تعرضت ثورة 25 يناير في أيامها الأولى للعديد من المناورات بهدف إفشالها. الثورات عمومًا تتعرض لأعمال معادية؛ لأنها تهدد مصالح العديد من الفئات في المجتمع. ولهذا تواجه بالعداء من الفئات التي تتهدد مصالحها، ويصل العداء لها إلى حد كبير. وهناك أمثلة عديدة من أوضحها الثورة البلشفية التي واجهت حربًا من أربعة عشر جيشًا أجنبيًا دخلوا الأراضي الروسية، وحاربوا هذه الثورة في مناطق نفوذها؛ للإجهاز عليها. وكذلك الثورة الفرنسية والثورة الكوبية والعديد من الثورات.
يؤدي قيام الثورات في أي مجتمع إلى انقسام شديد ما بين مؤيد ومعارض، وغالبًا ما يؤدي هذا الصراع إلى قيام الحروب الأهلية لينتهي الأمر إما بانتصار الثورة ونجاحها في إحكام السيطرة على البلد، أو عجزها عن مواجهة أعدائها، وينتهي الأمر بالقضاء عليها. وفيما يتعلق بثورة 25 يناير فإننا سنكتفي بعرض أمثلة للمناورات التي واجهتها خلال الأيام الثمانية عشرة الأولى من قيامها، والتي انتهت بفشل هذه المناورات كلها، ونجاح الثورة في الضغط من أجل عزل حسني مبارك رئيس الجمهورية.
كانت المناورة في البداية في القصر الجمهوري، واتخذت شكل المناورة بالأشخاص، حيث تم الدفع بشخصيات تتمتع بسمعة طيبة لخداع الثورة بأن تغييرًا قد تم بتولي هؤلاء الأشخاص السلطة. بدأ ذلك بتكليف الفريق أحمد شفيق برئاسة الوزراء، حيث كان يتمتع بسمعة طيبة من خلال مسؤولياته السابقة، ولم تتجاوب الجماهير مع هذه الخطوة، ونعني بذلك الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير، التي كان لها الكلمة العليا في مسار الثورة في ذلك الوقت.
أعقب ذلك البحث عن شخصية تتمتع بسمعة أفضل، ووقع الاختيار على الدكتور حسام بدراوي، أحد قيادات الحزب الوطني الذي كانت قيادة الحزب تتخذ منه موقفًا مضادًا لآرائه المستنيرة، وتستبعده من المناصب العليا، وتحرص على إسقاطه في الانتخابات البرلمانية،
تم تعيينه أمينًا عامًا للحزب للإيحاء بأن التغيير الذي تطالب به الجماهير قد تم، ولكن هذه الجماهير لم تقتنع بأن هذه الخطوة كافية لتحقيق التغيير المطلوب، ومن المعروف أن جماهير الشعب المصري عندما احتشدت في ميدان التحرير يوم الجمعة 28/1/2011 نجحت في السيطرة على الميدان، واضطرت قوات الأمن للانسحاب من الميدان، وتم إقتحام أقسام الشرطة والسجون ومقرات الأمن، وتصاعد الهتاف (الشعب يريد إسقاط النظام)، وتجسد هذا الهتاف في إسقاط حسني مبارك رئيس الجمهورية، وبالتالي فإن أي تغيير لا يشمل حسني مبارك في ذلك الوقت لم يكن يرضي الجماهير التي احتشدت في جميع محافظات الجمهورية.
استمرت مناورات قيادة النظام التي كانت في حالة انعقاد مستمر في القصر الجمهوري، وانتهى الأمر بترشيح محمد رجب أمينًا عامًا للحزب الوطني بديلاً للدكتور حسام بدراوي، ولم تتجاوب الجماهير أيضًا مع هذا التوجه، فتحولت المناورات من تغيير الأشخاص إلى المناورات بالخطب.
كان رئيس الجمهورية يلقي خطابًا كل يومين أو ثلاثة، يطرح في الخطاب آراء يعتقد أنها سترضي الجماهير، لكنها لم تقبل الخداع ولا الوعود التي يقدمها لهم، وجسدت مطلبها في هتاف (إرحل….إرحل) موجهًا إلى حسني مبارك، لا تقبل به بديلاً.
تنوعت الهتافات المطالبة برحيل حسني مبارك من شخص لآخر، ووصل الأمر إلى حد أن أحد المواطنين كان يحمل لافتة مكتوبًا عليها (إرحل يعني إمشي يا اللي مبتفهمش)، وقد تعددت خطابات مبارك إلى الشعب المصري وتغيرت موضوعاتها، ما بين وعود بإحداث التغيير، حاول في بعضها مخاطبة عواطف الجماهير، إلى الحد الذي أعلن في إحدى خطبه أنه مواطن مصري عاش في مصر وسيموت ويدفن فيها، وأنه لن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة بعد 7 أشهر، ولن يترشح جمال ابنه في هذه الانتخابات، وستترك الحرية لأي مواطن يرغب في الترشح دون موانع.
كان هذا الخطاب عاطفيًا لدرجة أنه أحدث تأثيرًا لدى قطاع من المواطنين، ودار نقاش في ميادين الثورة يطالب فيه البعض بإعطائه فرصة، إلا أن بعض أصحاب المصالح التي تهددها الثورة كانوا قد بدأوا في الترتيب لفض الاعتصام في ميدان التحرير بالقوة، واستعانوا ببعض المرشدين السياحيين لاقتحام الميدان بالقوة، باستخدام الخيول والجمال، وحشدوا بعض البلطجية على أبواب الميدان لمساندة هؤلاء الأشخاص عند اقتحامهم الميدان بخيولهم وجمالهم وقذف المتجمهرين بالحجارة والمولوتوف وبإطلاق الأعيرة النارية صباح اليوم التالي لهذا الخطاب العاطفي.
دارت معركة عنيفة بين الطرفين سقط فيها ضحايا من الطرفين، وانتهت بهزيمة المعتدين وضاع كل أثر عاطفي للخطاب، وهكذا باءت كل مناورات القصر بالفشل، وزاد إصرار الجماهير على إسقاط مبارك، وأصبح الشعار الرئيسي في كل أرجاء مصر (الشعب يريد إسقاط النظام)، وكذلك (مش هنمشي هو يمشي)، وساد اتجاه إلى تحرك الجماهير نحو القصر الجمهوري لمحاصرته وإجبار حسني مبارك على التنازل عن رئاسة الجمهورية ومغادرة القصر الجمهوري.
في هذه الأثناء، تبلورت في القصر مجموعة محيطة برئيس الجمهورية من كبار المسئولين والمقربين والمستفيدين من النظام. وكان على رأسهم جمال مبارك ابنه الذي كان يعده لتولي رئاسة الجمهورية في الانتخابات التالية، وزوجته سوزان مبارك التي كانت الداعمة لهذا الترشح، وكبار المسئولين في الدولة، وعلى رأسهم عمر سليمان مدير المخابرات العامة، الذي دفعت المواجهة إلى تعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية،
كان من الطبيعي أن تختلف الآراء فيما بين أعضاء هذه المجموعة، فهناك من يرى اللجوء للقوة لفض الاعتصام في ميدان التحرير، وهناك من يرى الاستمرار في المناورة، واستخدام أكثر من أسلوب لإقناع الجماهير باستمرار الوضع القائم، ووصل الخلاف إلى حد أن عمر سليمان تعرض لمحاولة إطلاق النار عليه أثناء خروجه من القصر، بسبب اختلاف الرأي. وقد صاحب هذه المواجهة بين الشعب والقصر، واختلاف تكتيكات المواجهة التي بلغت ذروتها في موقعة الجمل، وفي بدء الحشد استعدادًا لمحاصرة القصر الجمهوري، وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك وقائع جانبية، منها مثلاً وقوع حوادث قنص أدت إلى استشهاد عشرات المعتصمين بإطلاق الرصاص عليهم من أعلى سطح الجامعة الأمريكية والعمارات المواجهة للمتحف، حيث وجدت فوارغ طلقات أسلحة آلية، كما حدثت مواجهات عنيفة في السويس والإسكندرية وغيرها أدت إلى سقوط بعض الشهداء.
هكذا أثبتت جماهير الشعب المصري وعيها بطبيعة المواجهة، ورفضت كل أشكال الخداع والمناورات التي استخدمها النظام لخداعها، ولم تجد مفرًا من الاستجابة لمطالب الشعب، خاصة عندما تزايد اتجاه الجماهير للتحرك نحو القصر الجمهوري وحصاره لإخراج مبارك منه، عندها فقط خرج عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية في التليفزيون ليعلن أن الرئيس حسني مبارك قرر التخلي عن مسئولياته، وكلف المجلس للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
هناك من يرى أن هذا القرار وإن كان قد استجاب لمطالب الجماهير في التخلي عن السلطة، إلا أنه لم يحسم الأمر، واستمرت المناورات بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإخوان المسلمين إلى أن تم حسمه عام 2013 بإسقاط الإخوان المسلمين من الحكم. لقد استغرق الأمر 18 يومًا من 25 يناير أول تحرك جماهيري للثورة إلى يوم 11 فبراير لإجبار حسني مبارك على التخلى عن السلطة، وما تزال لدى الشعب المصري القدرة على مواصلة نضاله لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة في مصر. دولة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.