القطيعة مع الماضي
أحد المفاهيم الأساسية التي خلقتها الحداثة هو تصور أنها تمثل قطيعة حادة مع الماضي السابق عليها. وكأنما قد أعيد خلق البشر ومجتمعاتهم من جديد بواسطتها. هذا المفهوم نظري بالأساس، بمعنى أنه لا يصف الواقع بقدر ما يصف تصورات الناس وفهمها له؛ فعندما نفهم الحداثة على أنها مجموع ما أحدثه تطور كل من الدولة الحديثة والرأسمالية من تغيرات تدريجية بالمجتمعات، ندرك أن على أرض الواقع لا توجد لحظة زمنية محددة في تاريخ أي جماعة بشرية تفصل بين ما يسمى بالحداثة وبين ما سبقها، وأن تحول الجماعات البشرية المختلفة إلى مجتمعات دول قومية رأسمالية حديثة قد اتخذ مسارات مختلفة على مدى زمني طويل، ولم ينته بها جميعًا إلى نموذج واحد بل إلى صور مختلفة، المشترك بينها هو فقط أن كل مجتمع منها قد شكلته نشأة دولة حديثة وتكوين سوق إنتاج واستهلاك رأسمالي.
لكن بغض النظر عن دقة مفهوم القطيعة مع الماضي في وصف الواقع التاريخي فهو جزء من تصور الإنسان، الذي ينشأ في مجتمع حديث، عن علاقته بماضيه؛ وهذا هو ما يعنينا هنا، فإسلاميو الصحوة يتبنون هذا المفهوم ويستخدمونه، دون قصد أو وعي كامل، في تصوراتهم عن الماضي والحاضر والمستقبل.
الإسلاميون أولاً يأخذون بتصور الحداثة لنفسها كقطيعة مع الماضي على أنه واقعي وصحيح. وهم يختزلون مفهوم القطيعة هذا في علاقة المجتمعات الحديثة بالدين، ومن ثم يتعاملون معه دائمًا تحت عنوان “العلمانية”. فالعلمانية في مفهوم الإسلاميين هي قطيعة للمجتمع الحديث مع الدين، تمثل انسلاخًا تامًا منه. وفي المقابل يعيدون تطبيق المفهوم على تاريخ نشأة الإسلام فيعيدون إنشاء مصطلح الجاهلية بتوسع لم يكن له من قبل في أي من النصوص التراثية، ففي هذه الأخيرة كان مصطلح الجاهلية هو إشارة إلى الزمن السابق على الدعوة الإسلامية وانتشارها وتمكنها، ولكن الإسلاميين من خلال تعريف نشأة الدعوة على أنها قطيعة مع الماضي بالمنطق الحداثي، يحولون مصطلح الجاهلية إلى مفهوم يصف منظومة اجتماعية شاملة ومتجانسة، وهي منظومة اجتماعية محورها هو غياب الدين أو الانسلاخ منه. وبإعادة إسقاط هذا المفهوم بصورته الجديدة على الحاضر، تصبح العلمانية والحداثة جاهلية جديدة.
جاهلية المجتمع
أوضحت سابقًا أن الإسلاميين قد استمدوا تصورهم للدولة بصفة عامة من مفهوم الدولة الحديثة وأعادوا إسقاطه على الدولة الإسلامية في الماضي. وكذلك عن تصورهم لأي دولة إسلامية يحلمون بإقامتها في المستقبل. ولكن من بين ما أوضحته سابقا أيضًا أن الدولة الحديثة تنشئ المجتمع كما نعرفه اليوم، والذي لم يكن له وجود بهذه الصورة فيما قبلها. تحقق الدولة الحديثة ذلك بتوحيد تصورات مواطنيها عن أنفسهم وعن موقعهم في العالم، بحيث تمر هذه التصورات من خلالها؛ بمعنى أن أي تصور لمواطن الدولة الحديثة عن نفسه يعكس تصوره عن موقعه في العالم، والذي يتمثل في سلسلة من الهويات على رأسها هويته القومية التي تميز المجتمع الذي ينتمي إليه عن غيره من مجتمعات الدول الأخرى. ولكن الدولة الحديثة لا تحقق ذلك على أرض الواقع فقط بالدعاية الخطابية من خلال دروس التربية الوطنية في المدارس أو من خلال الإعلام والإنتاج الثقافي الذي تموله.
الأدوات الرئيسية لصناعة الهوية القومية التي تستخدمها الدولة على أرض الواقع دون تعمد هي عمليات تنظيم الأنشطة اليومية لمواطنيها في جميع المجالات. بداية من تنظيمها لشؤونهم الشخصية (الميلاد، الوفاة، التعليم، الزواج، الطلاق، إلخ)، مرورًا بتنظيم أنشطتهم العملية الاقتصادية والمهنية، وحتى تنظيم ممارساتهم الترفيهية. الإحساس بهوية جامعة لأفراد مجتمع ينشأ من أن ممارستهم لحياتهم اليومية يصبغها طابع مختلف عن ممارسة أفراد المجتمعات الأخرى لحياتهم اليومية، هذا الطابع المميز تنشئه الطريقة المختلفة لتدخل الدولة وتنظيمها للأنشطة اليومية لمواطنيها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
تصورات الإسلاميين عن الدولة الإسلامية المتخيلة تؤدي بهم أولاً إلى تخيل دولة ذات هوية إسلامية، ومجتمع هو الآخر ذو هوية إسلامية، وهو ما يعني أن هذا المجتمع ينبغي أن يعكس هويته الإسلامية هذه في كل ممارساته اليومية. وبينما قادهم ذلك إلى مجالات واسعة من البحث في استنباط ممارسات إسلامية لكافة أوجه النشاط البشري، فقد قادهم أيضًا إلى النظر إلى الممارسات اليومية للمجتمع الحالي على أنها غير إسلامية بالضرورة.
هذا يفسر فكرة القرضاوي التي سبق الإشارة إليها عن أن الأمة قد “غابت أو غُيّبت عن ذاتها”. والذات بالمفهوم الحديث، الذي لم يكن له أي وجود في التراث النصوصي، هي موضع الهوية. وينتج عن رؤية المجتمع المسلم اسمًا وغير الإسلامي من حيث الهوية مسعى أسلمة المجتمع وأسلمة كافة ممارساته وأنشطته. ولكن ما هو أهم من ذلك أن تصورات الإسلاميين جميعًا تنطوي على تكفير المجتمع بشكل أو بآخر، وإن اختلفوا في إعلانهم لها وفي تصنيفهم لهذا الكفر، ما بين كفر غير واع يمكن التخلص منه بزرع وعي إسلامي في الأفراد، وبين كفر غير واع واضطراري لا يمكن التخلص منه إلا في ظل دولة إسلامية، أو كفر واع تنبغي محاربته حتى ينصاع لحكم الإسلام.
سعي الإسلاميين إلى أسلمة المجتمع تمثل في مشروع لتمديد الدين بحيث يمكن إدخاله كعامل مسيطر في أي ممارسة أو نشاط إنساني. لكن هذا المسعى واجه إشكالية أساسية، وهي أن محتوى أي ممارسة أو نشاط لا يحكمها التصورات العقلية ولكن المقتضيات العملية لها. يمكن للتصورات العقلية أن تلبس الممارسة ثوبًا إسلاميًا ظاهريًا، ولكنها لن تعدل من محتوى الممارسة الأساسي. فلو تخيلنا محاولة أسلمة ممارسة وظيفة كقيادة سيارة أجرة، لا يمكن تخيل طريقة إسلامية لقيادة السيارة، ولكن يمكن تخيل أن يستمع السائق طيلة الوقت لتلاوة القرآن من خلال راديو السيارة، أو أن يصر على رد التحية بالسلام عليكم، أو ألا يقبل أن تستقل سيارته امرأة غير محجبة أو وحدها دون رجل معها إلخ. الأمر نفسه يمكن تخيله مع أي ممارسة وظيفية أخرى، فليس ثمة طريقة إسلامية لإجراء جراحة، ولكن الجراح قد يرفض إجراء عملية إجهاض أو نقل أعضاء، ويمكننا أن نمضي مع أمثلة شبيهة إلى مالا نهاية. ولكن يبقى المشترك هو أن أسلمة التصورات العقلية للناس لا تؤدي إلى أي تغيير في محتوى ممارساتهم ولكنها فقط يمكن أن تؤدي إلى تعديل سلوكياتهم الشخصية المصاحبة لهذه الممارسة. ولكن ذلك نفسه يحدث في حدود. فالسلوكيات المصاحبة للممارسات اليومية لا يمكن لها جميعها أن تنفصل على المقتضيات العملية للممارسة أو للظروف الأخرى لسياقها أو للمصالح الشخصية. فالموظف في هيئة حكومية سيتوقف عن العمل في وقت الصلاة، ولكنه سيتلقى رشاوى لتمرير مصالح المتعاملين معه. وصاحب المحل التجاري سيحرص على أن يكون التلفاز في المحل مضبوطًا على إحدى القنوات الدينية لإذاعة التلاوة القرآنية طيلة اليوم، ولكنه سيبيع بضائع مزورة أو يخفي عيوب بضائعه أو يبالغ في سعرها إلخ. في المحصلة، مهما بلغ نجاح أسلمة تصورات الناس العقلية والتي قد تدفعهم إلى سلوكيات مظهرية متأسلمة إلا أن ذلك لا يمكنه تعديل محتوى الممارسات ولا يمكنه تعديل السلوكيات نفسها إلا في حدود. أما التعديل الحقيقي للسلوكيات بالمعنى الأخلاقي الديني فيظل أمرا يختاره الأفراد ويحملون أنفسهم عليه بشكل شخصي وفردي، وهي الفكرة العلمانية عن الدين التي يكرهها الإسلاميون.
هوية مأزومة
الهوية القومية التي تنشئها الدولة الحديثة في عملية بنائها تحمل في بنيتها إشكالية تعود إلى أنها تنبني حول تاريخ مصنوع، ليس ملفقًا أو مزورًا بالضرورة ولكنه انتقائي. في الحقيقة لا يمكن تسميته بالتاريخ بالمعنى العلمي وإنما هو سردية أو حدوتة ينبغي أن يتوافر لها عناصر البطولة والملحمية والتراجيديا أحيانا. بصفة خاصة لا توجد سردية قومية لا تنطوي بشكل أو بآخر على فكرة الاستثنائية، بمعنى فكرة الموقع الاستثنائي للأمة في التاريخ، ومعها فكرة الخطر الخارجي، فالأمة دائمًا واجهت أو تواجه مخاطر خارجية تهدد بتمزيق وحدتها والقضاء على استقلالها. الضرورات الدرامية للحدوتة القومية تحتم وجود الخطر الخارجي لخلق النماذج البطولية كما تتطلب الاستثناء العرقي للتميز في مواجهة الهويات القومية للدول الأخرى. وبقدر ما تتسع الهوة بين الماضي المجيد وبين ظروف الواقع الذي قد تكون الأمة فيه عرضة للإذلال من قبل عدو أو أعداء أكثر قوة، كلما كانت الهوية المنشأة مأزومة وأميل إلى خلق شعور تعويضي بالتفوق العنصري.
النموذجان البارزان لدولتين نشأت الهوية القومية لكل منهما في ظروف أزمة هما ألمانيا وإيطاليا، آخر دول غرب أوروبا في استكمال وحدة أرضيهما في مواجهة ما يشبه المؤامرة ضد تحقيق هذا الهدف، ولا يمكن تجنب اعتبار ظروف هذه النشأة بعيدة عن ظهور الأيديولوجية الفاشية في كلا البلدين، كما يمكن تتبع ظروفا مشابهة لأيديولوجيات فاشية في رومانيا وإسبانيا. في المقابل فإن الهويات التي أنشأتها دول ما بعد الاستعمار فيما يسمى بالعالم الثالث تنطوي جميعها على عناصر أزمة التشكل في مواجهة عدو محتل قامع لوجودها، وليست مصر مختلفة في هذا الأمر، فتبلور هويتها القومية في العهد الناصري دخل فيه بوضوح عنصر المواجهة مع الاستعمار، ومن ثم فليس مستغربًا أن الهوية الإسلامية المنشأة على مثال الهوية القومية تنطوي بدورها على هذه العناصر مع مضاعفتها. فالاستعمار بالنسبة للسردية الإسلامية قد استهدف تحديدا محو الهوية الإسلامية وطمسها (على خلاف السردية القومية التي تحدد أهداف الاستعمار باستغلال وسرقة موارد الأمة والاستفادة من المزايا الاستراتيجية لموقعها إلخ). الهوية الإسلامية إذن تنبني في إطار سردية لصراع وجود، وحيث أنها هوية دون دولة، فهذا الصراع حاضر ومستمر، ويضاف إليه أنها ترى الدولة القومية (العلمانية) هي أحد عملاء الاستعمار فيه، ثم تضيف السردية الإسلامية أيضا فئات فكرية وسياسية أخرى كأعداء للهوية الإسلامية، تجمعهم بشكل اختزالي تحت عنوان العلمانيين، وتعدد منهم الليبراليين والشيوعيين واليساريين ومؤخرًا النسويات ومنظمات حقوق الإنسان.
ينبغي ألا نغفل أن الهوية الإسلامية أو عناصر رئيسية منها كانت حاضرة في نسيج الهوية القومية التي أنشأتها الدول الحديثة الناشئة في بلدان العالم الإسلامي بدرجات متفاوتة. في الحالة المصرية يمثل العنصر الإسلامي جزءا رئيسيا من سردية الهوية القومية، ولكنه يقدم في إطار محاولة لقومنة الإسلام كأحد مكونات الهوية القومية، ومن ثم فعكس قومنة الإسلام إلى أسلمة القومية لم يكن نظريًا أمرًا مستبعدًا في أي وقت، وما كان يعوقه لبعض الوقت هو فقط أن أحلام المجد القومي بدت في طريقها إلى التحقق وإلى الوفاء بوعودها، على الأقل في خيال الشعب الذي آمن بها. انكسار الحلم القومي، وتراجع الدولة المصرية عن التزاماتها تجاهه بالتدريج أدى إلى فقدان الناس للإيمان به، وبدا أن السردية الإسلامية تقدم تفسيرًا لفشل هذا الحلم، وهو تحديدًا أن الهوية القومية وهم فرضه الاستعمار نفسه، وفي المقابل قدمت السردية الإسلامية حلمًا بديلاً وهوية تحمل في طياتها عناصر تفوق على الآخر في الحاضر وليس في ماض اندثر. ففي النهاية سواء كان المسلمون في حال سيادة وهيمنة عالمية أو كانوا مستضعفين فدينهم وفق هذه السردية يبقى دائمًا هو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه، وكل من ليس على هذا الدين أو خرج عنه هو على ضلال وهو في منزلة أدنى من المسلم المتمسك بدينه وهويته.
فاشية شعبوية
البناء النظري للهوية الإسلامية الذي قدمته في الفقرات السابقة كأي بناء نظري آخر لا يمكنه وحده أن ينطبع في تصورات الأفراد عن أنفسهم وعن موقعهم في العالم. بعبارة أخرى الخطاب الديني الذي يطرح أفكارًا متصلة بهذه الهوية لا يمكنه بذاته أن ينشئها في الأفراد، فهم ليسوا متلق سلبي يتلاعب الخطاب سواء كان دينيًا أو غيره بعقولهم. في الواقع يشبه الأمر أكثر السلعة المطروحة في السوق والتي يقبل عليها الناس حسب ملاءمتها لاحتياجاتهم ورغباتهم. سوق التصورات العقلية أو للدقة سوق المنتجات الرمزية، هو سوق كغيره يحكمه العرض والطلب، ومن ثم فالعلاقة فيه في اتجاهين، وهو أمر تعرضت لصورة منه عند حديثي عن استجابة منتجي الخطاب الديني للطلب على منتج يلبي احتياجات الذكر المأزوم بافتقاد الشعور بتفوقه الذكوري، وهي في الواقع أحد عناصر أزمة هوية أوسع تنتج طلبًا على منتج رمزي يسد الحاجة إلى الشعور بالتفوق في ظل ظرف موضوعي يفرض إحساسا مستمرًا بالعجز والدونية.
يلبي الشعور بالتفوق الذي تمنحه التصورات العقلية لهوية ما، احتياجًا نفسيًا وهو ما يتحقق بأوضح صورة دائمًا في مواجهة المختلف، خاصة إن وضع الشخص في موضع قوة غير متاح له في المعتاد بسبب تفاوت عناصر أخرى للتصنيف الاجتماعي. فيمكنك على سبيل المثال أن تشعر بتفوقك كمسلم على آخر غير مسلم أو مسلم غير ملتزم حتى وإن كان أكثر ثراءً، أو أكثر علمًا أو شهرة أو ينتمي إلى طبقة اجتماعية أعلى. ويمكننا أن نلمس هذا بشكل متزايد في تفاعلات الناس في الأماكن العامة مع آخرين يمكن أن يظهر من خلال مظهرهم أو سلوكهم ما يشير إلى اختلافهم في الدين أو في عدم الالتزام الكافي به. وعادة ما تكون النساء هن الأكثر عرضة لتفاعلات يعبر فيها الآخرون عن شعور التفوق الديني تجاهها إذا ما عكس مظهرها كونها غير مسلمة أو كونها مسلمة غير ملتزمة. السبب بالطبع هو أن تصنيف المرأة الديني أو التزامها به مرهون بعلامات ظاهرة أولها الحجاب ولكنها تمتد إلى تفاصيل أخرى في زيها وسلوكها. سلوكيات غير المسلمين أو غير الملتزمين من الرجال قد تفضحهم في ظرف مختلفة، مثل الإفطار في رمضان.
تفاعلات التعبير عن الشعور بالتفوق الديني تتراوح بين نظرات الاستهجان أو السخرية، مرورًا بالنقد اللفظي المسموع أو الموجه إلى الشخص مباشرة، أو التدخل بشكل مباشر لتعديل ملبس امرأة، وصولاً إلى صور من التعدي اللفظي وربما البدني أيضًا. وفي حالات كثيرة يتم تبرير وتسويغ التحرش بامرأة أو الامتناع عن التدخل لحمايتها بعدم التزامها الديني.
المجال الأوسع لممارسة تفاعلات الشعور بالتفوق الديني في مواجهة الآخر المختلف أتاحته في السنوات الأخيرة وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ازدهرت من خلال هذا الوسيط مؤخرًا صور مما يمكننا أن نسميه “جهاد الكيبورد (لوحة المفاتيح)”. إنها فرصة لأي شخص أن يمارس هويته من خلال خوض معارك وهمية في حرب مقدسة، جهاد وهمي ضد أعداء الدين الذين يمكن أن يجدهم في الفضاء الإلكتروني بسهولة أكبر كثيرًا من إمكانية ملاحظتهم في الشارع. الأهداف المفضلة لهجمات مجاهدي الكيبورد هن النساء أيضًا، وفي مقدمتهن الفنانات الأكثر شهرة، وهو ما يعكس في الواقع خليطًا من النوازع تتخطى فكرة الانتصار للدين وإن كانت هي العباءة الظاهرة لهذا السلوك العدائي في غالبيته العظمى. هذه النوازع يدخل فيها الذكورية إلى جانب قدر من الإثارة الجنسية مخلوطين بتعبيرات عن التفوق الديني. النسب المختلفة لهذه النوازع في الخليط تنعكس في الرسالة الموجهة، فهي قد تكون دعاءً بالهداية وقد تكون تمنيًا للأذى أو تكون سببًا مباشرًا أو تحرش لفظي صريح، ومن المثير للاهتمام أن أفرادًا من الجنسين يستخدمون أشكال التعبير هذه كلها وإن كان بنسب متفاوتة. الفئات الأخرى المستهدفة تشمل علماء ونشطاء حقوقيون أو أي شخص يعبر عن رأي يعتبره المجاهدون مخالفا لصحيح الدين، بما في ذلك شيوخ وعلماء دين بل والصفحات الرسمية لمؤسسات دينية مثل دار الإفتاء والأزهر، وهذه ظاهرة تستحق التوقف أمامها بصفة خاصة، فهي تطرح تساؤلات حول كيفية تشكل الخطاب الديني الشعبي في مواجهة خطاب ديني رسمي، ولا يكفي في إجابة هذه التساؤلات استخدام الاعتقاد في نمو نزعة شعبية نحو السلفية المتشددة، فكثير من الآراء الدينية المضادة التي يطرحها هؤلاء ليس لها سند سلفي. على أي حال ستكون نشأة وتطور والصفات المميزة لهذا الخطاب الديني الشعبي هي موضوعات المقال المقبل.