنحن لسنا آلات تمت برمجتها للعمل بشكل معين، وإنما نحن خليط من الآلية المتضمنة فينا نتيجة نشأتنا ومن الإرادة الواعية القادرة على إدراك ما حفرته خبراتنا فينا وعلى محاولة تعديله أو تجاوزه، وكذلك نحن فاعلون في دوائرنا الاجتماعية ومساهمون في عمليات إنتاج ذوات وشخصيات الآخرين بطرق مختلفة. المجتمعات تتغير بصفة مستمرة، ليس في اتجاه واحد حتمي، وإنما يظل اتجاهها في كل لحظة مفتوحا على احتمالات شتى، ونحن لسنا مجرد ركاب لا يد لنا في تحديد إلى أين يتجه المجتمع، ولكن يمكن أن يكون لنا أثر حقيقي في تحديد هذا الاتجاه إن كانت لدينا الإرادة الحقيقية لفعل ذلك.