بمراقبة بسيطة للأرقام الرسمية حول استهلاك المصريين السنوي من الفول تكتشف كم هي البقوليات مهمة ومترسخة في ثقافة هذا الشعب. وبينما لا تخلو مائدة منه يبقى هو “كباب الفقراء” المتربع في بعض الأحيان على قوائم الوجبات الثلاث.
وفق آخر تصريحات رسمية، سجل معدل الفقر في مصر 29.7% في العام المالي الماضي 2020/2019. أي أن ما يزيد عن 29 مليون مصري من إجمالي 101 مليون، يستهلكون الفول في موائد طعامهم بصفة أساسية. وهو ما يفسر حجم الاستهلاك الذي يصل إلى 60 ألف طن شهريًا من الفول.
هذه الأهمية الكبيرة للبقوليات في حياة الفقراء بدول العالم تدركها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة التي تتخذ من يوم 10 فبراير من كل عام -اليوم العالمي للبقول- فرصة للتوعية بفوائد البقوليات التغذوية وإسهامها في النظم الغذائية المستدامة وفي بناء عالم خالٍ من الجوع.
بينما اعتبرت منظمة اليونسكو البقوليات قوة من أجل الخير، لأنها متوفرة بصورة دائمة وأسعار منخفضة، تعتبر بريطانيا وأستراليا وبريطانيا من أكثر الدول المصدرة للبقوليات. بينما تراوح حجم واردات مصر من الفول خلال العام الماضي، بين 350 و450 ألف طن، وفقًا للغرف التجارية بالقاهرة. وهو الأمر الذي دفع الحكومة في العام ذاته إلى وقف تصدير هذا المحصول، ذلك لتغطية الاحتياج المحلي، في ظل أن إجمالي الإنتاج المصري من هذا المحصول لا يتجاوز 150 ألف طن سنويًا.
الأصل والتسمية
يرجع أصله إلى العصر الفرعوني، حيث وصف الفراعنة الفول في بردياتهم ورسموه على جدران المعابد. وكان يستخدم كنوع من الأعلاف للحيوانات، وكذلك كانت زراعته مفيدة للتربة. خاصة بعد زراعة الغلال الثقيلة مثل القمح. ثم تم استهلاكه كطعام بعد احتلال الهكسوس لمصر نتيجة المعاناة الشديدة من الفقر والجوع. ومن ذلك الحين أصبح الفول بديل المصريين عن اللحمة “بروتين الغلابة”.
وبحسب الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: “الفول كان أحد الأطعمة المهمة في مصر الفرعونية، حيث كان يتم زراعة الفول قرب العاصمة المصرية القديمة الشهيرة منف وغيرها من أجزاء الأرض المصرية العريقة، وعُثر على بقايا بذور الفول المصري القديم في بعض مقابر الفراعنة في طيبة وسقارة والفيوم وغيرها”.
شكل الفول عند المصريين
يختلف شكله باختلاف الطبقة الاجتماعية التي تتناوله. فالطبقات الفقيرة التي تعتبره بروتينها الرخيص، صنعت منه أوجه متنوعة مثل الفلافل (الطعمية)، والبصارة. وهي أطباق مصرية خالصة. وأحيانًا يطبخه المصري مدفونًا فى الأرز، بعد تقشيره في “المدشة” -كروش- أما الفول النابت فهو الوجبة الرسمية فى الموالد. كل هذه الأطباق لا تتعدى قيمتها فئة الجنيهات.
ورغم أنه وجبة ذات سعر زهيد، لكن الأمر تغيّر بعض الشيء خلال الأعوام الأخيرة. إذ بات سعر الوجبة قد يتجاوز العشرة جنيهات على البسطاء. بينما تطور طبق الفول المقدم للأغنياء وأصبح طاجن فول بالسجق أو اللحمة، يتجاوز الـ30 والـ40 جنيهًا، حسب المنطقة السكنية والمحل نفسه.
خلطة زوبا.. أبطال العالم
ظهرت طرق مختلفة لطهي الفول وتناوله وأشهرها كان التدميس. ذلك بالدفن في الرمال الساخنة، حيث تتم التسوية بفعل الحرارة. ومن ثم بدأ المصريين في إبداعاتهم في عالم الطهي بتحضير طبق الفول بكل الطرق المختلفة. وأصبحنا نرى الفول الإسكندراني، والفول بالطماطم، والبيض، والثوم والحمص، وتفوق البعض في صُنعه طواجن بالصلصة والسجق والكبدة وغيرها من الأطباق.
لم يكتف المصريون بتناوله في بلدهم فقط بل صدروه ثقافة إلى الدول المختلفة، فوصل الفول للخليج وتحديدًا السعودية أثناء موسم الحج، حيث أصبح وجبة رئيسية على الإفطار في رمضان. وقد وصل الأمر حد أنه يمكنك المشاركة بطبق الفول في المسابقات العالمية. لم يكن هذا خيال مؤلف فيلم “فول الصين العظيم”، لأن الأمر حدث فعلاً مع مطعم “زوبا” الذي سافر إلى لندن لمنافسة المطاعم السورية واللبنانية والإسرائيلية في “بطولة العالم للفلافل”، وبعد يوم كامل من المنافسة حصلت “خلطة زوبا” على المركز الأول. وهو انتصار جعل جون كاسن، السفير البريطاني السابق في مصر، يغرد عبر “تويتر” قائلاً: “والله وعملوها الرجالة، أتقدم بالتهنئة لأبطال العالم في بطولة الفلافل في لندن”.
البعد الاجتماعي والاقتصادي
الدكتور جمال محمد صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي، قال إن الفول والعدس من أهم محاصيل البقوليات فيما يتعلق بالأمن الغذائي المصري. ويوضح أن مصر تستورد من 70 لـ 80 % من النوع البلدي، و90% من العدس الذي على الأغلب انتهى إنتاجه في مصر. إلا أن الفول تحديدًا يبقى هو الوجبة الأشهر على موائد المصريين بمختلف طبقاتهم مع اختلاف معدلات التناول بين أصحاب الدخول القليلة والدخول المرتفعة، وفق “صيام”.
وفق الأرقام الرسمية، يبلغ متوسط استهلاك الفرد في مصر من الفول 9 كيلوجرامات سنويًا. وهو متوسط منخفض وفق ما يوضح “صيام”. هذا لأنه استهلاكه في الأساس يزداد في الفئات الأقل دخلاً، ذلك وفق ما يظهره المسح الدخلي والإنفاق للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
يشير “صيام” أيضًا إلى فروق السلوك الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء في تناول هذه الوجبة، إذ إنه لا يتجاوز عند الأغنياء وجبة الإفطار مدعومًا بأصناف أخرى. ذلك على عكس الفقراء، الذين يتناولونه بشكل أساسي ربما في الوجبات الثلاث طوال اليوم.
خلال السنوات الـ 15 الأخيرة يشهد إنتاج الفول في مصر تناقصًا كبيرًا لصالح الاهتمام بالقمح والأرز، وفق ما يلفت إليه صيام الذي يؤكد على أنه لا تحديث أو استنباط أصناف جديدة غير تلك التي تدهورت من سلالات هذا المحصول. فضلاً عن الممارسات الزراعية الخاطئة مثل عدم مد المحصول بالأسمدة اعتقادًا أنه مثبت للنيتروجين الجوي. وكلها عوامل تؤثر على الإنتاجية، إلى جانب حشيشة الهالوك التي تساهم في القضاء على المحصول بشكل نهائي.
المحرومون من الفول
رغم كل ذلك يوجد 400 مليون شخص حول العالم لا يستطيعون تناول الفول جبرًا لأنه قد يتسبب في هلاكهم. هؤلاء يعرفون بأصحاب “التفول”. وهو مرض مصنف كأحد الأمراض الوراثية، ينتج عنه نقص في إنزيم جلوكوز6 – فوسفات ديهيدروجينيز (G6PD) في الدم. ذلك الإنزيم المسؤول عن تنظيم التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الجسد.
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية لا يوجد علاج شافٍ لمرض أنيميا الفول. ولا يمكن التخلص منه أو منعه من الانتقال من جيل لآخر. فقط يمنع أصحابه من تناول الفول والأغذية المحضرة منه مثل الفلافل. ولا يجب أن يتعرضوا لغبار طلع النبات. وبشكل عام عليهم الحذر عند تناول جميع أنواع البقوليات، وتجنب كل الأغذية التي يطلق عليها ذوات الفلقتين.
بحسب استشاري أمراض الدم صلاح عرفة فإن هذا النوع من الأنيميا أو نقص إنزيم G6PD أحد أنواع فقر الدم (تكسر كرات الدم الحمراء). ومن أعراضه الصفراء نتيجة تكسر الدم وزيادة مادة البليروبين.
وبناءً على ذلك، إذا كانت الأم حاملة للمرض فإن احتمالية إنجاب طفل مصاب هي 50٪. سواء من الإناث أو الذكور سالمين. أما إذا كانت الأم مصابة بالمرض وليست حاملة له فإن الاحتمالية هي كل الأبناء الذكور مصابين والإناث حاملين للمرض.
رغم ذلك وبعيدًا عن التغير في سلوك البشر على مدار آلاف السنين، وظهور أصناف لا حصر لها من الطعام على موائد المصريين، يبقى الفول وبالأخص النوع المدمس منه حاضر دائمًا في المطبخ المصري.