هل الشيطان موجود حقا؟ أم أنه “بعض من تخيّلنا”؟
قد تشغلك هذه الفكرة حين ترى “حشمت”، الذي يصعب أن لا تقع في حبه، أو الإعجاب بشخصيته؛ فهو رجل مكافح، يبدو طيب القلب، هادئ الطلعة، يغادر في وقت مبكر للغاية لجلب رزق أسرته الصغيرة، يتسلّم تموينها الغذائي، يقلّ زوجته من عملها، وابنتهما من المدرسة، يتحمّل بصبر انفعالات الزوجة ومتطلبات الابنة الصغيرة وشقاوتها و”دلعها” عليه. ثم إنه يرعى أمه العجوز أيضا، يجلب لها الأغراض والمستلزمات، يزورها، يكنس بنفسه منزلها بينما تقوم زوجته على خدمتها الشخصية وحمامها، يستجيب لرغبة طفلته المشاكسة في الذهاب معا لتناول البيتزا بينما تكتفي الزوجة بتناول السَلَطة. تعود الأسرة للمنزل بعد يوم مرهق طويل، يرصّ “حشمت” مع زوجته الأغراض التي جلباها من السوق. يدلف إلى النوم مبكرا فأمامه استيقاظ مبكر من جديد، يتناول دواءه ويغلق عينيه مستعدا لدوامة العمل اللا نهائية.
قبل الفجر يستيقظ “حشمت”، يستعد للخروج في صمت، يدخل مقر عمله في الظلام، في غرفة مضاءة تشبه قاعات معامل التحاليل أو المستشفيات يجلس وحيدا مستمعا إلى الراديو، يعدّ لنفسه بعض الشاي، في هذه اللحظة يضاء عدد من اللمبات الصفراء الصغيرة على أحد جدران الغرفة، ثم تنطفئ لتضاء أسفلها لمبات أخرى باللون الأخضر، ينظر “حشمت” من فتحة أشبه بنافذة صغيرة. وبلا تردد يضغط بإصبعه على زر مثبت في الجدار؛. فنسمع صوتا حادا لشيء ينفتح، ثم نرى مجموعة من الأشخاص، في الواقع لا نرى سوى أقدامهم، وهم يهوون في حفرة لتنفيذ الإعدام، تضطرب سيقانهم بجنون في الفراغ، يسيل البول من بعضهم، قبل أن تخمد الحركة ويسود الموت.
على العكس من الطريقة التي قدم بها المخرج عاطف الطيب شخصية العقيد توفيق شركس في فيلم “البريء”(1986)، إذ يرينا إياه أولا شرسا مرعبا قاسيا داخل السجن، ثم تاليا نراه لطيفا محبا حنونا داخل بيته، فإن المخرج الإيراني محمد رسولوف يبدأ بتقديم الجانب الإنساني الطيب، أو العادي، في شخصية موظف تنفيذ الإعدام حشمت (إحسان ميرحسيني في أداء رفيع)، قبل أن يصدمنا بطبيعة وظيفته، لكن “حشمت” ليس على أية حال “وحشا”، ليس حتى ضابطا كتوفيق شركس ولا مسؤولا ذي نفوذ. إنه رجل عادي للغاية، واهن ومريض وملتزم مهنيا وأسريا، “الإعدام” بالنسبة له هو وظيفة كغيرها، حتى إن زوجته الحنون في أحد المشاهد تبدي ضيقها من أن نصيب الزوج من “التموين” قليل رغم أنه يقوم بكثير من “المناوبات الليلية”. هل تعرف الزوجة طبيعة “مناوبات” زوجها؟ لا يخبرنا الفيلم الذي حاز جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين في دورته الأخيرة. لكنها تعرف بالطبع أنه يعمل في السجن، في وظيفة تتطلب استيقاظه في الثالثة فجرا، وليس هناك الكثير مما يمكن عمله في السجون في ذلك الوقت.
خطرت فكرة الفيلم للمخرج محمد رسولوف حين كان يسير يوما في الشارع فرأى بالصدفة شخصا خارجا من أحد البنوك، كان ذلك الشخص قد استجوب رسولوف يوما ما في السجن، راقب رسولوف ذلك الشخص وهو يسير في الشارع، رآه بين المارة شخصا عاديا جدا يشبه جميع الآخرين، لا شيء فيه يثير الشبهة أو الانتباه، أدرك رسولوف لحظتها أنه “ليس ثمة وحش، لا وجود للشر/ للشيطان”.
هكذا فإنه في الفيلم الذي يمتد لحوالي الساعتين ونصف الساعة، والقصص الأربع التي يقدمها حول الإعدام، لا يبحث رسولوف داخل شخصياته عن شياطين تدفعها لارتكاب الشر، بل إن معظمها لا يرى في شرّه شرًا، وإذا انتابت بعضهم الشكوك حول ما يفعل، فإن السُلطة تجهّز له نسخة خاصة من حقيقة يقنع بها نفسه، فالخاضعين للإعدام هم دائما “قتلة ومجرمون ومهربون” (مرة أخرى نتذكر “أعداء الوطن” في فيلم البريء)، وبالطبع نعرف مع توالي الأحداث والحكايات داخل الفيلم أن تلك ليست الحقيقة دائما، وإن تلك الحقائق المزيفة ليست سوى “شبكة خيوط مصممة لجذب الناس العاديين إلى اللاإنسانية” كما وصفتها لجنة التحكيم في مهرجان برلين، بل لا يناقش الفيلم حتى عقوبة الإعدام في حد ذاتها، وإنما يترك المشاهد بمفرده تحت وطأة عالمها الظالم والكئيب.
على كل حال، ليس الجميع في “لا وجود للشيطان” مستسلمين لشبكة الخيوط والحقائق المزيفة، فالبعض يقاوم معيدا اكتشاف إرادته الفردية (ومنه المخرج نفسه الذي واجه عقوبة السجن في إيران)، لكن ثمن الإرادة فادح، ومتى لم يكن كذلك؟ فليس ثمة ما هو أكثر تكلفة من إصرار الإنسان على ربح نفسه.