انتشر فيديو عبر وسائل التواصل لحريق اندلع عند معبر أرقين على الحدود بين مصر والسودان الساعات الماضية، وتم رفض دخول سيارة الإطفاء المصرية، رغم تعذر وصول سيارة سودانية. اصطف الأشقاء السودانيون لمنع السيارة المصرية من الدخول.
هذا المشهد يتوج عشرات المعلومات المفبركة والمصطنعة ضد مصر في الفترة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرة ممتدة منذ نظام عمر البشير وحتى الآن، مثل أن الموالح المصرية مسرطنة، أو أن المساعدات الطبية المصرية للسودان منتهية الصلاحية، أو أن الدقيق المصري المتدفق إلى السودان وقت الفيضان به بودرة سيراميك مضرة بصحة الإنسان.
هذه المنظومة المصنوعة بمهارة ذكرتني بالوثائق البريطانية التي رأيتها في دار المحفوظات البريطانية بمنطقة كيو بلندن، حينما كنت أعد رسالتي للدكتوراه، هذه الوثائق حافلة بعشرات الشائعات التي تم طبخها في مقر السفارة البريطانية في الخرطوم.
وتم إعلام الخارجية البريطانية بها في خطابات السفير البريطاني التي اطلعت عليها، ولعلي لا أنسى هذه الشائعة التي أطلقها عام 1955 حينما تم فتح ملف المياه بين مصر والسودان على خلفية استعداد مصر لبناء السد العالي ورغبة عبدالرحمن المهدي في تقنين حصة سودانية من المياه، لأن الأنصار كانوا يعتمدون علي الزراعة ومحصول القطن تحديدًا.
يقول السفير في خطابه للخارجية: “إننا اختلقنا أن المسئوليين المصريين والسودانيين التقيا للتباحث فقال المصري للسوداني “هل تعتقد أن مزيدًا من المياه سيساهم في تغيير لونك”.
وثيقة أخرى تعترف بنشر شائعة في جنوب السودان حول أن المصريين قادميين للجنوب لينزعوا زراعات الذرة التي يعتمد عليها الجنوبيون في مأكلهم ويزرعون الأرز الذي يأكله المصريون مكانها، وكانت هذه الشائعة في سياق مجهود مصري قاده جمال عبدالناصر لضمان استقلال كامل للتراب الوطني السوداني، في حين كانت بريطانيا تسعى إلى أن يظل جنوب السودان تحت ولاية الحاكم العام البريطاني.
وثيقة ثالثة عام 1966 يقدم فيها السفير البريطاني في الخرطوم تقدير موقف لحكومة بلاده يقول فيه: “إذا أقدمت بريطانيا على مساعدة حركة أنانيا في جنوب السودان (حركة جنوبية مسلحة كانت تحارب الخرطوم) فسيحدث تقارب مصري سوداني وهو ما حاربناه منذ عشر سنوات”.
قياسًا على هذه الخبرة التاريخية، نكاد نجزم أن الشائعات والحكايات والتحريض على مصر في السودان هو صناعة مخابراتية بامتياز تقوم بها إثيوبيا وأطراف أخرى تريد أن تنسف التقارب السوداني المصري في أزمة سد النهضة، والمؤسس على مصالح كل بلد على حدة وطبيعة الأخطار التي تواجهها بسبب هذا السد.
بالأمس مثلًا موقع مجهول نشر وثيقة مزورة تقول إن الاتحاد الأفريقي اعترف بحلايب ضمن الحدود المصرية، ومن ثم هاجم رئيس مفوضية الحدود السودانية مصر، دون التأكد من صحة الخبر. بينما العبدة الفقيرة إلى الله والتي لا تملك أي موقعًا تنفيذيًا ظلت تتواصل لساعات مع أصدقاء في مفوضية الاتحاد الأفريقي، وغيرها لمتابعة مدى صحة الخبر الذي اكتشفت أنه مفبرك في النهاية.
المعابر البرية بين مصر والسودان هي الهدف الحالي للشائعات والمؤسس على أن مصر تنهب السودان وخيراته وتضر السودانيين. بينما الحقائق الإحصائية طبقًا لما نشره الدكتور عادل عبدالعزيز الفكي في جريدة السوداني، تقول إن حجم العجز التجاري بين مصر والسودان لا يتجاوز 136 مليون دولار. بينما العجز التجاري السوداني مع العالم هو 5.3 مليار دولار وفي هذه الحالة فإن نسبة مصر من العجز التجاري السوداني الكلي لايتجاوز 2.3%، فيكون السؤال المشروع، من ينهب السودان مصر أم كل دولة تستورد من السودان؟.
وبعيدًا عن الإحصاء، وقريبًا من حياة الناس قفزت أسعار الفواكه من الموالح في السوق السودانية بعد أن الإغلاق المؤقت للمعابر البرية بين مصر والسودان لأسباب سياسية، بعبارة أخرى تضرر المواطن السوداني العادي من إغلاق المعابر بينما تستفيد الأجندات السياسية لإثيوبيا التي لا تتوقف عن اتهام مصر منذ اندلاع الاشتباكات الحدودية مع السودان أنها طرف ثالث في هذه الحرب علي الرغم من أن قام بربط ملف سد النهضة بملف الحدود الإثيوبي السوداني هم الإثيوبيين أنفسهم منذ مارس 2020 بعد أن بدأ الموقف السوداني يبحث في تداعيات بناء السد على السودان.
وبدأت ثقة السودان في إثيوبيا تتحلل بعد انسحابها من التوقيع على اتفاق واشنطن، ثم قيامها بالملء الأول لسد النهضة دون اتفاق، ما ساهم في انكشاف استراتيجي سوداني، حين توقفت محطات مياه الشرب السودانية ثم توقفت مرة أخرى بسبب إطلاق مياه هذا الملء، وأخيرًا بالتأكيد آبي أحمد رئيس الوزراء السوداني هو المسئول الأول عن حربه ضد “تيجراي” وهي التي بسببها حدث انكشافًا إثيوبيًا عسكريًا علي الحدود مع السودان، فأعادت الخرطوم تموضعها على ترابها الوطني المحدد في اتفاقية 1902.
المشكلة الأساسية التي نواجهها في السودان هو الاستعداد الجاهز لدى الذهنية السودانية الشعبية لتصديق أي شائعة على مصر ونشرها على “جروبات الواتس آب” لتنتشر انتشار النار في الهشيم، وذلك في تقديري لعدد من الأسباب أن هذه الذهنية تعودت أن مصر هي شيطان كامن في كل تطور سياسي سوداني تاريخيًا، بسبب مجهودات المخابرات البريطانية، والمجهودات الغربية الاستراتيجية والمستمرة في ضمان فرقة مصرية سودانية، إلى حد منع مصر من استزراع القمح في السودان في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
فطبقًا لتسريبات حصُلت عليها منسوبة ليوسف والي وزير الزراعة الأسبق، وهي التسريبات التي أرجحها نظرًا لحجم المقاومة الغربية تاريخيًا لأي دور مصري للتدخل في النزاعات السودانية، وتفضيل أن يتم ذلك من المنصة الإثيوبية، حيث دخلت مصر معركة حقيقية للمشاركة في قوات حفظ السلام في جنوب السودان.
أما السبب الثاني فهو الدور التاريخي الذي قامت به الجبهة القومية الإسلامية في ضرب عمق العلاقات الشعبية السودانية على مدى 30 عامًا، ورموز هذه الجبهة تحاول حاليًا زرع أسافين جديدة في علاقات البلدين الرسمية، بتقدير أن التقارب المصري السوداني هو في حقيقته خصمًا من حجم وجودهم المستقبلي في المعادلة السياسية السودانية، التي تتبلور حاليًا وفق توازنات حرجة.
ولعل فشلهم التاريخي أن يخترقوا مصر بمشروعهم الإسلاموي سواء بمحاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 1995، أو تصدير الجهاديين والأسلحة في نهايات القرن العشرين أو بمساندتهم للإخوان عام 2012 وهو وقود تاريخي لدورهم الراهن في تشويه العلاقات المصرية السودانية.
وثالثًا، فإن تأخر النخب السودانية في الاشتباك مع هذه الحالة السلبية بشأن صورة مصر في السودان، والتي تضر ضمن ما تضر المصالح الاستراتيجية السودانية ذاتها، يجعل إدانة مصر في تقديرنا للأسف في بعض الأحيان جزء من الوطنية السودانية، إلى حد أنني حينما نشرت على صفحتي عبر “فيسبوك” للأصدقاء أن يتابعوا بث رحلة أم كلثوم إلى السودان في ستينيات القرن الماضي على قناة ماسبيرو المصرية، لم يتفاعل بعض الأصدقاء من السودان مع مانشرت إلا في إطار الصورة الذهنية السلبية عن مصر حتى ولو خارج السياق.
وقالوا إن الإعلام المصري يتجاهل الفنانين السودانيين العظام كمحمد وردي، وإن مسلسل أم كلثوم لم يذكر الشاعر السوداني الهادي آدم الذي كتب أغنية واحدة لسيدة الغناء العربي هي “أغدًا ألقاك”. بينما الوقائع على الأرض تشير إلى أن نظام البشير اختار أن يبيع مدرسة أم كلثوم التي تقع بمنطقة السجانة بالسودان.
إجمالًا، يبدو أن مصر حكومة وشعبًا منوط بها هذه الأيام عملًا وانتباهًا على مستوى السياسيات الرسمية، مطلوب تكثيف التفاعل الإيجابي مع المنظومة السياسية السودانية في كافة الملفات وصولًا لمرحلة الانتخابات بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في سلوك سياسي وأمني مشابه لما جرى في ليبيا مؤخرًا، وانتباهًا من المصريين على منصات التواصل الاجتماعي ألا يقعوا في شراك الفخ الإثيوبي ضد مصر والسودان.