أصدرت النيابة العامة المصرية يوم 24 فبراير 2021 بيانًا تناشد فيه من لديه مقطع فيديو خاص بقضية الاغتصاب المعروفة بقضية فندق فيرمونت أن يسلمه لها، موضحة أن خوف المواطنين من الإدلاء بأقوالهم أو تقديم المقطع لجهات التحقيق يشير إلى “عدم إحاطة البعض بحقوقهم التي كفلها الدستور والقانون، بشأن ضمان سرية بيانات الشهود وحمايتهم“. وكانت النيابة قد أعلنت يوم 16 فبراير البدء في التحقيق “في واقعة نشر موقع إلكتروني أخبارًا حول تحقيقات “النيابة العامة” في قضية التعدي على فتاة بفندق (فيرمونت نايل سيتي)، حيث تم رصد قيام هذا الموقع بنشر “أخبارًا مسلسلة عن التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في الواقعة المشار إليها من شأنها التأثير في التحقيقات الجارية بالقضية، وفي الشهود الذين يُطلبون لأداء الشهادة فيها، والكشف عن بياناتهم المكفول سريتها بقوة القانون”. وكانت النيابة العامة قد أعلنت فتح التحقيقات في هذه القضية في أغسطس 2020.
بالطبع، أتمنى أن يقوم أي شخص لديه هذه المواد أن يقدمها لجهات التحقيق لتحقيق العدالة وعقاب الجناة. لكن الأمور لا تسير بالتمنيات وحدها. فقضية حماية الشهود والمبلغين وتشجيعهم على الإبلاغ ومساعدة مرفق العدالة على القيام بدوره مسألة مركبة وليست مسألة إجرائية أو معزولة عن السياق القانوني والسياسي العام.
بشكل عام، يخشى الناس التعامل مع مرفق العدالة بدء من الشرطة مرورًا بالنيابات وصولاً للمحاكم، وكثيرًا ما نسمع شخص يقول “ده أنا عمري ما رحت قسم وعمري ما دخلت محكمة” كدلالة على إنه شخص “كويس ومش بتاع مشاكل”. ولكن الإنسان قد يحتاج أن يذهب لقسم أو محكمة بالتحديد لأنه شخص “كويس” ويريد تحقيق العدالة أو لأنه تعرض لظلم ويريد الإنصاف.
ماذا يخيف الناس؟
خوف الناس من الإبلاغ عن جرائم حدثت لهم أو شهدوها تحدث لغيرهم من معطلات العدالة بشكل عام. وهناك ثلاثة مصادر أو أنواع مختلفة لهذا الخوف في تقديري هي:
أولاً- الخوف من انتقام الخصوم وخاصة في القضايا التي يكون فيها اختلال كبير في ميزان القوة بين الخصوم مثل قضايا الفساد أو التعذيب التي يُتهم فيها أصحاب سلطة ونفوذ أو الشكاوى ضد صاحب العمل من قبل العاملين لديه. وكذلك القضايا المتعلقة بالجريمة المنظمة التي يكون المتهمون فيها شديدي القوة وجزء من شبكة إجرامية ضخمة تستطيع أن تنتقم لهم حتى بعد إدانتهم. وكذلك حالات قضايا العنف الجنسي التي لا يكون فيها بالضرورة تفاوت كبير في القوة طبقيًا أو سياسيًا بين الشاكية والمتهم لكنه ينتقم منها أيضًا.
ثانيًا- الخوف من الوصم الاجتماعي وهنا لا يكون مصدر الخوف الخصم بالضرورة وإنما بالأساس معرفة الأسرة أو الجيران أو المجتمع بشكل عام بمعلومات عن القضية تسبب المشاكل للمجني عليه أو الشاهد. ويمكن أن يقوم بالتسريب المتهم أو أنصاره بغرض التشهير بالشاكي أو الشهود. أو يقوم به أشخاص مثل العاملين بالشرطة أو الأجهزة القضائية بهدف الكسب المالي أو وسائل إعلامية بغرض زيادة نسبة مشاهدتها.
ثالثًا- الخوف من التورط في قضايا أخرى بمعنى أن يتوجه الشخص لجهات العدالة كشاهد أو كمبلغ عن واقعة حدثت له أو لغيره فيحدث أن يُتهم أثناء التحقيق -بناءً على ما قاله أو ما قاله الخصوم- بتهم لها علاقة بالقضية الأصلية أم لا وسواء ارتكبها فعلاً أو لا.
حالات
هناك عدة قضايا طرحت على الرأي العام في السنوات الأخيرة، ومثلت نماذج لتلك الأنواع من المخاوف. تحت النوع الأول (الخوف من انتقام الخصوم) لا نجد فقط مخاوف من انتقام رجال السلطة أو العصابات النافذين كما نرى في أفلام المافيا، بل يندرج تحته ما حدث لشابة مصرية عرفت إعلاميًا بـ”فتاة المول” حيث اتهمت رجلاً بالتحرش بها والاعتداء عليها بالضرب، وتمت معاقبته بالحبس أسبوعين. لكن بعد خروجه من السجن انتقم منها واعتدى عليها بسلاح أبيض. وهو الخطر الذي يتهدد الشاكيات حين يبلغن عن حوادث العنف الجنسي التي تقع في الطريق العام من غرباء، حيث يحصل المتهم على صورة من المحضر تتضمن بياناتها، فيستطيع الوصول لمسكنها وتهديدها. والنوع الثاني (الخوف من الوصم الاجتماعي) فينطبق على حالات متنوعة منها الخوف من تسريب بيانات الناجيات من العنف الجنسي لوسائل الإعلام، ومنها الخوف من أن تكشف ملابسات القضية عن وجود المبلغ أو الشاهد في أماكن أو سياقات لا يريد نشرها على نطاق واسع (مثل شرب الكحوليات أو التواجد في ملهي ليلي أو وجود علاقة غير رسمية بين رجل وامراة إلخ).
مسألة وضع ضمانات خاصة أو أشكال خاصة من الحماية للشهود والمبلغين تعتبر توجهًا قانونيًا حديث نسبيًا ورغم أهميتها الشديدة فعادة ما يُطرح تخوف مشروع عند الحديث عنها وهو احتمالية تعارضها مع ضمانات المحاكمة العادلة
النوع الثالث من المخاوف (الخوف من التورط في قضايا أخرى) هو الأعقد والأخطر في رأيي، حيث يتعلق بشكل مباشر بالثقة بين المواطن ومرفق العدالة. مثال تبسيطي جدًا لذلك هو أن يشاهد شخص ما حادثة قتل أثناء قيادته لسيارته عكس السير فيذهب للإبلاغ، فتفتح جهات التحقيق تحقيقًا في حادثة القتل وفي نفس الوقت توجه له الاتهام بمخالفة مرورية (القيادة عكس اتجاه السير).
هنا الخوف من هذه التهمة على بساطتها قد يثبط الشخص عن الإبلاغ عما رآه. هذا مثال افتراضي بالطبع لكن الحالات الواقعية أعقد كثيرا. ومنها:
– حالة الشهود على مقتل شيماء الصباغ في 24 يناير 2015 على أيدي ضابط أطلق عليها طلقات الخرطوش أثناء توجهها لوضع إكليل من الورود مع زملائها بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي، حيث تم اتهام هؤلاء الشهود بالتظاهر بدون إخطار حتى من لم يكونوا مشاركين في الفاعلية معها أصلاً، لكنهم شهدوا الواقعة مثل المحامية عزة سليمان التي كانت تتناول الطعام في مطعم مواجه لمكان الواقعة، وتقدمت بنفسها للشهادة، و”الأستاذ مصطفى عبد العال والطبيب ماهر شاكر” اللذين “حاولا إنقاذ وإسعاف شيماء وقد تم القبض عليهما وأدليا بشهادتهما و تحولا أيضًا إلى متهمين”. وقد حصل الثلاثة بالإضافة إلى 14 من زملاء شيماء بالحزب على البراءة بعد إحالتهم للمحاكمة.
– حالة الفتاة المعروفة إعلاميا بمنة والفتى المعروف بكلاشينكوف، حيث قامت الفتاة بعمل فيديو على الانترنت تستغيث فيه من قيام مجموعة من الشباب بالاعتداء عليها، وسمعت جهات التحقيق أقوالها كمجني عليها. وبالفعل وجهت الاتهامات للمعتدين وتم حبسهم وإحالتهم للمحاكمة، لكن وجهت لها هي الأخرى “عدَّة تهم ضمنها التهمة الغامضة المعروفة بـ”التعدي على قيم الأسرة المصرية”. وبقت متهمة لمدة 114 يومًا رهن الحبس الاحتياطي لفترة ورهن الإيداع الإلزامي بأحد دور استضافة المعنفات التابعة لوزارة التضامن. وكذلك الفتى المذكور الذي تضامن معها وشهد ضد المعتدين تم توجيه عدة اتهامات له مثل “تعاطي المخدِّرات، وكسر حظر التجوال، والتعدي على قيم الأسرة المصرية” تمت تبرأته من واحدة منها على الأقل. لكن صدر ضده حكم ابتدائي بالحبس سنة من محكمة الطفل بتهمة تعاطي المخدرات. وقد تم إخلاء سبيل الفتاة وسقوط التهم عنها في 14 سبتمبر 2020 وهو ما لاقى ترحيب الكثير من المدافعين عن حقوق النساء والأطفال، لكنني لم أستطع تبين مصير الفتى وإن كان ما زال محبوسًا أم لا.
– حالة قضية الاغتصاب المذكورة سابقًا المعروفة بقضية الفيرمونت، والتي بدأ طرحها على الرأي العام بمنشور لموقع نسوي مجهل يدعم ضحايا العنف الجنسي في صيف 2020. اضطر الموقع للإغلاق بعد تهديدات بالقتل للقائمين عليه. لكن انتشر الحديث عن القضية وازدادت المناشدات للمجلس القومي للمرأة وأجهزة الدولة كافة بالتدخل، وبالفعل تم تقديم بلاغ رسمي في 4 أغسطس 2020 عن طريق “كتاب من المجلس القومي للمرأة للنيابة العامة مرفقًا به شكوى قدمتها إحدى الفتيات إلى المجلس من تعدي بعض الأشخاص عليها جنسيًّا خلال عام 2014 داخل “فندق فيرمونت نايل سيتي” بالقاهرة، ومرفق بشكواها شهادات مقدمة من البعض”. لكن عدد من الشهود تم اتهامهم باتهامات تتعلق بسلوكياتهم وحبسهم لفترات قبل أن يتم إخلاء سبيلهم على ذمة القضايا في يناير 2021.
لم تعلن النيابة العامة ماهية هذه الاتهامات لكن وفقًا لبعض المصادر الصحفية هي تتعلق بأمور مثل “التحريض على الفسق والفجور، وتعاطي مواد مخدرة، وتشويه سمعة مصر“. وقد كانت البيانات الصادرة عن النيابة العامة لا تبين بوضوح الاختلاف بين المتهمين والشهود أو طبيعة التهم الموجهة لكل منهم حتى أن تعليقات المواطنين على صفحة النيابة العامة المصرية على “فيسبوك” أوضحت وجود ارتباك لدى المواطنين وخلط بين الشهود والمتهمين بالاغتصاب.
تتمثل في حالة قضية الفيرمونت الأنواع الثلاثة من المخاوف والمخاطر التي قد يتعرض لها الشهود والمبلغين بالإضافة لاتهام وحبس الشهود، حدثت بالفعل تهديدات بالانتقام وتسريب لبيانات بل و”صورًا شخصية ادَّعى ناشروها أنها خاصة بالشهود إحدى المجني عليها بالقضية وأن مصدرها هو هواتفهم الشخصية والتي تعد من أحراز التحقيقات” حتى أصبحت كابوسًا لدى الكثير من الشابات اللاتي يحذرن بعضهن من الإبلاغ لكي لا تقع لهم سيناريوهات شبيهة.
– حالة القضية المعروفة إعلاميًا بالطالب المغتصب أو مغتصب الجامعة الأمريكية التي هزت الرأي العام نظرًا لكثرة عدد المجني عليهن وإحجامهن لسنوات عن الإبلاغ. وقد بدأ طرحها عن طريق منشورات مجهلة على الإنترنت أيضًا في صيف 2020 وانتهت إلى المحاكمة في عدة تهم صدر في واحدة منها بالفعل حكم بالسجن ثلاث سنوات على المتهم أحمد بسام زكي في ديسمبر 2020 وما زالت باقي الدعاوى منظورة.
حدث في هذه القضية تشجيع للناجيات والشهود من قبل النيابة العامة والمجلس القومي للمرأة. وتعتبر من وجهة نظري حالة نجاح، فقد حدث فيها تكامل بين الجهود الشعبية على مواقع الاجتماعي والحركة الحقوقية والنسوية وأجهزة الدولة الرسمية، ولا يبدو أن إيذاء أو ضرر وقع خلال التحقيقات فيها على أي من الشهود أو المبلغين. بالتأكيد هناك أبعاد طبقية وأخرى عملية يسرت نجاح الجهود في هذه القضية، لكنها تبقى حالة نجاح تمنحنا بعض الأمل في أن الأشياء السعيدة تحدث أحيانًا.
أسس دستورية
مسألة وضع ضمانات خاصة أو أشكال خاصة من الحماية للشهود والمبلغين تعتبر توجهًا قانونيًا حديث نسبيًا. ورغم أهميتها الشديدة فعادة ما يُطرح تخوف مشروع عند الحديث عنها وهو احتمالية تعارضها مع ضمانات المحاكمة العادلة، والتي تتضمن مثلاً حق المتهم في “أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره” (المادة 14فقرة هـ من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية) أو تعارضها مع مبادئ حرية تداول المعلومات وعلانية المحاكمات والأحكام. وهذا التعارض الظاهري في حقيقته تعبير عن تعقد الواقع الذي تتداخل فيه الحقوق وتتنوع المصالح والذي يمكن الاستجابة له بوسائل مختلفة تشريعية وتكنولوجية.
أهم المواثيق الدولية التي تضع أساسا قانونيا لهذه المسألة اتفاقية مكافحة الفساد الصادرة عن الأمم المتحدة في 2003 والتي وقعت عليها مصر في 2003 وصدقت عليها في 2005. كذلك، عرفت مصر بعد ثورة يناير 2011 تأسيسًا دستوريًا لحماية الشهود والمبلغين سواء في دستور 2012 أو في دستور 2014 في المادة 96 (توفر الدولة الحماية للمجني عليهم والشهود والمتهمين والمبلغين عند الاقتضاء)، الذي أقر أيضًا بالحق في تداول المعلومات في المادة 68. إلا أن محاولات إصدار القوانين التي من شأنها تطبيق هذه المواد الدستورية لم تنجح حتى الآن.
جهود ومقترحات للتطوير
طُرحت عدة مشروعات ومقترحات لتطوير البنية التشريعية لحماية الشهود والمبلغين سواء بشكل عام أو في أنواع معينة من القضايا، وذلك اتساقًا مع التزامات مصر الدستورية والدولية لاسيما اتفاقية مكافحة الفساد. بعضها عملت عليه أجهزة الدولة نفسها مثل مشروع قانون حماية الشهود والمبلغين والخبراء الذي بدأ نقاشه في مجلس الشورى ذي الأغلبية الإسلامية في 2013 قبل حله، والذي وصفته بعض المنظمات الحقوقية وقتئذ بأنه مقتضب و”لا يمثل الحد الأدنى المطلوب“، ومثل المشروعات التي طرحت من قبل الحكومة وبعض البرلمانيين بعد صدور دستور 2014 إلا أنها اتسمت بنفس العيوب تقريبا التي كانت في المشروع السابق تقديمه إبان حكم الإخوان المسلمين.
لا يعقل أن المتهم من حقوقه “ألا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب” (م 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية)، ولا يجد المجني عليه الذي تعرض لاعتداء أو الشاهد الذي يذهب ليساعد العدالة ضمانات تحميه من أن يتحول هو نفسه لمتهم
هذه المشروعات اختفت في الأدراج ولم تصدر على أي حال، مثلما اختفت في الأدراج قوانين أخرى مثل العدالة الانتقالية ومفوضية مكافحة التمييز وتنمية وإعادة توطين النوبة ومكافحة العنف ضد المرأة. لكن جهود الحركة الديمقراطية المصرية لا تتوقف عن الضغط من أجل إصدار هذه التشريعات اللازمة لحماية حقوق المواطنين الدستورية.
فبعد تصاعد المطالبات الشعبية على خلفية قضايا من المذكورة سابقًا (مثل أحمد بسام والفيرمونت) أقرت السلطات تعديلاً تشريعيًا محدودًا في أغسطس 2020 بخصوص حماية بيانات المجني عليهم في جرائم العنف الجنسي خاصة. ورغم محدودية آثار هذا التعديل فإنه يعتبر محاولة للتعامل مع النوع الثاني من المخاطر المذكور سابقًا التي تعيق الإبلاغ في هذه القضايا.
طُرح مؤخرًا مشروع قانون هام قدمته مؤسسة قضايا المرأة المصرية بدأت المؤسسة العمل عليه في ضوء تجربة رئيسة مجلس أمناء المؤسسة (عزة سليمان) كإحدى الشهود في قضية مقتل شيماء الصباغ المشار إليها سابقًا. هذا المشروع يسعى للتعامل من النوعين الأول والثاني من المخاطر المذكورة أعلاه عن طريق استحداث منظومة لحماية الشهود والمبلغين والخبراء يمكن للشخص الذي سيتقدم بشهادته أو ببلاغ أن يطلب منها منحه الحماية وفقا لعدة آليات منصوص عليها منها اخفاء البيانات في سجل خاص وتحديد رقم هاتف مخصوص للتواصل بين المشمول بالحماية واللجنة وعرض الشهادة بوسائل إلكترونية تتيح إخفاء الملامح ووضع الحراسة على المسكن وتأمين حضور الجلسات وغيرها. بالإضافة لعدد من الدراسات القيمة التي قدمتها مؤسسات أخرى سابقًا. كذلك تقدمت منذ 2017 مجموعة من المنظمات النسوية بمشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء يتضمن آليات هامة لحماية الشهود والمبلغين وتشجيعهم على اللجوء للعدالة ومناسبة بشكل خاص لقضايا العنف على أساس النوع والعنف الأسري، وما زالت المطالبات بإصداره قائمة حتى الآن بدون استجابة.
كافة هذه المشروعات والمقترحات تحتاج للدراسة والاستفادة المتبادلة لتطوير الأساس القانوني والمؤسسي لحماية الشهود والمبلغين والخبراء أيضًا في مصر، وخاصة بالنسبة للنوعين الأول والثاني من المخاوف. أما النوع الثالث من المخاوف الذي قد يمنع الشهود والمبلغين من اللجوء للعدالة أو مساعدتها فالتغلب عليه أمر أصعب وأكثر تعقيدًا من الناحية القانونية والإجرائية، حيث لا يتصور وجود تشريع يعيق النيابة العامة عن توجيه الاتهام لأي شخص نما إلى علمها قيامه بمخالفة أو جريمة في معرض تحقيقها في جريمة أخرى. لكن وفقًا للقانون المصري النيابة العامة باعتبارها محامي الشعب وممثلة المجتمع لها سلطات واسعة في تقدير خطورة المخالفات، واتخاذ قرار بشأن تحريك الدعوى الجنائية لا سيما في “الجرائم التي لا تنطوي على خطورة إجرامية والتي تعد مخالفات أو جنحًا، ولا يترتب عليها ضرر بالغ بالنسبة إلى الأشخاص أو الأموال“.
وبالمنطق البسيط، لا يعقل أن المتهم من حقوقه “ألا يكره على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب” (م 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية)، ولا يجد المجني عليه الذي تعرض لاعتداء أو الشاهد الذي يذهب ليساعد العدالة ضمانات تحميه من أن يتحول هو نفسه لمتهم خاصة في مخالفات بسيطة.
أخيرًا
إن قضية حماية الشهود والمبلغين وتشجيع المواطنين على معاونة مرفق العدالة ليست مجرد قضية إجرائية تقنية فحسب، وإنما هي قضية ديمقراطية في المقام الأول تتعلق بوجود إرادة سياسية حقيقية لتوفير ضمانات للمواطنين كبشر من لحم ودم سلامتهم ومصالحهم غالية وليست منفصلة عن سير العدالة المجرد عن مصالحهم أو الهادف للتعامل معهم بشكل أبوي وتربوي. وهذه المقترحات الكثيرة المقدمة وخبرات الدول الأخرى سواء في الجنوب أو الشمال متوفرة للإطلاع والاستفادة لو توفرت إرادة سياسية حقيقية لتطوير مرفق العدالة.