في التجارب الديمقراطية الراسخة، لا تخلو الأحزاب السياسية من خلافات وصراعات بل ومؤامرات وانقلابات، لكنها تظل دائما تحت سقف البيت الواحد، دون أن تصل الأمور عادة إلى أن يسلم أعضاء الحزب الواحد بعضهم لخصومهم السياسيين لذبحهم بسكين بارد.
الصراع مع أطراف سياسية أخرى يجبر الأطراف المختلفة داخل التيار الواحد على طي صفحة الخلاف والوقوف صفا واحدا لمواجهة أي أزمة قد تؤثر على مستقبل الحزب وسمعته السياسية.
رأينا ذلك في الولايات المتحدة خلال الأيام الماضية، ففي محاكمة تاريخية، فشل مجلس الشيوخ في إدانة الرئيس السابق دونالد ترامب بتهمة التحريض على الأحداث التي شهدها مبنى الكونجرس مطلع العام الحالي بفضل انحياز الجمهوريين إلى جانب الرئيس الجمهوري ترامب رغم رفض الكثيرين منهم لمواقفه.
وصوت أعضاء «الشيوخ» بأغلبية 57 مقابل 43 لصالح الإدانة، وهو ما يقل بعشرة أصوات عن العدد المطلوب لتمرير الإدانة وهو 67 صوتا، أي أغلبية الثلثين. بذلك تمكن الجمهوريون في المجلس من إغلاق القضية التي أراد الديمقراطيون أن يحملوا فيها ترامب مسؤولية حصار «الكابيتول» الذي سقط فيه خمسة قتلى بينهم شرطي.
فريق دفاع الرئيس السابق جادل بأن المحاكمة ما كان يجب أن تعقد من الأساس لأن ترامب ترك السلطة، كما أن خطابه وسط أنصاره محمي بضمان الحق في حرية التعبير التي يكفلها الدستور الأمريكي.
ورغم رفض تيار كبير داخل الحزب الجمهوري لسياسات ترامب ومواقفه أثناء معركة انتخابات الرئاسة وبعدها، فإن الالتزام الحزبي جعل أغلب الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ يرفضون قرار إدانته، من منطلق الحفاظ على مستقبل الحزب والخوف من تأثير إدانة ترامب على حظوظ الجمهوريين في أي استحقاق انتخابي قادم.
أما في دول الموز التي تسمح بوجود تعددية حزبية شكلية من باب ذر الرماد في العيون، تصبح الأحزاب تابعة للسلطة دون أن تشارك فيها، وتصبح مهمة القيادة الحزبية، ضمان السيطرة على أداء ممثليها في المجالس النيابية الشكلية أيضا «بما لا يخالف رغبة السلطة وحزب الأغلبية إن وجد». ويصبح دور قيادة أحزاب المعارضة التغني بحكمة السلطة وإنجازتها التي لا وجود لها على أرض الواقع، فُيُجزل لقيادتها العطاء ويحجز لهم ولزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم مقاعدهم في المجالس النيابية ليشاركوا أقرانهم من الموالاة في وصلات التصفيق والمدح.
فإذا ما حاد هذا الحزب أو ذاك عن الطريق المرسوم، يجد نفسه من حيث لا يدري في دوامة الصراعات والتفخيخ والانقلابات وصولا إلى محطة التجميد. أما إذا قرر بعض أعضاء تلك الأحزاب الانحياز للناس وهمومهم واستخدام حقهم الدستوري في انتقاد السلطة وأحزابها «الكرتونية»، تتداعى عليهم الطعنات من الرفاق قبل الخصوم، ومن أحزابهم المعارضة -شكلا- قبل الموالاة، فينتهي بهم الأمر إما محبوسين أو مفصولين أو مشردين.
قبل أيام، أعلن المستشار بهاء أبو شقة، رئيس حزب الوفد، في مؤتمر صحفي مفاجئ، قرارات فصل نهائي لـ 10 من قيادات الحزب، على رأسهم عضو مجلس النواب محمد عبد العليم داوود، وعضو مجلس الشيوخ ياسر الهضيبي المتحدث السابق باسم الحزب.
أبو شقة تحدث خلال المؤتمر عن «مؤامرة لإسقاط حزب الوفد، وتلقي بعض المفصولين تمويل من الخارج»، متهما البعض الآخر بالتخابر والتآمر والتخطيط لانقلاب على القيادة الشرعية للحزب.
جاء ذلك مع واقعة إحالة النائب الوفدي عبد العليم داود إلى لجنة القيم بمجلس النواب للتحقيق معه على خلفية اتهامه لحزب مستقبل وطن بتوزيع «كراتين» خلال الانتخابات لحث المواطنين على التصويت لمرشحيه، ما ساعد على إفساد الحياة السياسية.
تضامن أعضاء الهيئة البرلمانية للوفد بـ «النواب» مع داود وقرروا خلال اجتماع عقد في جلسة خاصة على مقهى في وسط القاهرة اختياره رئيسا للهيئة البرلمانية للحزب ضد رغبة أبو شقة والجهات التي ينسق معها والتي سجلت تلك الجلسة -صوت وصورة-.
اقرأ أيضا:
عبدالعليم داوود لـ”مصر 360″: لم أخرج عن النص في حديثي عن حزب الكراتين.. وما يحدث يقتل الحياة الديمقراطية
ولا يخفى على أحد أن أبو شقة المعين بقرار جمهوري في «الشيوخ» هو الذي تفاوض لحجز حصة «الوفد» ضمن قائمة مرشحي «من أجل مصر» التي قادها «مستقبل وطن» في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، وضمن رئيس الحزب لابنته وللمقربين منه في الحزب مقاعد القائمة السهلة بعيدا عن صراع المقاعد الفردية الغير مأمونة النتائج.
«الوفد» شهد أثناء مفاوضات الترشيح لقائمة «من أجل مصر» خلافات وصلت إلى حد اعتصام بعض القيادات داخل مقر الحزب، احتجاجا على ما وُصف حينها بمجاملات أبو شقة لرجاله، فضلا عن سماحه لـ 8 أعضاء من «مستقبل وطن» الدخول إلى القائمة المختارة ضمن حصة «الوفد»، الأزمة تصاعدت سريعا وصدر قرار من الهيئة العليا بالانسحاب من القائمة والإعلان عن إقالة أبو شقة من رئاسة الحزب، والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة لرئاسة «الوفد»، لكن تلك القرارت دخلت الأدراج وتغاضى عنها جميع أطراف الأزمة، بعد أن بدأت عجلة الانتخابات في الدوران.
هدأت العاصفة وتم تعيين أبو شقة في «الشيوخ» ثم جرى انتخابه وكيلا للمجلس، ألا أن «الكراتين» التي قذف بها النائب عبد العليم داود حلفاء رئيس «الوفد» قلبت المواجع، فقرر أبو شقة أن يضرب كل العصافير بحجر واحد، «يجامل أصحاب الفضل عليه وعلى ابنته، ويعفي الجهات المشار إليها من عقاب نائب برلماني نجح في دائرته بأعلى الأصوات، ويخمد الثورة المنتظرة ضده قبل أن تعاود الاشتعال»، وأصدر قرار فصل الأعضاء العشرة بالمخالفة للائحة الحزب الداخلية، فلا تحقيق ولا قرار إحالة ولا تصديق هيئة عليا.
في أول تعقيب له على قرار فصله قال داود: «أبو شقة رضخ للضغوط، وقرار الفصل يغتصب قرار الهيئة العليا بانتخابي رئيساً للهيئة البرلمانية للحزب بالتزكية؛ ويفصل قيادات وفدية أصيلة مثل محمد عبده، وطارق سباق، ومحمد حلمي سويلم، وحسين منصور، وياسر الهضيبي».
بالطبع لا مجال للمقارنة بين ما جرى في أمريكا من إصرار الجمهوريين على حماية الرئيس السابق دونالد ترامب ورفض إدانته في قضية اقتحام «الكايبتول»، وبين ترصد رئيس حزب الوفد للمخالفين له والمناوئيين للسلطة التي يواليها من أبناء حزبه، فأعضاء الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ الأمريكي فكروا في مصالح ومستقبل حزبهم، بينما حافظ أبو شقة على مصالحه الخاصة.
لعب أبو شقة دور المحلل، وقدم لأصحاب الفضل عليه رأس داود ورفاقه، وأرسل إلى رئيس مجلس النواب قرار فصل رئيس الهيئة البرلمانية لـ«الوفد» بشكل رسمي، وسمى سليمان وهدان وكيل البرلمان السابق رئيسا للهيئة الوفدية خلفا لداود، ورفض عقد الهيئة العليا للحزب وألغى الدعوة إلى الجميعة العمومية، واتهم كل من يدعو إلى عقدها بإشعال فتنة في الحزب.
استخدم خليفة سعد زغلول ومصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين أسلحة السلطة في إسكات المعارضين له، دمر تاريخ الحزب الليبرالي، وداس على كل لوائحه ومبادئه وشعارته، وجلس داخل مقر بولس حنا في حراسة الأجهزة الأمنية، وتخيل أن التاريخ سينسى له ما فعل.
أخيرا، استقرار أي دولة وتقدمها يبدأ بإيمان نخبة الحكم والمعارضة فيها بالتعددية والتنوع وتقبل الخلاف في الرأي، لكن الحديث عن هذا الاستقرار بهذا المفهوم، أصبح لا محل له من الإعراب، فطالما تحالف هؤلاء وهؤلاء على وأد أي محاولة للخروج من السياق المرسوم سنظل محلك سر، وسيظل الوطن مهددا من حيث لا يعلم هؤلاء بإنفجارات غير متوقعة مادامت نوافذ التعبير عن الرأي موصدة.