كنت أراهم من فوق سلم نقابة الصحفيين، في وقفات احتجاج تكررت لحركتي “كفاية” و”صحفيون من أجل التغيير” قبل ثورة يناير 2011. زملاء من قسمي الحوادث والتصوير بجريدة “الأهرام” أعرف وجوههم وملامحهم. بالطبع كانوا يعرفونني جيدًا. لكنهم هنا لا يتبادلون “السلام”، ولو من بعيد، كما يحدث أمام مصاعد الجريدة أو في ردهاتها. كانوا يواظبون على الحضور خلف صفوف قوات الأمن بملابسها الرسمية والمدنية. يتبادلون معهم الأحاديث بود وعن معرفة ظاهرين. وأحيانًا ما يشيرون نحونا، وهم يسرون بشئ ما أو أشياء قرب أذن “الباشا”. هناك هم حاضرون دائمًا على الرصيف المقابل مباشرة. يصوبون عدسات الكاميرا نحونا. فكرت مرة في سؤال أحدهم كثير الابتسام أنيق ربطة العنق دومًا: أين تذهب الصور طالما لاتنشر “الأهرام” أبدًا؟ لكنني تراجعت.
اعترف بأن وجودهم على هذا النحو أزعجني بعض الشئ في البداية. لكن سرعان ما ألفت “اللعبة”، وقد تحددت مواقعها بين رصيفين لا يلتقيان أو يختلط أهلهما ويتحدثان. أصبحت ببساطة مقتنعًا بموقعي “موضوعًا” و”هدفًا” لعدساتهم وسط كادر احتجاج محاصر بإحكام.
ببساطة .. لم أتمرد على اللعبة.
“كاتلاني” في المحلة
لعدسة كاميرا “مارك المودوفار” ذاكرة استعادت بعد عشر سنوات الشوارع والناس في قاهرة “جمعة الغضب” 28 يناير 2011. جاء الشاب البرشلوني نهاية عام 2008 إلى مصر ليعمل مراسلاً لصحيفة ” كتالانية”، ويتعلم اللغة، ويتعرف على ثقافة مختلفة، بعدما شاهد عبر نشرات أخبار الفضائيات وفي مدينته لقطات من “المحلة” يوم إضراب عمال مصانع غزلها ونسيجها 6 أبريل.
كان وقتها عمره لا يتجاوز 23 سنة. وربما ـبل قطعًاـ حفر عميقًا في وجدانه مشهد إسقاط صورة الرئيس “حسني مبارك” ووطئها بالأحذية في شارع رئيسي بالمدينة نصف العمالية / نصف الفلاحية في هذا اليوم. جاء إلينا لتناديه الإسكندرية، فيقيم بها لسنوات حتى غادر 2013، وليصور ويخرج مجموعة فيديوهات قصيرة عن أهل إسكندرية، توجها بفيلم “الإسكندرية : قصة حب”، ينتهى بإهداء: “إلى الإسكندرية.. وإلى كل السكندريين”. لقد اتصلت به، وسألته بعد مشاهدة فيلمه الأخير “جمعة الغضب”، فقال إنه اختار الاستقرار هناك “علشان البحر”.
عند البحر أيضًا في مدينة تونس، تعرفت على “مارك” مصورًا محترفًا صحبة صديقه وصديقي ابن “برلشونة” أيضًا مراسل صحيفة “الباييس” الإسبانية “ريكارد جوانزاليس”. ضحك من قلبه عندما مازحت “ريكارد” في حضوره قائلاً: “وأنا كمان كتالاني في (الأهرام)”. فاجأني بإجادته فهمًا وتحدثًا للعامية المصرية إلى حد كبير. وفاجأني مرة أخرى -ومن اللقاء الأول- عندما أبلغني أنه قرأ كتابي عن “رأسمالية المحاسيب” في مصر، الصادر صيف 2012، بعنوان لم يرق لي مطلقًا “الصندوق الأسود: قصة حسين سالم”، اختاره الناشر الأديب “صنع الله إبراهيم”.
بعد هذا التعارف بنحو العام ونصف العام، شاهدت عرضًا أول لفيلمه التسجيلي مع “ريكارد” عن بطء وتعثر مسار العدالة الانتقالية في تونس بعد الثورة، وذلك في دار أثرية للثقافة في حي “باب سويقة”. لاحظت أن كاميرا “مارك” تخرج من الحوارات داخل الغرف والقاعات مع المسئولين والضحايا وكذا الجلادين السابقين، كي تتجول في الشوارع لتسجل حركة الناس والمواصلات عبر تقنية “الحركة البطيئة Slow Motion”.
بدا الأمر مناسبًا تمامًا، وملهمًا أيضًا في سياق ما يجرى بالبلاد.
كاميرا “جمعة الغضب”
يبدأ فيلم “جمعة الغضب” بلقطة لمئذنة جامع “مصطفى محمود” الشهير في حي “المهندسين”. وسريعًا ما تحدد كاميرا “مارك” مكانها بين الناس بلقطة (بان/مسح) تستعرض في حركة دائرية كاملة، انطلاقًا من مركز المصور وحوله المصريين الذين لبوا نداء الاحتجاج بعد انتهاء صلاة الجماعة، التي لم تخل من نفاق خطيب المنبر للبوليس والسلطة.
طوال الفيلم (ساعة و17 دقيقة) تظل الكاميرا مع الناس وفي مواجهة قوات الأمن. وبطول الشريط التسجيلي كله تقريبًا لا مؤثرات صوتية (موسيقي أو أخرى فنية من خارج المشهد) سوى أصوات ما يجري في الشارع. وكثيرًا ما تحاور الكاميرا تنوعًا ثريًا من المصريين، فيتحدثون إليها وجهًا لوجه وبتلقائية. وهكذا وجوه مكشوفة غير هيابة، تتكلم بجرأة وانطلاق وحرية وألفة للعدسة. وفي هذا توثيق فريد لمزاج اللحظة.. مزاج من الشجاعة والثقة بإزاحة “مبارك” وبوليسه ونظامه، قبل التمكن من الوصول إلى ميدان التحرير.
الكاميرا في العديد من المشاهد ومعظم الشريط جزء من الواقع الفوار بالاحتجاج والمواجهات مع قوات الأمن والكر والفر أثناء الثورة. تضطرب و”مارك” يركض بها وهي مفتوحة تدور دون توقف. يزداد ضرب الغاز وطلقات الرش “الخرطوش” في مواجهتها والجموع، فتهتز بعنف وسرعة وتسقط لأسفل متقافذة لقطاتها فوق الأسفلت ومع جري الأقدام. وثمة لقطات أخرى (زوم) ـوبعد نحو نصف الشريطـ تسجل من بعيد وعبر نهر النيل إطلاق عربات الشرطة الرصاص المطاطي والحي بمستوى الرأس والصدر على متظاهرين غير مرئيين، ووحشية الشرطة في مشهد عدوان جماعي على شاب وحيد أعزل سقط بين أيديهم وأرجلهم وعصيهم أرضًا. هذا فضلاً عن لقطات أخرى تحكى انتقال محتجين إلى الرشق بالحجارة، ثم إلقاء كرات اللهب، فالحرائق بعدما أعيتهم “سلمية.. سلمية” لساعات.
يوثق الشريط التسجيلي عن قرب أيضًا العنف البوليسي المفرط تجاه المتظاهرين السلميين، من استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع ورشاشات المياه بكثافة إلى طلقات الرش (الخرطوش) إلى الرصاص المطاطي ثم الحي. ولعل نقطة التحول جاءت مع (الدقيقة 47) حين يظهر شاب عشريني يواجه العدسة صارخًا موشكًا على البكاء: “افتروا علينا.. افتروا علينا.. بس إحنا ما سكتناش.. إحنا ضربناهم ذي ما ضربونا.. مش هنسكت.. مش هنسكت”. وفي غير مشهد يمسك محتجون بأيديهم في مواجهة الكاميرا قنابل غاز ورصاص حي مظهرين عبارة بالإنجليزية “صنع في الولايات المتحدة الأمريكية”، مع صيحات بعمالة مبارك “للأمريكان ” والصهاينة.
أسأل “مارك” عن انقطاع الكاميرا عن متابعة الطريق إلى التحرير عند مدخل جسر الجلاء جوار “شيراتون الجزيرة”، قبل العودة ثانية لمواكبة الكر والفر فوق “كوبري قصر النيل” في تتابع بدا مضطربًا وغير منطقي، فيجيب: “أصبت بالخرطوش في هذا المكان، وتعطل دوران الكاميرا لنحو ثلث الساعة.. ورجعت مع مجموعة باتجاه (الزمالك).. وحقيقي لم أكن أتوقع عبور المتظاهرين لكوبري قصر النيل، ووصول الناس للتحرير ونزول الجيش للشوارع” .
عدسة مستأمنة على ملامح الوجوه والانفعالات
يلفت النظر هذا الترحيب وهذه الحميمية في علاقة المصريين المحتجين في الشوارع بكاميرا “مارك”، وإلى حد “الفضفضة” إليها بمكنوناتهم ومعاناتهم وبآرائهم المقموعة لعقود. وأيضًا القيام بقيادة الكاميرا واصطحابها إلى داخل مسجد يجرى إدخال جريح إليه للعلاج. يستأمن عدد بلا حصر من المصريين العاديين عدسة “مارك” على ملامحهم الكاشفة عن هوياتهم، وحتى كلماتهم البذيئة وسبابهم ضد سلطة الدولة ورئيسها وانفعالاتهم القصوى حنقًا على القمع البوليسي، فتحفظ الأمانة وتوثقها بلا رقابة أو قمع وحجب.
يستدعى كل هذا ما عرفته البلاد من تحريض على الأجانب والصحفيين الأجانب على نحو خاص وحساسية بغيضة ضد كل كاميرا في الفضاء العام، حتى ولو يحملها مواطن وصحفي من المصريين. ولذا أسأله: هل واجهه مآزق رهاب وكراهية الأجانب “الإكزينوفوبيا” خلال التصوير في الشوارع؟ فيجيب: “لم تحدث أي مشكلة مع الناس في يوم 28 يناير وطوال الثمانية عشر يومًا من الثورة حتى تنحى مبارك.. بالعكس الناس كانت (مبسوطة).. فقط أتذكر أنني ذهبت إلى مدينة السويس يوم 26 يناير، وربما كنت الوحيد الذي يصور هنا.. كانت الناس سعيدة بوجودي وبالكاميرا.. وفجأة ظهر شخص بملابس مدنية، وقال: (شكلك جاسوس).. وأخذ في استجوابي، قبل أن يتدخل آخرون ليتركني. وفي يوم 10 فبراير خرجت من ميدان التحرير لأصور اعتصامًا لعاملين أمام مبنى قرب ميدان رمسيس.. وأمسكت بي مجموعة من (المواطنين الشرفاء)، قامت بتسليمي للجيش. لكنه تركني وطلبوا مني: (لاتصور تاني)، بعدما فتشوا حقيبتي ووجدوا بها علم مصر”. يضيف: “الثورة المضادة هي التي صنعت (الإكزينوفوبيا).. أرادت التخلص من كاميرات الأجانب وكل الكاميرات عموما لأنها تكشفها وتفضحها”.
ليست “نوستالجيا”
في جمعة الغضب التقط “مارك” بعدسته نحو ساعة و45 دقيقة. وعاد ووظف معظمها في فيلمه التسجيلي الجديد. ويبلغني بأنه قرأ مقالاً منشورًا بالعربية بعد نحو عشر سنوات على هذا اليوم، فعاد ليشاهد ما قام بتصويره. يقول: “شعرت بالدهشة.. كأنها مفاجأة جديدة.. ولاحظت من خلال لقطات عدستي أن ما جرى بالفعل غير مسبوق.. هذه الطاقة والإصرار عند الناس في الشوارع.. وهذا الأمر مسني بعمق.. فقررت إنتاج الفيلم وإطلاقه بحلول يوم 28 يناير 2021.. وبالنسبة لي هذه ليست (نوستالجيا).. أبدًا.. أظنه استعادة للتاريخ كي لاننساه، ونفكر فيما حدث”.
في العديد من المشاهد يقدم فيلم “جمعة الغضب” مروحة من آراء الناس في الشارع المحتج إزاء هذا الشأن أو ذاك وتجاه مجريات المواجهات الجارية. يتجمع من حين لآخر مصريون حول كاميرا “مارك”، ويقتحمون على متحدث الكادر كي يعبروا بالكلمات أيضًا عن أنفسهم. وعلى سبيل المثال يقول أحدهم عن جنود الأمن المركزي المدفوعين في النطاقات الأولى للالتحام بالمتظاهرين واعتراض طريقهم إلى “التحرير”: “يهود.. يهود”، لكن آخر في اللحظة ذاتها يقاطعه، ويقول: “دول غلابة”.
عندما تظهر مدرعات ودبابات الجيش في الشوارع يلاحقها تعليق مكتوب على خلفية سوداء: “الكثير من الناس رحبوا بنزول الجيش كحامي لهم، لكن البعض حذروا مما وراء هذه الخطوة”. وقبلها يقول شاب بالإنجليزية مواجهًا عدسة “مارك”: “الشعب والجيش إيد واحدة”. لكن صوتًا يقتحم مشهد عربات الجيش أمام مقر الإذاعة والتلفزيون بـ”ماسبيرو” قائلاً وكأنه يخاطب “مبارك”: “نزل الجيش كله.. إحنا فاهمينها.. العربيات دي بتاعة الريس علشان ما يسقطش.. خلاص إحنا مش لاقيين ناكل”. ويواجه شاب ثالث الكاميرا بجرأة، وهو يقول: “ولعنا في عربياتهم.. والجيش بيمدهم بذخيرة”. ويتساءل رابع وهو يظهر أمام العدسة مقذوفًا من الرصاص الحي: “الجيش بيدوس على الناس”. وتتدخل إمرأة لتضيف: “دهس إثنين من المتظاهرين”. و يقول شاب آخر: “الحرس الجمهوري يحمي مبارك بذخيرة حية”.
تتنوع لقطات الفيلم من مقربة (كلوز) تتباع ملامح المحتجين إلى طويلة جامعة تظهر حشودهم وعمقها وامتدادها على نحو لافت، وأخرى تسجل العزم والتصميم على وجوه الصفوف الأمامية المتقدمة إلى الأمام.
توثق الدقائق الأخيرة الحريق الذي شب بالمقر الرئيسي للحزب الوطني الحاكم قرب “التحرير” ليلاً. وأيضًا الحرائق الصغيرة في مركبات البوليس ودراجاته النارية (موتوسيكلات). وتتوقف مليا عند مشهد لشباب غاضب يضرب بانتقام وبعصي خشبية دراجة منها مهجورة شبت فيها النيران تضئ حولها بقعة من الليل في ميدان “عبد المنعم رياض” المجاور للتحرير. وفي مشهد آخر يتحرك شابان بهمة فوق عجلات متحركة تحمل أنبوبة إطفاء تجاه بقعة أخرى تشتعل فيها النيران.
تظهر المشاهد الأخيرة تحدى المصريين حظر التجول الذي أعلنه “مبارك”، اعتبارًا من الساعة السادسة بعد الغروب، وتصميمهم على إسقاطه ونظامه. ويختتم الفيلم بلوحتين سوداوين ينوهان عن 864 قتلوا و6400 أصيبوا بواسطة البوليس خلال أيام الثورة، وأغلبهم خلال يوم الغضب، وبإعجاب العالم بأسره بهؤلاء الثوار الذين اصبحوا مصدر إلهام. وهذا مع خلفية أصوات هتاف يأتي من بعيد:
“ياجمال قول لأبوك.. كل الشعب بيكرهوك”.
في حب أهل الإسكندرية
قبل اندلاع الثورة المصرية بأشهر قليلة وفي عام 2010، انتهى “مارك” من فيلمه التسجيلي عن الإسكندرية. ساعة وثمان دقائق اقترابًا من الناس وروح المدينة وحياتها الضاجة بالعوالم والحركة. هنا توظيف للموسيقى المصاحبة ولأغاني سيد درويش “شد الحزام” و”الحلوة دي..”، وبشاعرية تتقاطع مع أصوات ومشاهد ومظاهر الواقع، وبخاصة في الأحياء الشعبية.
تتوالى مقاطع الشريط من المنازل العتيقة وسكانها ورواد المقاهي إلى تدريب الفتيات على حمل الأثقال في ساحة عشوائية وصلاة التراويح في مسجد ” القائد إبراهيم” وصيد المراكب الصغيرة ومزاد بيع الأسماك في “حلقة الأنفوشي” وباعة الخضار واللحوم والدواجن وسوق المستعمل (البالة) ومحلات حلاقة الرجال وكي الملابس الشعبية، وصولاً إلى كيف يتوحد السكندريون وهم يتابعون مباراة فريق مصر الوطني لكرة القدم في كأس أفريقيا، دون أن ينقطع العمل وأكل العيش.
يتضح في فيلم “الإسكندرية قصة حب” ولع “مارك” بالناس وبالحوار معهم. نستمع بين الحين والآخر إلى صوته هو في هكذا حوارات، بما في ذلك الكلام مع سائقي التاكسي الذين برعت الكاميرا في تصويرهم من زاوية بعينها من المقعد الخلفي. وأحيانًا يجرى توظيف المرآة الجانبية أو الداخلية للسيارة لإظهار وجوه السائقين. واللافت أن هذا الفيلم يظهر ويوثق كيف كانت مصر حبلى بالغضب والثورة. وعلى سبيل المثال، يحاور “مارك” صبيًا يبيع السجاد في شارع ضيق بحي شعبي. وهنا يواجه الصبي العدسة متسائلاً بمكر: “قناة الجزيرة؟”، وسرعان ما يضيف متمردًا على الحذر: “كفرانين والله”، وهو يضحك. ويصرح سائق تاكسي بأن الناس كلها تعرف أن “مبارك وولاده حراميه”. ويقول آخر: “الحكومة ترفع الأسعار ولا حد بيتكلم.. والمعتقل مليان علشان كلمتين”.
أما مدرب حمل الأثقال في أرض الساحة العشوائية المهملة “خرابة ” بحي “الورديان” الشعبي وقرب البحر، فيشير إلى صورة معلقة لمحافظ الإسكندرية مع “جمال مبارك”، ويقول بخبث: “رئيس الجمهورية الجديد”. وفي مشهد آخر يواجه شاب الكاميرا، قائلاً: “الناس غلابة مش لاقيين ياكلوا.. والحكومة كل شوية تاخدنا”، ويضيف متحدثًا إلى آخر لا يظهر في الكادر: “مش ممكن يكون بتاع حقوق إنسان ويوصل كلامنا”.
يتوقف الفيلم عند “عم حمامة” الصياد في حي “الجمرك” الذي يداوي الجراح في شقته المتواضعة مجانًا ممارسًا لونًا من الطب الشعبي. وتتابعه وهو يصنع طائرات للأطفال من البوص والورق الملون، وتظهره الكاميرا قبل نهاية الفيلم وهو يقوم بإطلاق إحداها على شاطئ البحر.
وكأن “مارك” يقول عبر هذه اللقطات أن هؤلاء الناس “الطيبة” تحلم بالحرية، على الرغم من معاناتها واستحالة العيش الكريم.
“إرحل” خلال 18 يومًا
في فيلم ” إرحل: يوميات من ميدان التحرير” إنتاج 2011، يمزج “مارك” المشاهد التي التقطتها عدسته داخل ميدان التحرير وحوله وإليه على مدى 18 يومًا انطلاقًا من 25 يناير بأخرى أرشيفية من التلفزيونات العالمية، وكذا المصرية حينها، ناهيك عن موسيقى تصويرية نابضة بالحركة السريعة والإثارة تصاحب بعض المشاهد. كما يعتمد هذا الفيلم ـوعلى خلاف “جمعة الغضب” و”الإسكندرية”ـ على تعليق صوتي باللغة الكتالانية (مع ترجمة عناوين فرعية إلى الإنجليزية). ينطلق من ريح “الربيع العربي” التي هبت من تونس، وعبر تقطيع (مونتاج) سريع الإيقاع، يتنقل مع وبين المصريين المحتجين في الشوارع و”التحرير”. ويوثق مقاطع ذات دلالة من خطابات “مبارك” عبثًا لامتصاص الغضب. كما يوثق معها دود الفعل الفورية في الميدان برفع الأحذية والهتاف برحيله ونظامه، مع ملامح الإصرار والتصميم على الوجوه.
بدورها تظهر اللقطات الأرشيفية حملات التشويه التي شنها إعلام “مبارك” المملوك للدولة ورجال الأعمال ضد ميدان التحرير، فيما تنقل عدسة “مارك” وحوارتها الحميمة مع أطياف المصريين العاديين في “التحرير” من مختلف الأعمار والطبقات واقعًا مغايرًا تمامًا، وأيضًا سخرية واستهزاء الثوار بهذه الحملات. ويحتفظ التعليق الصوتي المصاحب لشريط الفيلم بأوصاف أطلقها مراسلون أجانب من قبيل: “كوميونة القاهرة” و”جمهورية التحرير”.
ينطوي هذا الفيلم على توثيق لافت ليوميات الميدان وتطور شعاراته وتعبيراته البصرية والسلوكية وتجليات التضامن بين المصريين والصراع مع نظام “مبارك”، بما في ذلك التصدي لهجمات ما يسمى بـ “موقعة الجمل”. وتمامًا كما في فيلم “جمعة الغضب”، يتحدث الناس إلى الكاميرا بانطلاق وجرأة ومودة وحميمة وصراحة وبلا حسابات أو تحسب لعواقب، وقد تغلبوا على الخوف ووثقوا في النصر. ويؤكد “مارك” على انحيازه للثوار المصريين بالكلمة المكتوبة أيضًا في نهاية الفيلم، وبعد مشاهد الاحتفال بتنحي “مبارك”. وتظهر جملتان على خلفية سوداء: إحداهما تفيد بأن الثورة لم تنته بعد، والأخرى إهداء إلى ” ذكرى شهداء الثورة المصرية”.
عاش “مارك” في مدينته “برشلونة” احتجاجات عديدة، منها ما هو ضد “مدريد” ومن أجل استقلال “كتالونيا”. لكنه يبلغني بأنه لم ير أبدًا هذه الأعداد من البشر في الشوراع وتلك (الطاقة) عند الناس، كما لمسها بمصر يناير وفبراير 2011.
لعل الصور الفوتوغرافية المشحونة بهذه “الطاقة” غابت عن صفحات الصحف المصرية مع تغطية “يوم الغضب” وخلال معظم أيام “التحرير” الثمانية عشر، أو على الأغلب اختار المصورون مكانهم خارج الجموع.. وبعيدًا عن الناس. والأرجح أنهم ـوإن حضرواـ ظلوا هناك في ذات الضفة التي طالما لم يبارحوها قبل الثورة بسنوات أمام نقابة الصحفيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط الأفلام:
جمعة الغضب
ارحل
الإسكندرية قصة حب
كارم يحيى
صحفي وكاتب مصري