بدأ إنتاج لقاحات كورونا (كوفيد- 19) في يناير الماضي، وظهرت المخاوف من استحواذ الدول المنتجة والغنية على اللقاحات مبكرًا، فمعظم اللقاحات التي تم إنتاجها بالفعل ذهبت إلى عدد قليل من هذه الدول، وأكثر من 80 مليون جرعة ذهب معظمها إلى ست دول فقط، هي: الولايات المتحدة، الصين، المملكة المتحدة، إسرائيل، والإمارات العربية المتحدة. وكانت الهند، هي الاستثناء الوحيد، بسبب قدراتها على تطوير لقاح، وكذلك بسبب إمكاناتها المحلية في تصنيع اللقاحات.
اشترت الدول الغنية جرعات من اللقاحات كافية لتطعيم جميع سكانها ثلاث مرات، إذ اعتمدت جميعها للاستخدام، وفي المقابل، لن تتمكن 70 دولة من الدول ذات الدخل المنخفض من تطعيم أكثر 10% من سكانها، ولن تستطيع 85 دولة من الوصول الواسع للقاحات قبل عام 2023، ولن يتمكن العالم من الوصول إلى التحصين الشامل قبل نهاية العام 2024.
في أفريقيا، تتوقع المؤسسة الأفريقية للحماية من الأوبئة أن تحتاج دول القارة إلى 1.5 مليار جرعة، وطلبت الدول الأفريقية بالفعل 900 مليون جرعة كمرحلة أولى. غينيا، مثلاً، لم تحصل سوى على 25 جرعة فقط، ليس 25 ألفًا، أو 25 مليونًا، فقط 25 جرعة، وبالطبع تلقاها عدد من كبار المسئولين هناك.
وحصلت كل من مصر وجنوب أفريقيا والجزائر وأوغندا ونيجيريا على كميات محدودة من لقاحات صينية وروسية. وتعاقدت هذه الدول وغيرها من الدول الأفريقية على ملايين الجرعات من لقاحات فايزر- بيونتك وأسترا زينيكا وغيرها. لكننا لا نعلم متى يمكن أن تتاح هذه اللقاحات، وحسب ما نشر على موقع التليفزيون الألماني”دي. دبليو” فقد لا تتوفر اللقاحات في معظم الدول الأفريقية قبل أبريل 2022.
وفي جنوب شرق آسيا، يتوقع أن تحقق سنغافورة باقتصادها مرتفع الدخل والعدد القليل من السكان التلقيح الشامل بنهاية العام الجاري. أما ماليزيا وفيتنام وتايلاند وبروناي فربما تصل إلى التلقيح الشامل بنهاية 2022، وتتأخر إندونيسيا والفلبين في تحقيق ذلك إلى نهاية عام 2023. أما الدول الأفقر، مثل كمبوديا ولاوس وميانمار، فقد لا تتمكن من تحقيق التلقيح الشامل حتى في غضون السنوات الخمس المقبلة.
مع دخول الموجة الثانية من الجائحة، وظهور سلالات جديدة من الفيروس في عدد من الدول، زاد الطلب على اللقاحات، وقامت الدول الغنية -أيضًا- بشراء لقاحات تزيد على أعداد سكانها، فاشترت بريطانيا مثلاً أكثر من 400 مليون جرعة، وأمنت كندا جرعات تكفي لتطعيم كل سكانها خمس مرات. الحقيقة الواضحة والمؤسفة تتكرر، تستفيد الدول الغنية أولاً، بينما يتعين على الدول الفقيرة أن تنتظر لسنوات وربما لعقود.
والنتيجة أن الدول الغنية، التي تضم حوالي 15% من سكان العالم، تمتلك حاليًا حوالي 60% من جرعات اللقاحات المتاحة. وفي مواجهة هذا التنافس المحموم على اللقاحات والتوزيع غير العادل لها، تم إطلاق مبادرة عالمية تحت مسمى “كوفاكس” وانضمت لها أكثر من 190 دولة. تهدف المبادرة إلى ضمان وصول سريع وعادل إلى اللقاحات وتلقيح حوالي 20٪ من السكان في هذه الدول. لكن الدول الغنية والشركات المنتجة تقوضان المبادرة، وتبرم صفقات ثنائية لشراء ملايين الجرعات حتى قبل حصول اللقاحات على الموافقة النهائية، في حين تبدي كوفاكس ترددًا في إبرام صفقات قبل الحصول على الموافقة والترخيص بالاستخدام.
مؤخرًا، نشرت مؤسسة “راند -أوربا”، وهي أحد مراكز التفكير والبحوث والدراسات، دراسة عنوانها “كوفيد-19 وتكلفة تأميم اللقاحات”. الدراسة، التي قام بها خمسة من الباحثين، سعت إلى تقدير الخسائر الاقتصادية المترتبة على استحواذ الدول الغنية على اللقاحات، وحاولت الإجابة عن سؤالين، هما: كيف يمكن أن تتأثر إدارة أزمة كوفيد-19 بتأميم اللقاحات؟ وما هي التكلفة الاقتصادية المرتبطة بالوصول غير العادل للقاحات بين الدول؟
رصدت الدراسة -المنشورة على موقع المؤسسة- أن تأميم اللقاح والصراع المحموم عليه قد يمنع -أو يؤخر- وصوله إلى من هم في أمس الحاجة إليه، وإعطاء الأولوية في تلقي اللقاح للأشخاص والفئات الأقل عرضة للخطر في البلدان المنتجة والغنية، قبل الفئات والأشخاص الأكثر عرضة للخطر في البلدان الفقيرة، يعني المزيد من الوفيات التي يمكن تفاديها والمزيد من الخسائر الإقتصادية والآثار الإجتماعية المترتبة على ذلك.
وقالت الدراسة إن التنافس على اللقاحات والرغبة في اكتنازها يعبر عن انحيازات وطنية وقومية يمكن أن تكون مفهومة، لكنها غير مبررة وغير مسئولة وغير أخلاقية، ففي ظل الطلب الهائل والمتزايد على اللقاحات، وبالنظر إلى القدرات الإنتاجية المحدودة للشركات، وكذلك قيود الملكية الفكرية التي تحرم الكثير من الدول من صناعة اللقاحات، سيؤدي هذا التسابق المحموم إلى زيادة أسعار اللقاحات ونقص الإمدادات التي يمكن لكوفاكس أن تشتريها.
وأكدت الدراسة على أن الفشل في توفير اللقاحات للدول النامية، التي يعيش فيها أكثر من نصف سكان العالم، قد يؤدي إلى احتمال حدوث طفرات وسلالات جديدة من الفيروس، ربما لا توفر اللقاحات الحالية الوقاية منها، وأن أي تفشي جديد للمرض في هذه الدول قد ينتقل إلى البلدان الغنية التي تستحوذ على اللقاحات.
وخلصت الدراسة إلى النتائج التالية:
– تصل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بكوفيد-19 وآثاره في غياب اللقاحات إلى حوالي 3.4 تريليون دولار سنويًا، يخسر الاتحاد الأوربي حوالي 983 مليار دولار سنويًا، تمثل حوالي 5.6 .% من ناتجه المحلي الإجمالي السنوي، ويتكبد اقتصاد المملكة المتحدة خسائر تقدر بحوالي 145 مليار دولار، تمثل حوالي 4.3% من ناتجها المحلي الإجمالي، وتخسر الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 480 مليار دولار سنويًا، تمثل نحو 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
– في حال عدم حصول البلدان الفقيرة على اللقاحات، سيواصل الاقتصاد العالمي خسارة ما يقدر بحوالي 153 مليار دولار سنويًا من الناتج المحلي الإجمالي، سيخسر الإتحاد الأوروبي حوالي 40 مليار دولار سنويًا، وستخسر الولايات المتحدة حوالي 16 مليار دولار، وستخسر المملكة المتحدة ما بين 2 – 10 مليار دولار سنويًا.
– حتى إذا تمكنت البلدان الغنية والمنتجة للقاحات من تحصين جميع سكانها ضد الفيروس، فإن تأميم اللقاحات والتوزيع غير العادل والوصول غير المتكافىء، يكلف الاقتصاد العالمي حوالي 1.2 تريليون دولار سنويًا، وما لم تتم السيطرة عل الفيروس في جميع مناطق العالم ستستمر الخسائر الاقتصادية المرتبطة بكوفيد-19.
– في حال توافر إمدادات كافية من اللقاحات للدول الغنية فقط، يمكن أن يتحسن الاقتصاد نسبيًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة والصين والهند وروسيا، لكنه سيظل يعاني لفترة غير معلومة من الآثار السلبية المرتبطة بانخفاض الطلب في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض. وما لم يتم توفير اللقاحات لهؤلاء، ستزيد أعداد العاطلين وتنخفض الدخول الأمر الذي يترتب عليه انخفاض الطلب، ومن ثم انخفاض مبيعات المصدرين الكبار في أوروبا وأمريكا الشمالية والصين.
– إذا تمكنت الدول الفقيرة من الوصول العادل للقاحات، ستستفيد جميع دول العالم، وفي مقابل كل دولار يتم إنفاقه على توفير اللقاحات للجميع، ستحقق الدول ذات الدخل المرتفع حوالي 4.8 دولار في المقابل.
لفتت الدراسة النظر إلى أن الإنفاق الحالي على اللقاح قليل نسبيًا، مقارنة بالخسارة الاقتصادية المرتبطة بالوباء، لذلك توصي بالمزيد من التنسيق والتعاون بين الدول والمنظمات الدولية. وتوصي بضخ المزيد من الاستثمارات في تطوير اللقاح وتصنيعه وتوزيعه وضمان الوصول العادل إليه، وترى أن هذا الاستثمار سيكون مفيدًا على المدى الطويل، ويمكن أن يشكل أساسًا لتعزيز التعاون الدولي في مواجهة الجائحة واحتواء آثارها الاقتصادية والاجتماعية. إلى هنا، انتهت نتائج الدراسة، وتتبقى كلمات أخيرة.
حسب دراسة أجراها “المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية” في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التوزيع العادل للقاحات يخدم الصحة العامة والمصالح الاقتصادية في جميع دول العالم. وقال الأمين العام لغرفة التجارة الدولية “جون دنتون”: “إن توفير اللقاحات لدول العالم النامي ليس عملا من أعمال الكرم أو البر، إنه استثمار أساسي يتعين على الحكومات القيام به، إذا أرادت إنعاش اقتصاداتها المحلية”.
الإنسانية في امتحان كاشف وغير مسبوق، ولا ينبغي أن تخضع اللقاحات المنقذة للحياة لقوانين السوق العمياء واعتبارات الوطنية الضيقة، فالاقتصاد العالمي مترابط الآن أكثر من أي وقت مضى، والأزمة تهدد الجميع ولا يمكن الخروج منها دون تنسيق وتعاون بين جميع دول العالم، والعمل المشترك من أجل ترتيب واضح للأولويات وجداول زمنية شفافة لضمان وصول اللقاح مجانًا -وفي الوقت المناسب- للفئات المستهدفة والأكثر عرضة للخطر -أينما كانوا- بغض النظر عن الطبقة أو اللون أو الجنسية أو الدين.