لنفترض أنك تحيا وتشغل وظيفة في أحد أحياء العاصمة، بينما يعيش شقيقك الأكبر في القرية حيث (يزرع القيراطين)، فأيكما أكثر احتمالاً أن ينجب طفلين، وأيكما أكثر احتمالاً أن ينجب أربعة أو خمسة أطفال؟
أنت على الأرجح تعرف الإجابة، ويمكن أن تتوسع بالمثال أبعد قليلاً، وتتخيل شقيقين من زمن أسبق قليلاً، أحدهما استطاع تعليم أولاده، فتخرجوا مهندسًا ومحاميًا وطبيبة، بينما لم يتمكن الآخر من منح أولاده نفس القدر من التعليم، فالتحقوا بالأعمال الحرفية المختلفة، أو افتتحوا ورشة هنا أو مقهى هناك. فإذا انتقلنا إلى الجيل التالي للعائلة، تُرى أبناء أي من الرجلين سينجب أعداد أكبر من الأطفال؟
لنترك الاختلافات العائلية والجغرافية والتعليمية، وننظر إلى الاختلافات الطبقية؛ فمن الذي ينجب -في المعتاد- ستة أولاد؟ حارس العقار أم صاحب العقار؟ المزارع أم صاحب المزرعة؟ العامل أم صاحب المصنع؟
إذا تراجعنا خطوة أخرى لنوسع الرؤية، ونظرنا إلى خريطة العالمين الأول والثالث، سنرى بوضوح أنه كلما ازداد فقر الدولة أو سكانها -كما في جنوب وغرب آسيا- انفجرت فيها الزيادة السكانية، وكلما زادت رفاهيتها -كما في قارة شمال وغرب أوروبا- انخفض السكان إلى درجة تدفع الحكومة إلى جلب مهاجرين لملء فراغات سوق العمل. فضلاً عن الإغراءات اليائسة التي تقدمها لسكانها لحثهم على تكوين الأسر والإنجاب. وبالطبع فإن أحدًا لن يغيّر حياته تغييرًا أبديًا -كما يفعل بها الأطفال- لمجرد مجاملة الحكومة. سواء كانت رغبة الحكومة إنجابًا أكثر أو أقل.
المقصد أنه من الصعب جدًا عدم رؤية العامل الاقتصادي (الفقر والغنى) كسبب أول في مسألة الزيادة السكانية. سواء كنا نتكلم عن الفارق بين فرعين (غني وفقير) في عائلة واحدة، أو الفارق بين طبقتين، أو بين دولتين. ومن الأصعب أن نتصور أن الدعاية التلفزيونية ومنشورات التوعية يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في علاج المشكلة السكانية. فالفقير لا ينجب أكثر لأنه غبي أو جاهل أو مخدوع، بل -كما يعرف جميع خبراء الاجتماع- لأن أولاده هم “بوليصة التأمين” الحقيقية التي يملكها حين يصل إلى الشيخوخة. أو حتى لزيادة موارد الأسرة قبل ذلك عن طريق تشغيلهم.
لقد اقتحمت دار الإفتاء مؤخرًا “معركة” المشكلة السكانية. لكن الإيديولوجيا في النهاية هي علم التبرير الاجتماعي. وبمعنى أدق فإن الناس لا ينجبون (بسبب) حديث “تناكحوا تناسلوا”، وإنما يرددون حديث “تناكحوا تناسلوا” لتبرير رغبتهم الموجودة سلفًا في إنجاب الأطفال. ومهما كان تديّن أبناء الطبقة الوسطى الذين يلحقون أبنائهم بالمدارس الأجنبية ذات المصروفات الباهظة، فإنهم لن “يتناسلوا” إلا بقدر ما يستطيعون تحمل كلفته. وفي المقابل فإن شخصًا “لا يركعها” ستجده حافظًا لكل نصّ يجد أنه يدعم مصالحه أو أهدافه.
وعلى الرغم من أن الزيادة السكانية المتلاحقة في العقود الأخيرة تكاد تشكل تهديدًا وجوديًا على بلدنا محدود الموارد. إلا أن تصرف الدولة تجاهه ظل -للعجب وعلى خلاف ملفات أخرى- شديد النعومة لسنوات طويلة ولا يزال، مرتكزًا على دعايات التلفزيون وتوفير موانع الحمل في الوحدات الصحية، حيث يوزعها أطباء وموظفون منهم من يعتقد أصلاً بحرمانية تحديد النسل. حتى ليظن المراقب الغريب أن مشكلتنا السكانية ليست بهذا الإلحاح. مع أننا تخطينا قبل زمن الخطوط الحمراء.
فالعبارة التي نحب أن نرددها (مصر مجتمع شاب) تعني في جانبها الآخر أن الجزء الأكبر من الزيادة السكانية لا يزال ينتظرنا في المستقبل. وإذا كان من الصعب تصور التزام الناس -في أي مجتمع- بمجرد عدم رمي ورقة في الشارع من دون قانون يعاقب على ذلك، فإن العنصر التشريعي لا يزال في غياب فادح عن مسألة زيادة السكان. وبالطبع فإني لا أٌقول بـ “معاقبة” من ينجب أكثر، فإن ذلك سوف يقع في النهاية على عاتق أطفال لا ذنب لهم. وإنما ينبغي تحفيز الأسر الملتزمة بتنظيم النسل، وخلق وضع يكون فيه واضحًا أن الأسر المنظمة لنسلها سيكون لها فرص أفضل في الاقتصاد والتعليم والتوظيف، وأن الفقير الذي ينظم النسل لن يجد نفسه في نهاية المشوار جائعًا لا يجد قوت يومه.
ومن ناحية أخرى، وتصديًا للجائحة السكانية المقبلة بسبب “مجتمعنا الشاب”، فلابد من إصلاح جذري لمسألة السياحة التي تبقى أحد أشد ألغازنا الاقتصادية استغلاقًا. فمن كل الزوايا، الشاطئية الترفيهية، أو الثقافية التاريخية، لا يمكن أن يبقى زوار مصر من السياح (13 مليون في 2019) أقل بأضعاف من زوار تركيا (51 مليون في 2019). هذا الفارق الرقمي غير المبرر، قد يكون تعويضه هو الكنز الذي يستطيع أن يقينا ما تحمله لنا الأيام من صعوبات، وسكان وصعوبة تنظيم النسل.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا