يجري النص في أغلب دساتير دول العالم في النظامين البرلماني والرئاسي على حق السلطة التنفيذية في التدخل في العملية التشريعية. فضًلا عن مساهمتها في صناعة القوانين، وذلك من خلال طرق متعددة. فمن حقها اقتراح القوانين والتقدم بها إلى السلطة التشريعية صاحبة الاختصاص الأصيل في التشريع. كما أن من حق السلطة التنفيذية الموافقة على القوانين التي يقرها البرلمان، أو الاعتراض عليها اعتراضًا مطلقًا، أو بشكل مجزوء. وهو ما يعرف بحق التصديق على القوانين، أو حق الاعتراض عليها أو حقها في إصدار القوانين الفرعية والتي يُطلق عليها اللوائح. ذلك بما لها من تفويض من السلطة التشريعية في هذا الصدد أو دورها في صناعة التشريعات بناءً على مراسيم مؤقتة أو قرارات بقوانين في الحالات العاجلة والضرورية عند غياب السلطة التشريعية. وهي ما يُسمى بحالات الطوارئ. وهذه هي الحدود الدستورية على اختلاف بسيط بين النظم الدستورية. وبعضها في كيفية معالجتها لهذا الموضوع، على حسب النظام الذي يسود في دولة عن أخرى.
ولكن حقيقة تفعيل هذا الدور في دول العالم الثالث، ومن بينها مصر، لا تقف عند الأطر المرسومة بشكل نصي دستوري. بل تتعدى ذلك الأمر من خلال الدور الذي تلعبه السلطة التنفيذية في تشكيل البرلمانات. أو من خلال سيطرتها على أغلبية البرلمان من خلال الأحزاب الموالية للحكومات. بما يمكنها من السيطرة الفعلية على مجريات الشأن التشريعي برمته قبل سيطرتها على الأمر الرقابي. وهو المنوط من حيث الأصل كعمل رئيسي لمجالس النواب، وهو ما يؤدي بنا إلى حالة من المزج غير الطبيعي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. على غير ما تأتي به نصوص الدساتير، أو ما تسير عليه النظم السياسية في أغلب دول العالم التي تؤمن بدور الشعوب وأحقيتها في المشاركة في حكم بلدانها، من خلال النواب الذين يقومون بانتخابهم لتمثيلهم في المجلس النيابية أو التشريعية على اختلاف مسمياتها.
غالبية الفقهاء الدستوريون يرون أن اقتراح القوانين هو العمل الذي يحرك الإجراءات التشريعية، ويقدم للتشريع مادته الأولية. وتعتبر مشروعات القوانين بما يتمخض عنها أهم القوانين في أي بلد. وهي تشكل الجزء الرئيسي من العملية التشريعية في النظم البرلمانية وغيرها. ويمكن اقتراح مثل هذه المشروعات من السلطة التنفيذية أو البرلمان. لكن لابد وأن لا يكون ذلك موقوفًا فقط على ما تقدمه الحكومات من مشاريع قوانين. وهو ما نلحظه بشكل واضح في مجتمعنا المصري بشكل أكثر جرأة على التعبير. وهو الأمر الذي يُخالف الأصول الدستورية في مجملها. فكيف يقف دور مجلس النواب فقط عند حدود مناقشة أو إقرار ما تقدمه الحكومة من مشروعات قوانين. إذ لم يلاحظ رجل الشارع أن هناك تشريعات قام بها أعضاء مجلس النواب دونما إرادة الحكومة. فعلى سبيل المثال، معظم ما تمت الموافقة عليه من قوانين في مجلس النواب المنقضي كانت عبارة عن مشروعات قوانين تقدمت بها السلطة التنفيذية. ذلك باعتبارها أسلوبًا من الأساليب التي تناقش من خلالها القوانين.
هناك الأسلوب الأمثل والطريقة الحقيقية لذلك، والمتمثلة في أن يخرج التشريع من صلب البرلمان، عن طريق لجانه المختلفة. هنا، لا نجد سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد من مشروعات قوانين قد تقدم بها النواب البرلمانيون من خلال اللجان النوعية، حتى هذه المشروعات لم تكن لتتم إلا من خلال تقديمها من خلال أغلبية برلمانية تحتجزها مسبقًا السلطة التنفيذية. وقد كانت ممثلة في ائتلاف دعم مصر في البرلمان السابق، أو من خلال سيطرة حزب مستقبل وطن على أغلبية مجلس النواب الحالي.
مجلس النواب الحالي بدأ أعماله بالموافقة على تمديد حالة الطوارئ. أرى أنه يقدم أوراق اعتماده للحكومة وليس لكتلة الناخبين التي من المفترض أن يكون ممثلاً أو نائبًا عنهم. سواء كسلطة تشريعية أو رقابية. ولما كنا بصدد العمل التشريعي، فإنني أرى أن هذا المجلس لن يختلف عن سابقه في اعتماده المطلق على تأييد الحكومة له وليس الشعب. وبالتالي فإن ما سيتم تفعيله أو نظره أو مناقشته من مشروعات قوانين ستكون بشكل توافقي مع السلطة التنفيذية، عاقدًا رهانه على رضائها عنه وليس رضا جموع الناخبين. وهو ما سوف يُنتج كما كان سلفه قوانين وتشريعات خارجة من رحم السلطة التنفيذية، وليس من احتياجات الشعب.
وهذا ما يلحظه القارئ من خلال ما تم في مناقشة تعديلات قانون المرور الأخيرة. إذ أنه بتاريخ الثلاثاء الموافق التاسع من فبراير 2021 تمت الموافقة النهائية على مشروع قانون مقدم من الحكومة، بتعديل بعض أحكام قانون المرور الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1973. ذلك كان بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، باعتباره قانون مكمل للدستور والموافقة على قرار رئيس الجمهورية رقم 549 لسنة 2020 بتعديل بعض فئات التعريفة الجمركية. كما أن مجلس النواب أمامه أربع مشروعات قوانين سينظرها خلال الفترة المقبلة، هي: مشروع قانون بإعفاء عوائد السندات المطروحة للاكتتاب في الخارج من أية ضرائب أو رسوم، ومشروع قانون بشأن عمليات الدم و تجميع البلازما لتصنيع مشتقاتها وتصديرها، ومشروع قانون بشأن إصدار اللائحة الداخلية لمجلس الشيوخ، ومشروع قانون بشأن تعديل أحكام قانون إنشاء صندوق تكريم شهداء وضحايا ومفقودي ومصابي العمليات الحربية والإرهابية و الأمنية وأسرهم الصادر بالقانون رقم 16 لسنة 2018.
مشروعات القوانين هذه كلها مقدمة من الحكومة، ومن ثم سيقتصر عمل مجلس النواب بشكل نظري على مناقشتها والتصويت عليها، وبشكل عملي وبحسب سيطرة حزب مستقبل وطن على أغلبية مقاعد مجلس النواب ستكون الحدود العملية هي التصويت بالموافقة عليها.
من هنا، فإن مبدأ الفصل بين السلطات أو التنسيق فيما بينها في حدود خدمة الوطن والمواطنين قد ابتلعه ذلك المزج المتعمد ما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أو بالتعبير الأدق من خلال استحواذ السلطة التنفيذية على مقدرات السلطة التشريعية بشكل كبير، يصل إلى حد خلط الأوراق وجعلها جميعها في يد السلطة التنفيذية، بعيدًا عن ما جاء النص عليه في الدستور المصري والمساير من الناحية النصية الورقية لمعظم دساتير العالم في كون السلطة التنفيذية هي صاحبة الاختصاص الأصيل في التشريع.
التساؤل الأهم هو: هل يقع مجلس النواب في مثل هذه الحالات بعيب الانحراف بسلطة التشريع؟ وإن لم يكن فيما هو معروض عليه حاليًا فربما فيما يأتي مستقبلاً. هذا العيب الخطير قد يلحق عمل البرلمان، إذ أن الانحراف التشريعي نجده في الفروض التالية:الانحراف عن الصالح العام، تجاوز الفرض المحدد دستوريًا، أما الفرض الثالث فإنه يتعلق بمسألة تنظيم المشرع للحريات العامة. ومن المبادئ المسلمة في خصوص الحريات والحقوق العامة التي نص الدستور على تنظيمها بقانون أنه إذا خول الدستور للمشرع سلطة تقديرية لتنظيم تلك الحقوق فيجب على المشرع ألا ينحرف عن الغرض الذي قصد إليه الدستور وهو كفالة ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية فإذا نقضها المشرع أو انتقص منها وهو في صدد تنظيمها كان تشريعه مشوباً بالانحراف.
لا أجد من سبيل سوى مناشدة السلطتين التشريعية والتنفيذية عدم تجاوز حدود التنسيق بينهما، ومراعاة مبدأ الفصل بينهما، بما يحقق الصالح العام.