أعود بالذاكرة للوراء، فأتذكر آخر عيد ميلاد لوليد تجمعنا فيه سويا، كان في عام 2018، في حفل بسيط في المنزل، تجمع به أصدقاؤنا والمقربون، قضينا سوينا ليلة سعيدة، وربما كانت من آخر الليالي السعيدة في منزلنا، بعد الانتقال للسجون ومواعيد الزيارات، وحياة مختلفة بعيدا عن جدران المنزل، خلف جدران السجن فقط.
ألقى القبض على زوجي طبيب الأسنان وليد شوقي من عيادته في السيدة زينب، في أكتوبر 2018، ووضع على ذمة القضية 621 لعام 2018، وجهت له خلالها تهم نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة محظورة، وظل في الحبس الاحتياطي حتى أغسطس 2020، أخلت المحكمة سبيله، ليعاد تدويره في القضية 880 لسنة 2020، بنفس الاتهامات السابقة.
في الفترة الماضية قضى زوجي عيدي ميلاد في محبسه، واليوم يقضى الثالث وحيدا أيضا، بعيدا عن منزلنا وعن ابنتنا نور، التي تعلم أن والدها عيد ميلاده اليوم، تطلب مني الاتصال به لتغني له “هابي بيرث داي تو ير”، فأتحجج لها بتعطل الشبكة، وتقتنع بتلك الحجة لصغر سنها، أو من حسن حظي لتقل الأعباء عن كاهلي قليلا.
في العام الماضي، قبل اجتياح وباء كورونا للعالم، ذهبت في زيارة استتثنائية لزيارة زوجي، جاءت الزيارة بمناسبة 25 يناير، وكانت زيارتي لتهنئته بعيد ميلاده، صمم أصدقائه مقطع فيديو قصير، رددوا خلاله رسائل تهنئة بعيد ميلاده، وأمنيات بقضاءه في العام المقبل خارج السجن، لكنها أمنيات لم تتحق، وظلت نفس الأمنيات في العام التالي.
اقرأ أيضا:
أنا وابنتي وسجن طرة: لماذا لا يعود أبي معنا للمنزل؟
“ورد وكيك”
وفي العام الأول لحبسه، ذهبت لنفس الزيارة الاستثنائية، وأحضرت معي “بوكية ورد، وكب كيك”، سألتني السيدة التي تفتشنا قبل دخول الزيارات “هو في عيد ميلاد”، فأجبتها “اه عيد ميلاد جوزي”، وغنى له أصدقاؤه في الحبس “سنة حلوة يا جميل”، وتناولنا الـ”كب كيك”، على ضوء “ولاعة كأنها شمعة”.
ساحة الزيارة قبل كورونا، والتي كنا نلتقي خلالها بالسجناء، لمدة تصل لنصف ساعة، كانت منبرا للاحتفالات، وتبادل الأخبار، احتفالات بنجاح ابن أو خطبة ابنة، أو عيد ميلاد، أو احتفال آخر بعقد قران أو عيد زواج، والاحتفالات والهدايا بها متبادلة أيضا، فيخرج السجناء بهدايا صنعت داخل السجن بأيديهم، منها السبح والفوانيس والحظاظات، فأهداني زوجي سبحة في عيد زواجنا، والعديد من الحظاظات التي تحمل اسمي واسم ابنتنا نور.
في العامين السابقين قبل انتشار كورونا، كان الاحتفال أو ما يمكن تسميته بالاحتفال أمرا ممكنا، لكنه أصبح مستحيلا بعد كورونا، لأن الزيارات أصبحت من وراء حاجز، وزيارتي لزوجي أصبحت “زيارة خاصة”، وهي التي يقف بها بجوارنا أحد المخبرين لتدوين حديثنا “باعتبارنا إرهابين خطر وكده”.
كل عام كنت أدعو الله أن يجمعنا في العام القادم سويا، ليس في عيد ميلاده فقط، إنما في جميع المناسبات التي لم نحضرها سويا، شهر رمضان، وعيدي الفطر والأضحى، ورأس السنة، وغيرها من المناسبات المختلفة، فيأتي العام الجديد وأسأل الله مجددا “لماذا لم تقبل منى الدعاء؟”، وهل سيقبله العام المقبل، أم أن الدعوة لم يحن موعدها كما تخبرني والدتي دوما.
اللقاء الأول
لقائي الأول بوليد شوقي كان في أبريل 2012، كنت في بداية عملي مراسلة لأحد المواقع الإخبارية، التقتينا في أحد الفاعليات التي ذهبت لتغطيتها، تحدثنا سويا، وعدت المنزل لأجده أرسل لي طلب صداقة عبر فيسبوك، لتبدأ أحاديثنا سويا، وعلاقتنا أيضا.
منذ عام 2012 وحتى 2016 مرت علاقتنا بالكثير من العقبات ظلت العلاقة صامدة أمامها، كنت أظنها العقبات الكبرى، لن أقابل أصعب منها في المستقبل، حتى زواجنا في عام 2016، والقبض عليه في 2018، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة التي أظن أنها الأصعب على الإطلاق، وربما هناك أصعب منها في المستقبل، لا أدري.
هذا العام بدأ عقلي يردد العديد من الأسئلة دون إجابة، لماذا لا يخلى سبيل وليد ومن مثلة ممن لم يقوموا بأعمال عنف أو جرائم مع أي ضمانات تراها النيابة أو المحكمة أو من بيده القرار، ما هو الضرر الذي سيحدث عند إخلاء سبيل زوجي ومن معه، ولمن أصلا يمكن توجيه تلك الأسئلة؟
لو سلمنا وفقا لمن بيده القرار أو صاحبه، أن وليد ومن مثلة قاموا بجرائم بالفعل، وهي نشر أخبار كاذبة، أو الانضمام لجماعة محظورة، ألم يكفي حبس عامين ليكون عقابا لتلك الجرائم، أليس هذا كافيا ليحصل شخص على إخلاء سبيل، والبدء في حياته من جديد، وترميم ما حدث بداخله بسبب السجن؟
مرارة الهزيمة
يأتي هذا العام وفي حلقي غصة كبيرة، إحساس مركب بالعجز، عجز عن تواجدي مع زوجي في هذا التوقيت، وعجز عن عدم استطاعتي فعل أي شيء يخفف عنه ما فيه، فعند زيارتي الأخيرة له، كان في حالة سيئة، قال لي “مفيش أمل وشكلنا هنفضل في الديرة دي كتير”، وأنا أحسده دائما على قوته وصلابته وقدرته على تحمل كل هذا الوقت في الحبس، فلو وضعت نفسي مكانه لكنت قد أنهيت حياتي مع الشهور الأولى، أو الإصابة بلوثة عقلية، لكن صامدا حتى الآن، يرفض تناول مضادات الاكتئاب التي أنصحه بها دوما، ويطلب مني التوقف عن تناولها، فأعده بالمحاولة التي أخفق فيها دائما.
في الماضي كان زوجي فخورا بتاريخ ميلاده، ويقول لي ولأصدقائه “أنا مولود في تاريخ مميز، يوم ما شيلنا مبارك”، ولكنه أصبح تاريخ للتذكرة بمرارة الهزيمة والخسارة التي نتكبدها يوما عن يوم، يوم يحيي بنا الذكريات والآمال والطموحات، والتي تنتهي بمشاهد الآلاف قابعين بالسجون، ينتظرون القرار، الذي لا نعرف متى يصدر، ومتى يصدر العفو عنهم من صاحب القرار، وأنا أنتظر إجابة دعوتي من الله، وأدعوه هذا العام أن يقضي زوجي عيد ميلاده القادم معي ومعي ابنتنا.